قصف غزة.. التحدي والاستجابة

منذ 2012-11-16

قصف غزة كان متوقعًا، على الأقل للكثيرين من أبناء الشعب العربي، فإذا لم يكن متوقعًا على مستوى القادة، سواء فرادى أو جماعات، وجاءت تلك الضربة بمثابة المفاجأة التي لم تستعد لها الأنظمة العربية وأجهزتها للأمن القومي، فنحن حينئذ، كشعوب عربية، في مشكلة كبرى..


قصف غزة كان متوقعًا، على الأقل للكثيرين من أبناء الشعب العربي، فإذا لم يكن متوقعًا على مستوى القادة، سواء فرادى أو جماعات، وجاءت تلك الضربة بمثابة المفاجأة التي لم تستعد لها الأنظمة العربية وأجهزتها للأمن القومي، فنحن حينئذ، كشعوب عربية، في مشكلة كبرى.

الرئيس المصري د. محمد مرسي زار كل من السعودية وتركيا وإيران، وهم الدول الكبرى الثلاثة في المنطقة، إذا لم يكن على هامش تلك اللقاءات موضوعات بحجم احتواء إسرائيل أو كيفية الرد في حال أرادت إسرائيل إشعال الشارع العربي ضغطـًا على الأنظمة الحاكمة، فنحن في أزمة حقيقية.

أجهزة الأمن القومي العربية من المفترض أنها كانت في العامين الماضيين تعيد حساباتها بشأن التحولات التي حدثت في المنطقة؛ فالربيع العربي خلق حقائق جديدة على الأرض: أزال حسني مبارك، الذي كان بمثابة (الحجاب الحاجز) لإسرائيل، فقد كان الحامي الأول للكيان الصهيوني، والمبرر الرئيس لعنف إسرائيل ضد الفلسطينيين، وكان كذلك حارس بوابة الجحيم المغلق على أبناء غزة، زوال مبارك مثل تحولاً كبيرًا في المنظومة الأمنية في المنطقة، إسرائيل أصبحت بلا حاجز بينها وبين الشعوب العربية، مبارك كان يمنع اندلاع تظاهرات حاشدة في مصر، أو على الأقل تحجيمها لكيلا تصل إلى حد إجباره على تغيير سياسته تجاه إسرائيل..

كان يقوم بالعمل الدائم بسحب السفير في الحالات القصوى مثل العدوان على غزة والذي وقع في نهاية 2008، ثم تعود الأمور إلى مجاريها مرة ثانية، بمزيد تشديد رقابة على المعابر وغلق الأنفاق ومزيد احتواء لحركة حماس على المستوى السياسي وتحجيم نفوذها وحرية حركتها، ولكن اليوم إسرائيل لم تعد تتعامل مع مبارك، ولكنها تتعامل مع الشعوب مباشرة، بفعل ورد فعل، وتداعيات جسيمة على استقرار دول المنطقة، لا سيما أنظمة الربيع العربي بشوارعها المتقدة حماسة وبحثًا عن الكرامة المفقودة لعقود.

أجهزة الأمن القومي العربية من المؤكد -فيما يبدو لي- أنهم فطنوا إلى تلك الحقيقة: أي ضربة جديدة لغزة يمكن أن تشعل الشوارع العربية، المشتعلة بالفعل، ويمكن أن تؤدي إلى إجبار أنظمة الربيع العربي، التي جاءت بالأساس بالإرادة الشعبية، على اتخاذ الخطوات التي كان لا يمكن اتخاذها في السابق، بفعل ما هو (أكبر) من الشجب والإدانة والاستنكار وسحب السفراء، ثم (تعود الأمور إلى مجاريها) مرة ثانية، بأن تختار أحد طريقين: إما التصعيد بالرغم من الجراح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الداخلية، وهو بمثابة مغامرة غير مضمونة العواقب، أو باختيار الطريق الثاني ببلع الكبرياء ومواجهة الشعوب، التي انتفضت بالأساس من أجل الكرامة المفقودة.

