رحلة إلى الجحيم: في قلب سجون المخابرات السورية..

منذ 2012-10-07

لا تمتلك سوريا قيمة اقتصادية تجذب القوى الغربية وتدفعها للتدخل.. بل على العكس تماماً..


الكتابة مسئولية ثقيلة، لذا فإنه من المهم التنبه لأخطائنا وإصلاحها، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بحياة الإنسان.
في اليوم الخامس عشر من مايو 2012، دخلت إلى سوريا للمرة الثالثة في زيارة للمراقبة كان هدفها وصف ورسم الحالة الواقعية لمعاقل المعارضة وتقييم القدرة الفعلية للجيش السوري الحر على الإطاحة بالنظام.

لفعل ذلك، قمت أولاً باستكشاف المناطق الحدودية التي تتركز فيها هجمات الجيش السوري الحر على الجيش النظامي، وهذه المناطق هي: درعا، الزبداني، القصير، تل كلخ، حمص، تلبيسة، الرستن و أخيراً إدلب حيث استكشفت هذه المناطق كلياً أو تلك الأجزاء التي تقع تحت سيطرة الجيش السوري الحر، والتي تتلقى الدعم اللوجستي من قواعدها الخلفية في تركيا، الأردن، ومن أنصار عائلة الحريري في شمال لبنان.

في زياراتي السابقة للمنطقة في شهر يوليو 2011 ثم ديسيمبر 2011 إلى يناير 2012 قمت باستلام الموافقة من السلطات واستخرجت تأشيرة دخول من السفارة السورية في بروكسل، لكن الأمر لم يكن كذلك هذه المرة. لقد سلكت طريقاً مختلفاً، عبرت الحدود اللبنانية من منطقة المصنع وتقدمت إلى جديدات حيث حصلت على التأشيرة بدون أية رسميات بمساعدة القليل من الحظ والاستغراب!

وبذلك دخلت سوريا بطريقة قانونية تماماً، حيث ومن خلال طريقي، كنت موجوداً أثناء المواجهات التي دارت بين علويي طرابلس الذين كانوا ضد سنيي الحريري، الذين كانوا يحاصرون منطقتهم… حدث يوحي بامتداد الأزمة السورية إلى جارتها اللبنانية.

استأجرت سيارة من دمشق وبدأت بالتنقل في أنحاء البلاد. استطعت الوصول لحمص وتصوير أطلال (دمار) المناطق الثائرة التي قصفت بواسطة الجيش السوري النظامي في تلبيسة التي تسيطر عليها المعارضة. سنحت لي الفرصة هناك للتحدث للمقاتلين المنتمين للجيش السوري الحر وكذلك مساعدي قائد المنطقة التي كانت منظمة جيداً ومجهزة بوسائل للاتصال بالمواقع التي تسيطر عليها المعارضة… إلى الرستن، حيث يتموضع الجيش النظامي مقابل البلدة التي تقع بالكامل تحت سيطرة الجيش السوري الحر. شاهدت معارك هناك ولكن لم أستطع الدخول، ثم وصلت أيضاً إلى حماة.

في السابع عشر من مايو 2012، عرفت عن نفسي عند حاجز للجيش النظامي عند مدخل تل كلخ التابعة لحمص.
انتظرت لساعتين للسماح لي بالدخول عندما ظهر رجال مسلحون وقالوا لي بأنه يمكنني الدخول تحت شرط واحد وهو أن أرافقهم في أحد سياراتهم، وقد وافقت على ذلك.

أحكم الكمين قبضته عليّ بعد دقائق معدودة وبدأت رحلتي إلى الجحيم حوالي الساعة الخامسة من بعد الظهيرة.
في الحقيقة، دخلت سيارتهم بشق الأنفس ثم تم تقييد يديّ إلى ظهري واقتادوني إلى مكاتبهم التي قضيت فيها عدة ساعات شديدة الحرارة في غرفة أسمنتية تحت وطأة الشمس. أُخذ مني هاتفي المحمول ولم تعد لدي أي وسيلة اتصال وكان من المستحيل معرفة أين كنت.

