نداء لكل فتاة
منذ 2005-04-21
اعلمي أن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، وقد خُلقت أمّارة بالسوء، ميّالة إلى الشر، فرّارة من الخير، وقد أمرك الله بتزكيتها وتقويمها وقودها ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
أختاه..
اعلمي أن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، وقد خُلقت أمّارة بالسوء، ميّالة إلى الشر، فرّارة من الخير، وقد أمرك الله بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربّها وخالقها، ومنع شهواتها المحرمة..
فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفري بها بعد ذلك، وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والمحاسبة والملامة؛ كانت نفسُك هي النفس اللوّامة التي أقسم الله بها ورجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة إلى الدخول في زمرة عباد الله راضية مرضية؛ قال تعالى { يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ.ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً.فَادْخُلِي فِي عِبَادِي.وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر:27-30]
الخطب الجسيم
عجباً أختاه..
كيف تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت لا تبالين بمعصية الله تعالى وارتكاب ما نهى عنه..
أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار؟ وأنك صائرة إلى إحداهما.. فكيف تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو واللعب، وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم؟
فإن كنت تطمعين في التوبة حين يتقدمُ بك السن، فتدركين الشهوات واللذات في شرخ شبابك وتفوزين بالتوبة الماحية للخطايا عند كبرك وهرمك.. فما أطول أملك وما أشدّ جرءتك على ربّك؛ إذ كيف ضمنت طول العمر؟
وكيف تيقّنت التوفيق للتوبة؟ وعساك اليوم تُختطفين أو غداً، فأراك ترين الموت
بعيداً، ويراه قريباً؟
أما تعلمين أن كل ما هو آتٍ قريب، وأن البعيد ما ليس بآتٍ؟ أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير موعدٍٍ ولا مقدّمات؟ أما تعلمين أن الموت ليس له وقت محدّد ولا زمن محدد، ولا عمر محدّد، فلا يأتي في شتاء دون صيف، ولا في صيف دون شتاء، ولا في نهارٍ دون ليل، ولا في ليلٍ دون نهار، ولا يأتي في الصّبا دون الشباب، ولا في الشباب دون الصبا. بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، فإن لم يكن الموت فجأةّ، فيكون المرضُ فجأة، ثم يفضي إلى الموت فالنتيجة واحدة.. هي الموت..
فمالك لا تستعدّين للموت وهو أقرب إليك من كلّ قريب؟
أما تتدبرين قوله تعالى { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ. مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ.لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ }..
ويحك أختاه !!
إن كانت جرأتك على معصية الله لا عتقادك أن الله لا يراك، فهذا ناقضُ صريح من نواقض الإيمان، ولست أراك تعتقدين هذا المعتقد الباطل الرديء..
وإن كانت جراءتُك على معصية الله مع علمك باطّلاعه عليك فأين حياؤك من الله؟ وأين خوفك منه وتعظيمك له؟
ويحك أختاه !!
لو واجهتك إحدى صديقاتك بما تكرهينه، كيف سيكون غضُبك عليها ومقتُك لهـــا؟
فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه؟ أفتظنين أنك تُطيقين عذابه؟ هيهات هيهات!!
جربّي نفسك إن ألهاك البطرُ وشغلتك الغفلة عن أليم عذابه.. فاقعدي ساعة في الشمس.. أو قرّبي إصبعك من النار؛ ليتبيّن قدرُ طاقتك؟ فهل تُطيقين ذلك؟
فإذا كنت لا تُطيقين أن تقعدي ساعة في الشمس، ولا تطيقين أن تُقرّبي إصبعك من نار شمعة، فكيف تطيقين ناراً وقودها الناس والحجارة؟ ناراً هي أعظم سبعين مرةً من نار الدنيا مجتمعة..
الرجاء الكاذب
ولعلك أختاه تغترين بكرم الله وفضله ورحمته، وترددين دائماً أن الله غفور رحيم..