فلقد انهار النظام العربي الذي كان متكئًا على كيان هش اسمه الجامعة العربية، ليبزغ نظام جديد يتكون من الدول الفاعلة في الإقليم: مصر والسعودية وتركيا وإيران، هذا الرباعي قد يكون مختلفًا في الكثير من التوجهات الداخلية والخارجية والمذهبية، لكنهم جميعًا متفقون على شيء واحد على الأقل: القضية الفلسطينية، إذا كان ذلك الرباعي جادًا في دعمه للقضية الفلسطينية، فمن المؤكد أن أجهزتهم للأمن القومي عملت في مرحلة ما مع بعضهم البعض تجاه ذلك العدو المشترك: إسرائيل، من أجل تشكيل منظومة عمل جماعية لاحتواء الكيان الصهيوني، فطالما تمت المتاجرة بتلك القضية المركزية في العالم الإسلامي من القريب والبعيد..

من أجل الحصول على النفوذ والقوة الناعمة في المنطقة سمعنا الكثير من الأدبيات والخطب الرنانة التي تدعو إلى نصرة فلسطين، ولكن اليوم، فإن القضية الفلسطينية لم تعد قضية عاطفية لكسب قلوب الشعوب، لم تعد قضية حماسية تذرف عليها الدموع ثم (تعود المياه إلى مجاريها)، قضية فلسطين اليوم، بعد الربيع العربي، بعد استلام الشعوب لمصائرها، أصبحت تمثل بحق فتيل قنبلة في المنطقة برمتها، و(رصاص مصبوب) جديد لن يكون حصرًا على غزة وحدها.

فإسرائيل تلعب بالنيران، كما كانت طوال الوقت، من أجل التلهي تارة، من أجل رفع قدراتها القتالية تارة أخرى، أو من أجل إظهار قدرتها الدائمة على الردع، أو، كما هي الحالة الآن، من أجل مكاسب انتخابية: الكثير من الدماء الفلسطينية تستخدم دائمًا لضخها في آلة الانتخابات الإسرائيلية من أجل تدعيم الجالس على كرسي السلطة في تل أبيب..

ولكن ما زاد اليوم عن كل تلك الأهداف الإسرائيلية هو أن ضربة ضد غزة يمكن أن تفجر الأوضاع الداخلية في الدول العربية، يمكن أن تنفجر الأوضاع في مصر، فدماء فلسطينية يمكن في الوقت الذي ترفع فيه أسهم نتنياهو، يمكن أن تسقط حكومة مرسي، يمكن أن تحدث حالة من الفوضى والعشوائية في الشوارع المصرية، يمكن أن تؤدي إلى ردود فعل (عشوائية) كطبيعة الشعوب العربية، تفسد أكثر ما تصلح، يمكن أن تؤدي إلى ارتدادات عكسية تصب في النهاية في صالح الكيان الصهيوني.

الكثير من المطالبات سمعناها في الساعات الماضية: الشجب والتنديد، سحب السفراء، شكوى لمجلس الأمن، إلى آخر تلك السلسلة من الإجراءات التي طالما سمعناها في السابق، الشعوب لم تعد تقتنع بتلك الإجراءات، إنهم يريدون اختلافًا في رد الفعل يساوي دماءهم المراقة في ثورات الربيع العربي من أجل تحرير الإرادة، من أجل أن يروا رد فعل مختلف عن ذلك الذي كان في 2008، إن الشعوب العربية سكبت الكثير من الدماء من أجل الكرامة العربية؛ فالشعار كان ولا يزال يدور حول الكرامة، أو الموت ولا المذلة.