من هناك، وفي المساء تم نقلي إلى مركز المخابرات في حمص حيث تم تجريدي من أغراضي الشخصية في المبنى الأول والذي، منذ دخولي إليه، كانت تصدر منه أصوات بكاء مكتومة كدرت خاطري، واستطعت أن أتخيل جيداَ ماذا كان يحصل هناك.

بعد ذلك بقليل، اقتادني عنصران إلى مبنى آخر… توقفت أصوات البكاء… وكانوا ينظفون الأرض مما بدا واضحاَ أنه آثار دماء… كل شيء كان متسخاً، قذراَ، قديماَ، مُلطِخاً للأبواب والجدران والبلاط… كل شيء كان قذراً…

في البداية تركت لأتعرق كثيراً في غرفة صغيرة ومازلت مكبل اليدين جالساً على كرسي إلى أمام طاولة مغطاة بآثار الدماء والقيء، قطع من المسامير والإبر الحديدية… بعدها بساعة دخل ضابط يتحدث اللغة الإنجليزية وتبعه مرؤوسه وقام بالتظاهر بتأنيبه، بينما قام المرؤوس بتنظيف الطاولة في لمح البصر ورئيسه يبتسم لي..
قام الضابط بالتحقق من هويتي واقتادني من ذراعي إلى مكتب آخر حيث تم فك قيدي وأجرى تحقيقاً ودياً معي… قمت بالإجابة عن جميع الأسئلة وظننت أنني أرضيت الظابط حيث لم يكن لدي ما أخفيه.. إلى أن أراني على الكمبيوتر المحمول في المكتب المجاور قائد الثوار في صور استخرجها من ذاكرتي المحمولة.. الصور التي التقطتها في تلبيسة مع مقاتلي الجيش السوري الحر (الإرهابيين!)..

مع ذلك فقد أكد لي الضابط أنه فهم أن وضعي طبيعي في ظل البحث الذي كنت أقوم به، وأنه سوف يتم إخلاء سبيلي خلال ساعات قليلة، وأنه سيساعدني في هذه الحالة مع أنني ارتكبت جريمة بلقائي (للإرهابيين).. قال لي: "أنت ضيفنا وهذا هو بيتك الثاني".. في الحقيقة لم أعرف كيف أقرأ ابتسامته…

بعد ذلك اقترحوا عليّ أن أستريح، ليس في الزنزانة، ولكن في مهجع عناصر المخابرات حيث تم إعطائي سريراً بطابقين..

وبسرعة شديدة دخل عليّ عنصران لم أقابلهما من قبل واقتادوني إلى غرفة بها ضابط ينتظر، وقد أشار لي بأن أنزع عني قميصي وحذائي… قلقت كثيراً من التغير المفاجئ للأمر، ولكن أطعته… قام مساعداه بحزم يديّ إلى أنبوب معلق بالسقف، وبات الأمر أوضح… قام رجل رابع بإحضار سطلين من الماء وبعض الخِرق عندما كانت قدماي تسلسل وخرج مغلقاً الباب ورائه… قام أحد الرجلين بخلع جواربي ودفعهما في فمي، ثم تم جلدي على ظهري وكليتاي وبطني وجذعي… البعض قد يتخيل أن هذا شيء عادي، ولكن بعد ضربات معدودة فقط بدأ الألم يصبح شديداً لدرجة أنني شعرت بالاختناق وفقدان الوعي مرات عديدة..

