العدالة المزاجية
يُحْكى في باب الطرائف، أن تاجراً غير مستقيم، كان منشغلاً بترتيب خدعة جديدة في مجال عمله، فاجأه طفله ذو السنوات الثماني بسؤال في جدول الضرب قائلاً: "يا أبي كم حصيلة 8 مضروبة بـ 9؟ فقال الأب المنهمك في خطته السيئة: هي لنا أم علينا؟!". فالرجل اللعوب يتلاعب حتى بجدول الضرب الذي لا يعرف المحاباة، بحسب مصلحته الخاصة.
يُحْكى في باب الطرائف، أن تاجراً غير مستقيم، كان منشغلاً بترتيب خدعة جديدة في مجال عمله، فاجأه طفله ذو السنوات الثماني بسؤال في جدول الضرب قائلاً: "يا أبي كم حصيلة 8 مضروبة بـ 9؟ فقال الأب المنهمك في خطته السيئة: هي لنا أم علينا؟!". فالرجل اللعوب يتلاعب حتى بجدول الضرب الذي لا يعرف المحاباة، بحسب مصلحته الخاصة.
غير أن تاجر الطرفة الافتراضي يغدو "ابن حلال" كما تقول العامة، إذا وَسّعنا الفرجار إلى المستوى الدولي، لنلقي القبض على التاجر المحتال من العيار الثقيل، متلبساً بجرائم التجارة بالعدالة والتلاعب بالقيم، فهو يمارس بهلوانياته الضخمة بما يناسب حجمه الأخطبوطي وتاريخه الأسود.
فبعد سنوات من الانتظار الكئيب أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قراراً برفض الطلب الفلسطيني أن تتولى محاكمة هذه المحكمة التحقيق في الموبقات الوحشية التي اقترفها جيش الاحتلال أواخرعام 2008م، ومطلع عام 2009، في حق المدنيين العزل في قطاع غزة.
بالطبع.. لن نتوقف أمام العدالة السلحفائية التي تبدد نحو ثلاث سنوات مضنية للشعب الفلسطيني، لكي تقررعدم صلاحيتها لمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة، وسوف نتناسى استمرار الانتهاكات اليهودية اليومية لأبجديات حقوق البشر في سائر الأراضي المحتلة أو المحاصرة، فكيف لو أرادت المحكمة الدولية أن تنظر في القضية؟ لعلها كانت ستستغرق عشرين سنة أو خمسين فـ(العَجَلَةُ من الشيطان)!
فالمهزلة الأشد تهريجاً من القرار هي مهزلة السبب الذي تعلل به المدعي العام بالمحكمة المذكورة، لتبرير موقفه الذي يستحيل تبريره، إذ زعم مكتب أوكامبو: "أن المحكمة تختص في معالجة القضايا التي ترفعها دول ذات سيادة وتتمتع بالعضوية الكاملة في الأمم المتحدة"!
أجل! فتاجر العدالة الأممية الكبير يبلغ الغافلين والحمقى في ديار العرب والمسلمين، أن دماء الفلسطينيين مهدورة أمس واليوم وغداً، وذَنْبُهم الأوحد هو عضويتهم الناقصة في هيئة ظلمتهم منذ قيامها، وما زالت تظلمهم حتى اليوم، وإلا فما الذي يمنعها من منح فلسطين عضوية كاملة؟ أليس لأن اليهود الذين سلبوا الشعب الفلسطيني أرضه وشردوه منها هم الخصم والحَكَم..
أليست الأمم المتحدة الجائرة هي التي ساندت بالقوة فصل إقليم (تيمور الشرقية) عن إندونيسيا لأن المتمردين نصارى والبلد الذي سلخوها عنه بلد مسلم؟ ألم تكن المنظمة شريكاً للمجرمين الصرب في نحر المسلمين البوشناق، ثم عقبة صلبة أمام قيام دولة مستقلة تخصهم؟
فإذا كانت مصالح الغرب وأهواؤه مع فئة فإن الأمم المتحدة تصبح أسداً هصوراً، لها أنياب ومخالب، أما إذا تعارضت قضية شعب مع رؤى الغرب ومزاجه فإن المنظمة الأممية تصبح حائط مبكى يتيح للمظلوم لطم الخدود وشق الجيوب، ولكن بحدود الأدب وعدم إزعاج السادة المتسلطين على المنظمة.
أوليس من الجور الجلي أن يرتبط عمل محكمة جنائية دولية بموافقة مسبقة من مجلس الأمن الدولي، الذي يتحكم فيه مزاج الدول الخمس دائمة العضوية، فكل دولة منها تستطيع إجهاض العدالة باستخدامها حق النقض -الفيتو-؟ والأشد إثارة للدهشة: أن هذه الدول ليست أعضاء في المحكمة، ولا تلتزم بقراراتها، ولا ترتضي تسليم مواطنيها لكي تجري مقاضاتهم أمامها..!
وبعبارة أكثر صراحة: فإن الذين يرفضون المحكمة جملة وتفصيلاً: هم الذين يحددون لها الدول والجماعات والأشخاص الذين تلاحقهم، ولذلك تتم مطاردة الرئيس السوداني (عمر البشير) الذي يواجه حركات انفصالية مسلحة لا تخفي هوياتها ولا تتكتم على كونها عسكرية واضحة، فليس للبشير من يفزع له من سَدَنَةِ الظلم الخمسة، في حين يفتك بشار الأسد بمواطنيه العزل المسالمين صباح مساء، منذ ثلاثة عشر شهراً، ولا يصدر عن مجلس الأمن قرار بشأن جرائمه الوحشية غير المسبوقة، ولو كان قرار إدانة لفظية لا تحظى لدى قاتل محترف بأدنى اكتراث..!
وشاهد آخر يأتينا من المجرم (عبد الله السنوسي) الذراع الدموي للهالك القذافي، فقد ألقي القبض عليه في موريتانيا وطالبت حكومة الثورة الليبية بتسليمه لها لكي يُحَاكم على جرائمه الكبيرة والكثيرة في حق الشعب الليبي، لكن فرنسا دخلت على الخط في شغب مفضوح بذريعة اتهامه بتفجير طائرة مدنية فرنسية، فالضحايا الفرنسيون بعددهم الضئيل أهم من ألوف الليبيين الذين قتلهم السنوسي، والذين عذّبهم ونكل بهم، والذين شردهم من ديارهم..!
وفي خطوة متناغمة مع الاستعلاء الفرنسي، سارعت المحكمة الجنائية الدولية للمطالبة بتسلم السنوسي، بالرغم من أن موريتانيا ليست من الدول المُوَقّعة على اتفاق المحكمة، فهنا تسقط القوانين ويصبح الممنوع متاحاً وربما واجباً.
إن القراءة الموضوعية للمسرح العالَمي في ظل السيطرة الغربية المنافقة على مقدراته، تنتهي بالضرورة إلى أن الحق الأعزل -أي: الذي ليس له قوة تسانده- لا يحترمه سوى الضعفاء وقلة من ذوي الضمائر، لا حول لهم ولا تأثير.
وكل ما عدا ذلك ليس سوى خداع ذاتي يصدقه الساذجون ويروج له الدجالون.
- التصنيف:
- المصدر: