عيد النازفين .. بين دمعات الفرح ..وصرخات الألم

منذ 2012-10-26

من سيذكر التاريخ ؟ ومن يبتسم في وجهه العيد ؟.. أشهيد عطر الدنيا ثراه، أم الجلاد الحقير، والظالم المستبد ؟!


تحيه الصباح يلقيها الهلال على ميادين الوطن الذبيح فوق ثرى الأيام، والطرقات التي خضبتها رفات الكفاح تدل على الطفل اليتيم، وتحيه العظماء للعظماء .. تختلف قليلا عن تهانينا!

ميلاد الفجر ينطق بقدوم وميض العيد، واللحن يبدأ في عزف سيمفونيات البهجة، وكل وجه لمجتمع له بسمة مختلفة، له طقوس لطعم الذكريات، يستعيد أيام الصبا، ويحلم بلبس الثوب الجديد.

تتكلم الأعياد بلغة الفرح، تخاطب أوتار النسيم والزهور، العصافير باتت تبوح في الصباح، وكأنها تصّبر لوعة الاشتياق لدى الأطفال الصغار حنينا للحظة أمن يمكن فيها العودة لساحات اللعب والمرح، ولو ليلعبوا بدماهم الممزقة أويمرحوا بتمثيلية "حقوق الإنسان"!

تكامل بين القلب والكون، والفرح و النفع، والأجر والثواب، وتماثل في الكرم والفداء، وسارعوا إلى جنـة عرضها السماوات والأرض، هكذا كان عيد النحر.

إنها ابتسامة الصديق للصديق، ودمعات المحتاج حينما شعر أنه اليوم هناك من يبحث عنه، من يشعر بجوعه، من يسمع آهاته، والصغار يلعبون، إنه احتضان للوطن، وتعانق وتوحد للفرح، في ظل الحرية الكاملة، حرية العبودية للإله الحق خالق الموت والحياة وواهب النعم.

قصة الرصاصة الحقود، معصوبة العينين، التي مرت بجانب القلب الصغير، ولم تمسه، تركته على قيد الحياة، لكنها قد هتكت الكثير من الضلوع وراءها، قد مزقت العديد من الأحلام.

ونقطة الدم على أراضينا النازفة، تروي عزفا حزينا، ورثاءً، لحنا بطعم الدموع الكسيرة، وأيام العذاب ..

إنها شهقات الثكالى، وشبح الغدر، وأنات الأيامى، والغربة المريرة، و صرخات اليتامى،، تسرد - بالحقائق - يوما مشهودا يغشى فيه الفرح المدينة الحزينة، وتسطع شمس الحرية على البلد الأسير.

ألا إنه لا عيد بلا وطن، ولا فرح بلا حرية، ههنا توقف البحث عن الفقراء والمستحقين، فالدم غير الدم والذبح غير الذبح، فهم لازالوا يبحثون عن إخوتهم الضائعين، او الراقدين تحت الأنقاض!

كل البيوت فرحة تترنم، إلا أن هناك صغيرة تنتظر، تبكي حينا وتسكت حينا، تتعلق الدموع بعينيها بشعرات اليقين، إلا أن أباها المجاهد يبدو أنه لن يعود ..

وأمي مازالت تمسك بإبرتي الخيط .. تخيط لي منديلا يكفكف عرقي ودمي حينما أعود، ولكنني يبدو أنني .. أيضا .. لن أعود ..

كيف يمكن للوطن الممدد على سرير الموت استعادة طعم قطعة خبز صغيرة، ذكريات عديدة ، تمزج بين طعم الحرية، ونكهة الخبز الصلب بينما يلين بقطرة ماء جافة فتكثر بركته، ورائحة البيت القديم، وعذوبة الحب الأول المستقيم، وآلام الجسد المريض .. وابتسامة الشهيد!

إن الساعات والدقائق والحروف، وأبيات الشعر البليغ، والأقلام، لو اجتمعت على قلب واحد بمشاعر فياضة لتروي قصة بيتنا القديم .. عذرا ..بيتنا المهدم القديم .. ما استطاع التعبير أن يوافيها. فلا تتساوي جروح الجسد مع جروح القلب .. مع آلام فراق الأحبة.