وهذا ليس من إحسان الظن في شيء؛ لأن إحسان الظنّ لابد أن يكون معه إحسان العمل.
أما إساءة العمل والتعويل على كرم الله وفضله ورحمته، فهو من الغرور والأماني الباطلة قال تعالى: { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ }، وقال تعالى:{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى.وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى.ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى.وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى }[النجم:39-42]، ولماذا تنسين في زحمة الرجاء الكاذب أن الله شديد العقاب كما قال سبحانه:{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ }، وقال سبحانه:{ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }، وقال تعالى: { وَلَـكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }، وقال سبحانه في الذين يستحقون رحمته: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }، وقال تعالى: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }. وما مثلك أختاه إلا كمثل عبد يأمره سيده كل ساعة بأمر وينهاه عن نهي؛ ثم إن هذا العبد لا ينفذ لسيده أمراً، ولا ينتهي له عن نهي، وهو مع ذلك منتظرُ لهدايا سيده واثقُ من ثنائه عليه متوقع رضاه عنه وحسن جزاءه له !
ويحك أختاه: هل تنتظرين يوماً يأتيك لا تعسُر عليكِ فيه مخالفة الشهوات؟ هذا يومٌ لم يخلقه الله قطّ، فلا تكون الجنّةُ قط إلا محفوفةً بالمكاره، ولا تكون المكاره قطُّ خفيفة على النفوس.
ويحك أختاه..
أما تتأملين منذُ كم تَعدين نفسك وتقولين: غدًا.. غدًا.
فقد جاء الغدُ وصار يوماً فكيف عملتِ فيه؟
أما علمت أن الغد الذي جاء وصار يومًا كان له حكم الأمس، لا بل الذي تعجزين عنه اليوم فأنتِ غداً عنه أعجزُ وأعجز؛ لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التي طولب العبد بقلعها، فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخّرها، كان كمن عجز عن قلع شجرةٍ وهو شابٌ قوي، فأخرها إلى سنة أخرى، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوةً ورسوخًا، ويزيد القالع ضعفًا ووهنا، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قطّ في المشيب، بل من العناء رياضةُ الهرم، و'من التعذيب تهذيب الذيب' (الذئب)، والقضيب الرطب يقبلُ الانحناء، فإذا جفّ وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك.
اصبري ساعة
ويحك أختاه..
إن كان الذي يمنعك عن الاستقامة هو محبتُك للشهوات وحرصُك على لذّاتها وقلةُ صبرك على مشقة تركها، فإن كنت صادقة في ذلك، فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية المباحة التي لا إثم فيها ولا معصية..
فإن كنتِ تتطلعين إلى ماهو أعظم من ذلك فاصبري ساعة لتتمتعي بالشهوات الدائمة
التي لا تزول أبد الآباد.. فما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ثلاثة أيام ليصحّ ويهنأ بشُربه طول عمره، وأخبره أنه إن شرب ذلك مرض مرضًا مزمنًا، وامتنع عليه شربه طول العمر، فما مقتضى العقل في قضاء حقّ الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر، أم يقضي شهوته في الحال خوفًا من ألم المخالفة ثلاثة أيام؟
وجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد، الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار
أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر وإن طالت مدّته.
وليت شعري.. ألم الصبر عن الشهوات أعظم شدةً وأطول مدة.. أو ألم النار في دركات جهنّم، فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، فكيف يطيق ألم عذاب الله؟
عمرك عمرك
ويحك أختاه..
لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا، ولا يغرنّك بالله الغرور (الغرور: الشيطان )، فانظري لنفسك، واهتمي لأمرك، ولا تضيّعي أوقاتك، فالأنفاس معدودة، فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضُك.. فاغتنمي الصحة قبل السقم، والفراغ قبل الشغل، والغنى قبل الفقر والشباب قبل الهرم، والحياة قبل الموت، واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها برد الشتاء أم زمهرير جهنم !
