فِدَاكَ نفسي يا رسولَ الله
لا يسعنا إلا أن نُشهِرها مُزلزِلَةً في وجوه الذين اسودّت قلوبهم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر}.. نعم، إنها قول صافع لحقٍ وقَدَر، نرميه في وجوه الذين ظلموا وبغوا: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر}.
الإنسان في نهج الإسلام حرّ في اختياره، ومسؤول عن هذا الاختيار، والإسلام لم ينتشر بالعنف ولم يُجبِر الناسَ على اعتناقه إجباراً، وإنما كان دائماً يدعو إلى تحقيق عزّة المسلم، وإلى امتلاك القوة الكفيلة بحماية المسلمين وأوطانهم وثرواتهم وأعراضهم ودمائهم، من اعتداءات الآخرين..، وحين كان طواغيت الأرض يَـحولون بين الناس والإسلام العادل المحرِّر لهم..، قام المسلمون بتحرير الناس من عبودية بعضهم بعضاً، إلى عبادة الله عزّ وجلّ الواحد الأحد، فقد كان الإسلام -وما يزال- محرِّراً للبشر، بعقولهم وأرواحهم وكينونتهم وإنسانيّتهم وكرامتهم.. وهل كانت (العُهْدة العُمَرية) أو وثيقة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بمنح الأمان لنصارى بيت المقدس، وباحترام كرامتهم الإنسانية ودينهم وعقيدتهم النصرانية التي اختاروها لأنفسهم..
هل كانت إلا ضمن هذا السياق الإسلاميّ، الذي يمثّل تنفيذ أرقى ما يمكن من العلاقات الإنسانية بين البشر؟!.. وهل كان نهج الرسول الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» [رواه البيهقي]، الذي اتّبعه مع مَن طردوه وطاردوه وحاصروه وعذّبوا أصحابَه وقتلوا أعز الناس إلى قلبه ونفسه.. هل كانت إلا ترجمةً حيّةً لأسطع الأدلّة على سماحة الإسلام، وعلى رُقيّ الأخلاق التي يدعو إليها، لتحقيق كرامة الإنسان في أفضل حالاتها؟!.. وهل دخل الناس في دين الإسلام أفواجاً إلا باختيارهم الكامل، بعد أن ظهر الحق وزهق الباطل، وتبيّن للناس النورُ من الظلام؟!..
لقد حمل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلّم رسالته إلى البشرية، على قاعدةٍ ربانيةٍ خلاّقةٍ كريمة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..} [البقرة: من الآية256]، ثم أسّس دعوته العظيمة على قاعدة:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ . لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:21 -22]، فانتشر دين الله عزّ وجلّ على القاعدة الربّانية الخالدة: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}؟!.. [يونس:99].
يقول الدكتور غرونييه: "إني تتبّعت كل الآيات القرآنية ذات الارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية.. فوجدتُ هذه الآيات منطبقةً كل الانطباق على معارفنا الحديثة.. فأعلنتُ إسلامي، لأنني تيقّنت أنّ محمداً عليه الصلاة والسلام قد أتى بالحق الأبلج.. ولو أنّ كلَّ صاحب علمٍ من العلوم قارن جيداً كلَّ الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلّمه، كما فعلتُ أنا.. لأسلم بلا شك، إن كان عاقلاً خالياً من الأغراض"!.. [من كتاب: محمد رسول الله، للكاتب آتين دينييه].
الدكتور (غرونييه) نائب في البرلمان الفرنسيّ، اعتنق الإسلام لسببٍ واحدٍ فحسب، هو أنه وجد في هذا الدِّين العظيم أساساً لكل العلوم الحديثة، وأنّ القرآن العظيم الذي نزل من عند الله سبحانه وتعالى منذ أكثر من أربعة عشر قرناً مضت.. فيه من المنهج العلميّ، ما يجعله مرشداً واسعاً، لكل صاحب عقلٍ علميٍ يبتغي الوصول إلى حقائق المعرفة والعلم، ولكل مَن ينهج نهج العلم المحض -لا الجهالة والجهل- والتفكير العلميّ السليم!..
لقد قام الإسلام على الإيمان الحرّ المطلق، ودعا إلى اعتناق عقيدته بالحجة والبرهان، وأثار عند الإنسان مَلَكَةَ التفكير، واستحثّ عقلَه ليصل إلى اليقين الكامل إيماناً والتزاماً وثباتاً، وعملاً خالصاً لوجه الخالق عزّ وجلّ، ولتحرير الإنسانية من الشقاء والعذاب، وذلك بتنفيذ منهج الله سبحانه وتعالى الحكيم الرحمن الرحيم العليم: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..} [يونس:101]، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..}!.. [العنكبوت:20].. وحين يزداد الإنسان علماً وقدرةً على استخدام طاقاته العقلية.. فإنه سيكون أقرب ما يكون إلى الإيمان بعقيدة الإسلام: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثـية:13]، نعم، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}!..