هناك في الشارع المجاور صبية صغار، أسمع أصواتهم تضحك ضحكات متقطعة، يلعبون لعبا بريئا براءة الزهر، والحجارة هي قواعد اللعبة، يضحكون تارة، ويبكون تارة أخرى، عرفوا بعضهم فوق الأنقاض، هم الباقون ممن رحلوا، هم الأمل الذي يتمسك بالفرح، والغناء الذي يسقى به القلب آلام جسام.

إنني هنا من موضعي، لا يضيرني إلا أخي الذي يعيش بعيدا، ومن يسكن جدران الدم، فترى الشمس تطلع عليه كأنه بيت من حجر كريم، من يعيش بنبض متقطع، بقلب نخرته معامع الأعداء، واشتكت العينان من طول البكاء.

اليوم وقفت كلماتي تمسح عرقها بمنديل ملطخ بالدم، وامتنعت الألفاظ إلا عن كلمة التوحيد ننتظر الشهادة، وأرى دموع الفرح قد اختلطت بدموع الحزن، في عين واحدة، ولكأن الدنيا قد باعت ما فيها من مروءة على موائد البخس المباع.

تلك الأم التي استشهد زوجها، تخبئ الدموع عن صغارها، تغني لهم أغان العيد القديمة، وتحتضن حاجتهم لها، وباليل تبكي على النمارق المبللة بدموع الليلة الفائتة.

إن الحقيقة الكاملة ينقصها من يقولها، من يقصها ويحرك بها القلوب، يحرك الأرض الحزينة، ويحكي قصة الإصرار في النفوس، والعزيمة، قصة السلاح الذي أيقظ صاحبه، والطفل الباكي الذي يبتكر البسمة الصافية .

الشوارع هادئة، يفزعها صوت القصف المفاجئ، فيبكي الرضيع، ثم تهدهده أمه الأرملة، ترضعه نموذجا للصبر، وتسقيه المر في صغر، فيقسم أن يذوق الحلو في غرة شبابه.

فرش الحصير، وتمرات الفطور، ورائحة الخبز، تكاد تكون أقصى طاقة للعيد أن يمدها هؤلاء الحزانى لأبنائهم ويكتفي بأن يرى بسمات الرضا على وجوه أطفالهم.

وطن أسير، يسطر كتابا للحرية، يتسطحه الفرح، ويفيض به الأمل، يذكر عاقبة الآبق من واقعه، ويمجد كفن الشهيد ..

يبدو الكتاب - بكل أقلام أبنائه، بكل دمعة سقطت على الأرض غدرا. ولم تجد من يكفكفها -كتابا يخطه العالم بأسره، بكل من عميت عيناه عن الحقيقة، وأدار وجهه عن الصدق، ورضي بأن يعيش أعور، معوج العارضين .. ليحشر يوم القيامة على وجهه أعمى.

من سيذكر التاريخ ؟ ومن يبتسم في وجهه العيد ؟.. أشهيد عطر الدنيا ثراه، أم الجلاد الحقير، والظالم المستبد ؟!

أي مدى بين من أعطى الحرائر جناحين، ومن كسر جناحي الطير .. فتركه لا يقدر على شيء ..

إنها تمتماتي في تلك اللحظات إلى إخوتي في سوريا، وبورما، وفلسطين، والعراق، والشيشان، إلى المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها ...

يريد الله أن يمن عليكم ويجعلكم أعزة ويجعلكم الوارثين .. يصبركم في العيد ببعض الفرح، الذي تظمأ إليه نفوسكم، ويفتديكم بذبح عظيــم.

فيا أيها العظماء، تشبثوا وأمسكوا الأرض، فلا هم يبقى، ولا نزف يستمر، فالجروح ستلتئم، والقربان سيقدم أينما كانت النفوس الطيبة، والله يتقبل القليل .. ويجزي به الكثير، ولو شاء الله لنصركم في طرفة عين، ولكن يبتليكم .. فاصبروا.

إنها قصة عيد ووطن .. قصة وطن يصعد درجات السحر، يلقى مسبحته فإذا هي دُنا صغيرة، وتسقط دمعته فإذا هي لؤلؤة، يقص الحق من خلف الأسوار، إلا أنه من بين أغصان الحزن، يرى العيد في كل يوم، يدق النصر مصارع الأبواب، يلون كل وجوه النرد بلون الحق والسلام، إلا أنه يرى النور في قافلة الصباح .. والمساء!!


هشام خالد