خلال ضربهم لي كان الضابط يسألني أسئلة بإنجليزية ركيكة.. وبنفس الوقت يطلب مني أن أخرس… كيف لي أن أجيبه وأنا مكمم الفم؟ وفوق كل ذلك لم أكن أسمعه جيداً…

لا أعلم كم من الزمن مضى على هذا التعذيب حتى نزعوا الكمامة عن فمي وفكوا وثاقي، ثم كبلوا يديّ وأجلسوني إلى كرسي أمام طاولة مال عليها الضابط وفتح صندوقاً مليئاً بالإبر الحديدية بينما أعطاني وقتاً لألتقط أنفاسي وهو يلعب بإبرة بين أصابعه…

قام كلٌ من مساعدَيه بتثبيت ساعدٍ ومعصم إلى الطاولة بوضعٍ مسطح، وقام الضابط بوضع الإبرة تحت ظفر سبابتي اليسرى من دون أن يدخلها، كان يحركها ببطء فقط تحت الظفر… تحدّثَ عن صلتي (بالإرهابيين) ولماذا سافرت إلى سوريا وحدي لالتقاط الصور، وما إذا كنت أعمل لصالح جهة استخباراتية أجنبية لصالح الفرنسيين، لماذا كنت أقوم بالتنقل من مكان لآخر واقع تحت سيطرة (الإرهابيين)…

قمت بإعادة كل ما كنت قلته له، والذي بدا أنه أرضاه، ولكنه أمر بتعليقي وتكميمي ثانية عندما كان ينادي عالياً في الممر… أتى رجل إلى الغرفة ومعه مصباح يدوي عريض بزر كبير وأزرار صغيرة، وقام بلقط صدري بملقطين معدنيين موصولين ببطارية، ثم بدأ بتدوير المفتاح ببطء.. للوهلة الأولى أحسست بدغدغة خفيفة، ولكن بعدها بثوان ٍ أصبح الألم حادّا ً، كلما أدار المفتاح كلما زاد الإحساس بالحرق حرق ثاقب يظهر على الجسد.. اقترب الضابط مني وبصق على جذعي وقام بتبليل جلدي في مكان الملاقط.. لقد سبب هذا ارتفاعاً رهيباً في التيار الكهربائي وفي ازدياد الألم العنيف. لقد كان الضابط يلعب بالمفتاح؛ يزيد ويخفض شدة التيار… بعد ذلك أزالوا الجهاز وفكوا قيدي، ثم كبلوا يديّ إلى ظهري وطرحوني على الطاولة مكمماً، بدون أن يسألوني شيئاً..
قام العناصر بتثبيتي بقوة، واحداً عند أكتافي و اثنين عند قدميّ وما زلت مُسلسلا ً… أخبرني الضابط أن أهدأ وأن كل شيء على ما يرام و أنه بقي إجراء رسمي واحد. لقد أمسك بقضيب بلاستيكي كان معلقاً على المبرّد، تم تمديد ساقيّ على الطاولة ورأسي معلق للأسفل فألحق بي ثلاثاً وعشرين جلدة على باطن قدميّ، لقد عددتهم… نظر الضابط إليّ بابتسامة ودية تقريباً وقال لي: "أنت لا تحتاج إلى تكبيل يديك الآن".. أخذني مساعداه إلى سريري وقيدوني رغماً عن ذلك..

كم استغرق كل ذلك التعذيب؟
تألمت كثيراً ولكنني خرجت من ذلك سالماً بأضلع ٍ مكدومة وحروق خفيفة لا تساوي شيئاً تقريباً أمام ما كنت سأراه وما حكاه لي رفاقي في زنزانة سجن (باب مصلى) في دمشق.. لقد قالوا لي: "لم يجرؤوا أن يفعلوا المزيد لأنك غربيّ، لو كنتَ عربياً لفعلوا بك كما فعلوا مع مراسل الجزيرة ذاك. لقد كان قبلك بأيام قليلة، و قد سحقوا يديه وكسروا ركبتيه"… نعم، لقد تألمت كثيراً، ولكنه لا شيء، مجرد صفعة مقارنة بما كنت سأراه بقية تلك الليلة..