{.. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}؟!.. [الأنعام: من الآية50]..
على هذه القاعدة الربانية اعتنق ملايينُ البشر في العصر الحديث الإسلامَ الذي حمله نبيّ الرحمة محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لهم من وسيلةٍ للوصول إليه إلا التفكير، وانطلاق العقل من عقاله، وانطلاقة العلم في إشعاعات عقلٍ سليمٍ مُعَافى من الجهل والحقد واللؤم.. وعلى هذا الأساس أسلم آلاف المفكرين والسياسيين والعلماء والمتنوِّرين والمثقّفين الغربيين، من أمثال:
(روجيه جارودي)، الذي اكتشف عظمة الإسلام من خلال "كشف زيف الحضارة الغربية والأميركية القائمة على العنف والقتل واستباحة الشعوب"، كما يقول.
وكذلك البروفيسور الهندي عز الدين أو (ناشكانتا)، الذي وجد "أنّ الإسلام يتناغم منسجماً مع الحكمة والعقل"..
والمبشِّرة النصرانية الأصل (فيلما وليم) التي أسلمت فور سماعها [سورة مريم] واكتشافها من خلال ذلك "عظمة الإسلام ورقيّه الأخلاقي وشموله كلَ الخير للبشرية"، فتحوّلت من مبشِّرةٍ نصرانية إلى داعيةٍ إسلامية..
والمحامي الإيطالي (روزايو باسكويني)، الذي اعتنق الإسلام "بعد دراساتٍ معمّقة وبحثٍ عميقٍ عن الحقيقة"..
والبروفيسور الأميركي (ريكيفول)، الذي "انبهر بسماحة الإسلام ومنطقه العلميّ الدقيق وبساطته وعقلانيته وتوازنه وحَثّه على الرقيّ الحضاريّ والثقافيّ).
ومدير مكتب البابا بولس السادس (الكونت دو)، الذي أعمل عقله فاكتشف أنه "من المستحيل أن يكون يسوع ابن الله" أو "أن تكون مريم العذراء والدة الله"!.. كما اكتشف "أنّ الإسلام يحترم النصرانية واليهودية ويُجِلّ أنبياءهما لأنهما دينان سماويان. " [مجلة نور الإسلام].
في ديمقراطيّتهم، في القرن الحادي والعشرين، وفي أرقى بلاد تمدّنهم.. من الممكن أن يُقرِّرَ العامّةُ مصيرَ فضيلةٍ أخلاقية، أو مصيرَ خطيئةٍ اجتماعية، أو آلية استخدامٍ عدوانٍ فاضحٍ على أديان البشر وعقائدهم، فكل ذلك مجرّد (حرّية رأيٍ وتعبير)، حسب النسخة الحديثة من الجهل والجهالة المستفزّة.. وذلك طالما أنّ قاعدة مَفهمهم للحرية هي: كلّ أمرٍ يقرّره البشر، حتى لو كان هؤلاء خصوماً أو أعداء أو جهلةً أو حاقدين!..
بينما في نظامنا الشوريّ الإسلاميّ، الـمُقَرِّ منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، فلا مجال للاجتهاد في موضع نصٍّ شرعيٍّ قطعيٍّ.. وهذه هي الضمانة الأكيدة، لتحقيق العدل والقسط بين الناس، ولعدم الوقوع في هاوية الهوى البشريّ، الذي يَجُرّ –بانفلاته- إلى الأذى والظلم والقهر والاضطهاد والعدوان والحروب بين أتباع الأديان!..
لذلك، فنظامنا الشوريّ الإسلاميّ، يحترم إنسانية الإنسان، ويمنعه -بل يحميه- من ارتكاب كل ما يُلحِقُ الأذى والضرر الماديّ والمعنويّ، بنفسه أو بغيره من بني البشر!.. وعلى هذا، فلا اجتهاد -مثلاً- في تحريم الزنا أو الخمر أو الظلم والعدوان والاستبداد!.. ولهذا كانت -وما تزال- (جَوْهرة) الفاروق عمر بن الخطّاب رضوان الله عليه تُدَوِّي في فضاءات الأرض، حين دخل القدس فاتحاً، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً: ".. أنه لا تُسكَن كنائسُهم ولا تُهدَم، ولا يُنتقَصُ منها ولا من حَيِّزِها، ولا من صَليبهم، ولا من شيءٍ من أموالهم، ولا يُكْرَهون على دِينهم، ولا يُضارّ أحدٌ منهم.."، "..إنّهم آمِنون على دمائهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم، لا تُهدَم ولا تُسكَن.."!..
وهذا هو الصِّدّيق أبو بكرٍ رضوان الله عليه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يُلزِمُ بها جنودَه، مع أنهم في حالة معركةٍ مع عدوّهم: ".. وسوف تَمُرُّونَ على قومٍ فَرَغوا أنفسَهم في الصوامع -أي أماكن العبادة والصلوات-، فَدَعُوهم وما فَرَغوا أنفسَهم له"!..