تلك الحقيقة يجب أن تكون راسخة في أذهان القادة العرب، الشعوب العربية لم ولن تقبل بما كان، لم ولن تقبل بعبارات الشجب والتنديد وهي ترى دماء أبنائها تنزف في غزة، يجب أن تعي أنظمة الأمن القومي العربية أن الحفاظ على الكراسي والعروش لم يعد محصورًا تحت أقدام القادة وفي محيطهم المحدود، إن الحفاظ على الأنظمة بات يمتد حتى غزة وحتى شوارع الربيع العربي، فالتظاهرات في شوارع تونس سمعت أصداؤها في مصر، ووصلت إلى ساحات الحرية والكرامة في صنعاء، وامتدت حتى ساحة الإرادة في الكويت، فدوائر الأمن القومي أصبحت أكثر اتساعًا وقوة بقوة الشارع العربي ذاته وباتساع أفقه وقوة تأثيره وبسرعة موجاته الارتدادية التي تصل من غزة إلى القاهرة إلى الرياض إلى طهران إلى أنقرة في غمضة عين، مع موجات أثير الفضائيات المتعدية للحدود.

قضية غزة لا ينبغي أن تكون قضية محلية أو قضية مهدِّدة لدول الطوق فقط وعلى رأسها مصر، ولا حتى قضية عربية، إنها قضية إسلامية، لذا يجب على الشعوب العربية أن تضغط على أنظمتها بأن يتم اتخاذ قرارات بحجم العالم الإسلامي ممثلاً بمنظمة التعاون الإسلامي من أجل الضغط على الدول الكبرى، وعلى النظام العالمي ممثلاً في مجلس الأمن والأمم المتحدة من أجل وقف العدوان الإسرائيلي على الأراضي العربية وعلى المقدسات الإسلامية لكي تتوقف عن ابتلاعها للأرض، بل والتهديد بانسحاب الدول العربية والإسلامية نهائيًا من الأمم المتحدة؛ فإذا كانت المنظمة غير قادرة على تحقيق السلم والأمن الدوليين، إلا للغرب، فإن الانسحاب من تلك المنظمة قد يمثل تفجيرها من الداخل وإنشاء نظام عالمي أكثر عدلاً، كما دعت إلى ذلك عدد من الدول الإسلامية.

فما هو أخطر من العدوان على غزة هو الابتلاع اليومي للأراضي العربية وتهويد مقدساتنا، والذي يتم مثل نقطة المياه التي تسقط يوميًا، لا أحد يشعر بها، ولكنها تستطيع أن تحطم الصخر، فلعل العدوان على غزة، في ظل الربيع العربي، وفي ظل ضغط الشارع الإسلامي، يسمح للساسة بأن يتحركوا بضغط شعبي من أجل تحجيم إسرائيل، بتحرك رباعي من مصر والسعودية وتركيا وإيران، بتقديم شكوى عاجلة لمجلس الأمن لوقف العدوان، وبالتهديد بالانسحاب الجماعي من المنظمة الدولية إذا لم يتم اتخاذ إجراءات رادعة لإسرائيل، التي اكتسبت عداء الشعوب والأنظمة على حد سواء، من أنقرة إلى طهران إلى مراكش.

إن العدوان على غزة يمثل تحديًا آنيًا لكل من شعوب الربيع العربي ولقيادة (أردوجان) ولعزيمة مرسي، كما أنه كذلك يمثل اختبارًا للخطب الحماسية لـ(نجاد) ويمثل كذلك فرصة سانحة لتوحد العالم الإسلامي حول أهداف جامعة كمنطلق للتقارب الإسلامي تحت مظلة الربيع العربي، ويجب أن تكون الاستجابة على قدر التحدي، فالتحدي اليوم ليس مجرد قصف غزة، ولكن التحدي يتمثل في تهديد إسرائيل للربيع العربي من الداخل، بتحدي قيادة تركيا للمنطقة وزعامة مرسي الإقليمية التي في طور التشكل، لا سيما عند توسيع العملية على غزة والتي يمكن أن تؤدي كذلك إلى تفجير الأوضاع الداخلية في العديد من الدول العربية، واندلاع تظاهرات وأعمال عنف تهدد حكوماتها، لذلك يجب أن تكون الاستجابة على قدر ذلك التحدي الجسيم، ولعل فلسطين، كما قيل دائمًا، هي التي تحرر العالم العربي وليس العكس.


محمد سليمان الزواوي
باحث في العلاقات الدولية ومدير تحرير (مفكرة الإسلام).
 
المصدر: موقع مفكرة الإسلام