رأس سريري كان من ناحية الباب المؤدي للممر، وبعد دقائق قليلة من إرجاعي للسرير، سمعت صراخاً قوياً على الجانب الآخر للباب، وبدأت ضجة الجلد والضرب والصراخ قوية في البداية وسرعان ما هدأت بسبب التكميم.. البكاء والآهات تسمع عندما يعطي الجلادون فرصة التنفس لضحيتهم، ثم ما يلبث إلا أن يستأنف الجلد.. "خلص سيدي، خلص سيدي" مع البكاء… وقتها فهمت لماذا ينام العناصر في مهجعهم وصوت الراديو لأعلى درجة، لقد شككت بذلك..

في البداية، كان العناصر الذين ينامون بالدور، يدخلون ويخرجون مع التأكد من إغلاق الباب، ثم بعد ذلك لم يعودوا يكترثوا لوجودي وبقي الباب مفتوحاً على مصراعيه.. لقد سمعت ورأيت كل شيء..

الرعب في أقصى درجاته، بدون أي تستر، مكشوفاً، عارياً… السينما مع كل مؤثراتها الخاصة لا تستطيع أن تمثله، ولا أنا في هذه الحالة وأنا أكتب هذه الكلمات.. ولذلك أرجو الصفح من كل من هو ممدد في ذلك الممر.. بدمه.. وبوله.. وقيئه..

لقد كنت هناك، رأيت كل ذلك ولم أفعل شيئاً.. لقد كنت مذعوراً ولم أنطق كالجبان بينما كان يطغى عليّ يأس عظيم..

دخل عليّ عنصر المخابرات فجأة ً وحدق فيّ مباشرة، وفي يده زوجان من القيود، وفي اليد الأخرى كبل كهربائي مزدوج بأسلاك ظاهرة وفي نهايتها ملاقط… ظننت أن هذا لي..

اتضحت الأمور في عقلي، لم آمل أن أخرج من هذا المكان؛ ليس حياً على الأقل. إذا كانوا قد أشهدوني كل هذا فلأن القرار قد اتخذ، سوف يعملون على جسدي عاجلا ً أم آجلا ً بعنف أكبر إلى النهاية بحثاً عن أقصى ما يستطيعون الحصول عليه من معلومات ثم يقتلونني.. وما كان يمنعهم؟.. سوف يلقون باللائمة على الجيش السوري الحر…

قبل أن أخطف بقليل، كنت قد أجريت مقابلتين عندما كنت أنتظر على حاجز تل كلخ: الأولى مع Jacques Aristide من إذاعة صوت أمريكا، والثانية مع Laurent Caspari من الراديو الفرنسي السويسري قبل ثوان ٍ من اعتقالي وقد شرحت ل Laurent Caspari أنني حصلت للتو على تصريح لدخول تل كلخ: البلدة التي تقع جزئيًا تحت سيطرة الثوار…

ذهب رجل الملاقط الكهربائية بعيداً، لم تكن لي، وما هي إلا دقائق معدودة حتى خفتت أضواء الغرفة مرة أخرى ومزقت الصرخات الهواء، لقد طغت على كل أصوات البكاء.. وفتح الباب.. ورأيت الحروق العميقة.. اخترقت الكهرباء اللحم وشوَتْ كل ما اخترقته..

طلع الفجر، اخترق شعاع صغير الغرفة من الطاقة الصغيرة، وسمعت أصوات القصف غير بعيدةٍ صادرة ً من الدبابات الحكومية على منطقة بابا عمرو كما تخيلت لأنني سمعت أن عدداً من جيوب المعارضة مازالت نشطة ً هناك..

لقد كنت متأكداً أنه لم يبق لدي أمل… لقد انتهى كل شيء بالنسبة لي هناك… وكل شيء سينتهي تدريجياً في تلك المعاناة المروعة التي كنت أشهدها طوال تلك الليلة في ذلك المكان القذر الحقير…

أدرت وجهي للحائط المقابل للباب.. ونقشت صليباً صغيراً على الضمادة بإبهامي… كوني كاثوليكي، فقد قمت باعترافاتي للرب.. ووعدته بأنني لو هربت فسوف أروي ما شاهدته في تلك الليلة في كل مكان، كما وعدت المعتقلين الممدين في ذلك الممر بذلك أيضاً.. تلوت صلواتي وانتظرت..