إزاء ذلك، لعلّنا نتساءل تساؤلاً مشروعاً: مَن الذي يملك رؤيةً إنسانيةً راقيةً لتكريم الإنسان واحترام حقوقه وحريّته: أأصحاب (ديمقراطية) القرن الحادي والعشرين، الذين يعتبرون العدوان على عقائد الناس مجرّد حرية رأيٍ يحق لهم ممارستها حتى لو قلبت هذه الحريةُ المزعومةُ عاليها سافلها؟!.. أم أصحاب المشروع الإسلاميّ من أتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلّم، الذين بشّروا به منذ ألفٍ وأربع مئةٍ وثلاثةٍ وثلاثين عاماً: لا حرية في امتهان عقائد الناس وأديانهم؟!..
عندما تعرّض سيد خلق الله عزّ وجل، رسولنا محمد صلى الله عليه وسلّم للأذى والظلم، كان دعاؤه الخالد يطرق أبواب السماء: «اللهم إليك أشكو ضَعفَ قوّتي، وقلّةَ حيلتي، وهواني على الناس.. يا أرحم الراحمين، أنتَ ربُّ المستضعَفين وأنتَ ربي.. لكَ العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بك»!.. لكنه، مع كل ما اعتراه من ظلمٍ وأذىً وألمٍ وحزن.. فقد رفض أن يُطبَقَ على قومه الأخشبان، انتقاماً أو حقداً أو انتصاراً للنفس.. بل قابل الإساءة البالغة والأذى الشديد، بروح المؤمن الطاهر، وقلب الرجل الكبير، وصدر صاحب الرسالة الواسع: «بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابهم مَن يَعْبُدُ اللهَ وحدَهُ ولا يُشرِك به شيئاً» [متفق عليه].
إنها صورةٌ حيّة مُشرِّفة، من صور أخلاق نبيّنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم -الذي يهاجمه جاهليّو القرن الحادي والعشرين- تنضح بالرحمة والتسامح والسموّ ومكارم الأخلاق.. نقدّمها إلى أولئكَ المتمرِّدين على القِيَم الإنسانية النبيلة، الذين لا يحرّكهم إلا الحقد والكيد واللؤم.. على ديننا الحنيف، وعلى رسولنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعلى مُثُلِ الرسالة التي بلّغها أعظم رجلٍ وأطهر نبيّ، لتحرير تلكم النفوس الجاهلة التي تنفث أحقادها الدفينة اليوم.. وللارتقاء بها إلى أكرم الدرجات الإنسانية الحقيقية.. فهو الرسول العظيم الكريم الذي دانت لسماحته ورحمته الدنيا، حين فتح مغاليق القلوب، قبل أن يفتحَ القلاع والحصون في مشارق الأرض ومغاربها.. وشتّان ما بين مَن امتلكَ روح الحضارة قلباً نابضاً بمعنى الحياة، ومَن امتلك جسدها الجامد كجمود قلبه وعقله.. فالأول إلى خلودٍ ورسوخ، بأصله الثابت وفَرعه الذي يعانق السماء.. والثاني إلى زوالٍ واجتثاثٍ أكيدٍ مَالَهُ من قَرار!..
صلوات الله وسلامه عليك يا حبيبنا يا رسول الله.. قالوا عنك بالأمس: مجنون، فدفع الله عزّ وجلّ عنك افتراءهم بالقول القاطع: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22].. وقالوا عنك: شاعر، فتصدّى لهم إله السماوات والأرضين جلّ جلاله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:41]. وهاهم اليوم يقولون.. ويفترون.. وينفثون ما بأجوافهم من مكاره، لكنّ كلمات العزيز الجبّار كانت، بالأمس واليوم، قاطعةً مجلجلة: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر}.. فقد دوّت من فوق سبع سماوات، لتعلنَ البشرى لأشرف خَلْقِ الله عزّ وجلّ.. وتؤكِّد النذير والتحذير، لِـمُبغضيه، وللحاقدين عليه وعلى دينه وقومه.. فهي حروف من نارٍ ونور، نزلت في المتطاولين المتكبِّرين، وتوعّدت كلَّ معتدٍ أثيم، وهي كذلك، وَعْدٌ ووعيد، لكل مُفْتَرٍ يشوِّه الحقيقة، ليُثبتَ باطلَه، فاشتطّ واعتدى، وتجاوز الأصولَ البشرية للتعامل بين الناس والمجتمعات والأمم والشعوب.
لا يسعنا إلا أن نُشهِرها مُزلزِلَةً في وجوه الذين اسودّت قلوبهم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر}.. نعم، إنها قول صافع لحقٍ وقَدَر، نرميه في وجوه الذين ظلموا وبغوا: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر}.
د. محمد بسام يوسف