توقفت أصوات البكاء.. لم أسمع إلا بعض الآهات تدخل عبر الباب.. رجع العناصر إلى الغرفة واحداً تلو الآخر وناموا.. الراديو كان مطفئاً.. ثم قرابة الساعة التاسعة (رأيت الوقت في السيارة) جاؤوا لأخذي.. قام العنصر بإفهامي أن ألبس حذائي وقميصي، وعندما فتح الباب، ابْيَضّ لوني من منظر الجثث الميتة على طول الممر.. نظر العنصر إلي وكأنه متفاجئ لردة فعلي ودفعني لأنزل الدرج إلى المخرج، ثم إلى سيارة شرطة أخذتني أنا وأربعة سجناء إلى مركز مخابرات آخر في دمشق.. وصاحبنا في كل تلك الرحلة صوت الأغاني الوطنية الممجدة لبشار الأسد على أعلى صوت..

لقد كان فرع فلسطين الذي فجّرَ قبل أيام قليلة…
تم استجوابي مرة أخرى بعد تعريتي وإخضاعي مرتين لتفتيش جسدي دقيق، وفي هذا التحقيق لم يلمسني أحد، فقط تلقيت تهديدات غير مباشرة… وبينما كنت أُسأل، كان على جانبي رجل ينقر على لوح معدني بشريحة خشب طويلة.. وبجانبي تماماً عناصر كثر يعذبون رجلا ً كبيراً في السن معصوب العينين.. كانوا يدفعوه ليقع على الأرض.. يضربوه.. ثم يعيدوا الفعلة مرة أخرى…
لا سرير هذه المرة… الأرض الباردة فقط..

عندما فهمت السلطات السورية أنني لا أشكل خطراً عليهم، تم رميي في قبو.. وهو سجن باب مصلى المدني.. لأنتظر ترحيلي خارج البلاد… لقد تم نقلي في سيارة معتمة النوافذ وكان مقابلي ولد بين الرابعة عشر والسادسة عشر يداه مكبلتين خلفه.. أرجله الحافية كانت محروقة بالكهرباء وكانت مغطاة بحفر سوداء بحجم أزرار البنطلون.
تم إخراجي من السيارة قبله.. لم أعرف إلى أين أخذوه ولا ما حصل له.. ولم أعرف اسمه.

تم حبسي مع سجناء سياسيين كانوا في غاية التضامن.. اهتموا بي.. أطعموني.. ساعدوني على الاغتسال وأعاروني بساطاً وبطانية..

بعضهم كان في هذا القبو الذي لا نوافذ له منذ سنتين.. لا يرون الشمس ولا يعرفون الليل من النهار.. معظمهم تم تعذيبه قبل أن ينتهي به المطاف هنا.. أخبرني أحمد عن أيامه الثمانية والعشرين التي قضاها بين أيدي المخابرات.. كيف تم جلده مرات عديدة في اليوم الواحد بالكبل الكهربائي والعصي لأكثر من شهر.. استشهاد بلا نهاية..

قابلت في السجن مساجين من جميع الجنسيات: الجزائريين، السعوديين، العراقيين، السودانيين، الصوماليين، الفلسطينيين، والسوريين بالطبع.. العديد منهم كانوا يعلمون بأنهم سيخرجون.. و كانوا ينتظرون الخروج.. الخروج من السجن.. بأمر أو مساعدة تخرجهم من حفرة الفئران هذه… القصة الأكثر تأثيراً كانت لمحمد من كشمير.. سجن لستة أشهر، وكان باكستانياً بالنسبة للسفارة الهندية، وهندياً بالنسبة للسفارة الباكستانية.. ولأن كل عائلته ماتت.. فقد أصبح وحيداً في هذا العالم.. كان يجلس مرات عديدة في اليوم إلى الزاوية ويبكي بصمت…
كان هناك عليّ من كازاخستان.. اعتقل لأنه أضاع جوازه.. سفارته أعلمته أنه لم يظهر في سجل السكان.. ومازال قابعاً هناك منذ أشهر بدون هوية.. لم يعد موجوداً…هُجر ليلقى قدره كالكثير من اللاجئين الذين يستفيدون من جوازات الأمم المتحدة.. ولكن بيروقراطيي منظمة الأمم المتحدة السورية المسئولين عن لاجئي دمشق المتعفنين في السجون يتعاملون فقط مع الملفات القادرة على دفع الرشوة…

كل شيء يجب أن يُشرى.. يُفرغ السجين جيوبه ويفتح أمتعته عند وصوله للسجن، إذا كان لديه أمتعة.. يجن السجانون وتلمع عيونهم عندما يرون النقود.. يصادرون أي شيء يعجبهم من الملابس والأحذية والعطور.. يقتسمون بعض النقود المسروقة فيما بينهم وأحيانا كلها.. سرقوا مني كل ما أرجعته لي المخابرات.. كل من ليس له أقارب في الخارج ليدفعوا كان يحصل فقط على وجبة واحدة في اليوم.. نفس الوجبة كل يوم توزّع وليست مكتملة كل يوم: شرائح الخبز(الخبز العربي)، البصل، وطنجرة الرز المعلقة بمنتصف الزنزانة التي يتهافت عليها السجناء..
لا يوجد صابون، ولا فرشاة أسنان، ولا ملابس نظيفة…

يُحرم من استخدام التلفون من لا يملك المال.. وكنت نفسي في هذا الموقف الدرامي.. وكشخص سوف يُرحّل إلى الخارج، كان من الضروري للخروج من السجن أن يقوم شخص ما بإصدار تذكرة طائرة باسمي ليأخذني فريق منهم إلى سجن المطار لانتظار الرحلة.. ولكن لا أحد كان يعلم أنني في سجن باب مصلى…

تمكنت بمساعدة رفاقي من السجن أن أبعث رسالة إلى الخارج عن طريق رشوة أحد السجانين.. وقام وزير الخارجية البلجيكي بالعمل على إخراجي فوراً.. تم إخلاء سبيلي في 23 مايو 2012…

قبل إخلاء السبيل بيوم واحد.. وصل شاب صغير إلى باب مصلى، وقد اعتقل لأنه استخرج لنفسه جوازاً مزوراً وأخفى نفسه هرباً من الخدمة العسكرية.. قال لي: "سوف يجبرونني على قتل الأبرياء.. أفضل أن أقتل نفسي على ذلك".. غادرت السجن لألقى الحرية، بينما بقي هو للمخابرات.. أعطاني اسمه وحسابه على الفيس بوك ومذ ذلك الحين أحاول الاتصال به.. ولكن عبثا…

الستة أيام التي عشتها في الجحيم.. الليلة التي عُذبت فيها في حمص.. وفوق ذلك كله ما شاهدته فيها من البأساء لرفاقي الذين عُذبوا بوحشية أكثر مني.. كانت تلك لحظات عانيت فيها الكثير جسدياً ونفسياً.. ومع ذلك لست نادماً على شهودي لكل ذلك.. إنه واجبي الآن لكي أقدم شهادتي باسم كل من تركتهم ورائي…

طالما كانت تمر سورية بالأزمة، وحتى الآن، كنت أدافع دائماً عن مبادئ قانون السيادة الشعبية وعدم التدخل.. كنت أندد بالحرب الاستعمارية الجديدة في أفغانستان والعراق وليبيا المدفوعة بالمصالح الاقتصادية والاعتبارات الجيو- استراتيجية، والتي كانت طموحاتها (الإنسانية) لا شيء سوى ذرائع ملطخة بالدماء…

ولكن في ضوء الرعب الذي شهدته.. ومن أجل كل الرجال الذين شُوهوا بوحشية من قبل البربريين الذي يخدمون الدكتاتورية التي تعدت فظاعتها وضراوتها كل ما كنت أتخيله.. أنا الآن أنضم للمناداة معهم لتدخل عسكري في سوريا للتخلص من نظام البعث البغيض.. حتى لو اضطرت البلاد للغرق في حرب أهلية، فيجب أن تفعل ذلك لكي تضع حدا لاثنين وأربعين سنة من الإرهاب المنظم الذي لا أملك أدنى فكرة عن حجمه…

لن أتظاهر أبداً بأنني المتحدث باسم السوريين، ولكنه مجرد تمرير للرسالة المُجمع عليها والتي تسلمتها من الجيش السوري الحر، من رفاق السجن الذين عُذبوا للموت، من أصدقائي في باب مصلى… بشار الأسد لديه مؤيديه من العلويين والمسيحيين والأقليات الأخرى، وحتى من السنيين الذين يخافون الإسلام المتطرف… "الغالبية من الشعب لم يعودوا يريدون أن يعيشوا في هذا البلد الذي ليس ببلد بل نظام حكم. الجيش السوري الحر مستعد ولديه معاقل كثيرة ومتواجد في المدن الكبيرة، في حلب ودمشق، متخفياً ينتظر لحظة النفير العام. ولكن هذه اللحظة لن تحدث إلا إذا وفرت الديمقراطيات الغربية دعماً عسكرياً حقيقياً. الجيش السوري الحر يفتقد للقوة العسكرية التي تمكنه من مواجهة جيش النظام المجهز تجهيزاً كاملا ً والذي فرض نفسه لأكثر من سنة بدون استخدام وحداته المسلحة الخاصة وطائراته وهيلوكبتراته.. جيش فصّله النظام ليبقى مخلصاً له. الجيش السوري الحر يستطيع تدمير جيش النظام إذا دمّر الغرب آلياته الثقيلة من الدبابات والطائرات، وإذا وفر الغرب دعمه، سيتدفق الناس إلى الشوارع وسوف تنضم أعداد كبيرة من الجنود النظاميين للثورة، ولكنهم الآن خائفون لأنهم يعلمون أن النظام قوي عسكرياً و أن له اليد العليا. لسوء الحظ لا أحد يريد مساعدتنا. الدول الغربية تتكلم كثيراً وتقف متفرجة ً ولا تفعل شيئاً. ولذلك لا يوجد فائدة. النظام يعرف ذلك، ولذلك لا يتردد في التعذيب والقتل والتفجير. النظام يعرف أن لا أحد سيفعل شيئاً، ولذلك لا يوجد لديه ما يخافه. نحن وحيدون". ذلك كان كلام السيد (ج) من باب مصلى…

لا تمتلك سوريا قيمة اقتصادية تجذب القوى الغربية وتدفعها للتدخل.. بل على العكس تماماً.. فمن منظور جيو- استراتيجي: فإن حكومة بشار الأسد تحظى بالدعم الحقيقي من الولايات المتحدة الأمريكية التي تتبع سياسة التقارب الودي منذ 2001، وتحظى بدعم إسرائيل التي طالما هنئت نفسها بهذا الجار الناعق الذي يوفر لها الحماية الحدودية على طول الجولان، وتحظى بدعم الاتحاد الأوروبي الذي اشترى 98% من النفط السوري وينظر بقلق لاضطراب هذه القوة في الشرق الأوسط، وتحظى بدعم روسيا والصين اللتين لم يبق لهما حليف عربي إلا سوريا التي تطل بنافذتها على البحر المتوسط.

دعم عسكري غربي يضغط على الموقف الروسي سوف ينتج حالة فريدة من تضافر القوى في شراكة لا يرجون منها أية مرابح من أي نوع… إن شاء الله…


بيير بيتشيني