ويحك أختاه.. انظري لنفسك حينما يقدُم الشتاء.. أما تستعدين له بقدر طوله مدته،
فتجمعين له الطعام والشراب والملابس الثقيلة وأدوات التدفئة وجميع الأسباب الأخرى، أفتظنين أن زمهرير جهنم أخفّ برداً وأقصر مدةُ من زمهرير الشتاء؟ لا يمكن أن يتصوّر ذلك عاقل، فليس هناك مقارنة بينهما أصلا ً..
إذًا فلماذا تستعدين للأخف الأهون، وتهملين الأشد الأعظـــم؟ أليس هذا دليلاً على الغفلة وضعف الإيمان والجهل بحقائق الأمور وعواقبها؟
أتظنين أن ستنجين بغير سعي ولا عمل؟ هيهات !! فكما لا يندفع برد الشتاء إلا بما ذكرتُ من الأسباب، فلا يندفع حرُّ النار إلا بحصن التوحيد، وخندق الطاعات، والبعد عن المعاصي والمنكرات.
النظر القاصر
ويحك أختاه..
اعلمي أن كلّ من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها، مع أن الموت من ورائه، فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة، وإنما يتزود من السُمّ المهلك وهو لا يدري.. أو ما تنظرين إلى الذين مضوا، كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا، وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم؟ أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤمّلون ما لا يدركون.
يبني كلّ واحدٍ قصراً مرفوعاً إلى جهة السماء، ومقرّه قبرٌ محفور تحت الأرض، يعمر الواحد دنياه وهو مرتحلٌ عنها، ويُخرب آخرته وهو صائر إليها قطعًا.. فلا تلتفتي أختاه إلى هؤلاء.. ولا تغتري بأفعالهم، ولا تعتقدي فيهم العقل والذكاء.
ويحك أختاه!
مالك إلا أيامٌ معدودة، هي بضاعتك وما بقي من رأس مالك، فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها؛ لكنت مقصّرة في حقّ نفسك، فكيف إذا ضيعت البقية وأصررت على المعصية والرزيّة؟
فبادري أختاه فقد اقتربت الساعة وجاء النذير، فمن ذا يصلي عنك بعد الموت؟ ومن ذا يصوم عنك بعد الموت؟ ومن ذا يترضى عنك ربّك بعد الموت؟
فحقيقٌ بمن كان الموتُ موعده، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، والفزع الأكبر بين يديه، حقيقٌ به ألا يغفل عن طاعة الله، ولا يتوانى في عبادته وذكره وشكره والاستعداد للقائه..
ويحك أختاه!
أما تستحين؟ تُزينين ظاهرك للخلق، وتبارزين الله في السرّ بالعظائم؟ أفتستحين من الخلق ولا تستحين من الخالق؟
ويحك.. أهو أهون الناظرين عليك؟
ويحك.. ما أجهلك وأجرأك على المعاصي!
ويحك.. كم تعقدين فتنقضين!!
ويحك.. كم تعهدين فتغدرين!!
ويحك.. أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا؟ جمعوا كثيراً، وبنوا مشيداً، وأمّلوا بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً، وبنيانُهم قبوراً، وأملهم غروراً..
ويحك أختاه..
أمالك بهم عبرة؟ أمالك إليهم نظرة؟
أتظنين أنهم دُعوا إلى الآخرة وأنت من المخلّدين؟
هيهات هيهات! ساء ما تتوهمين..
ما أنت إلا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك.
فابني على وجه الأرض قصرك، فإن بطنها عن قليل سيكون قبرك..
ويحك أختاه !
تُعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك، وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك؟
فكم من مستقبل يوماً لا يستكمله، وكم من مؤمل لغد لا يبلغه..
فانظري أختاه بأي بدنٍ تقفين بين يدي الله؟
وبأي لسان تجيبين، وأعدي للسؤال جواباً، وللجواب صواباً..
واعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال..
وفي دار زوال لدار مُقامة..
وفي دار حزنٍ ونصب لدار نعيم وخلود..
اعملي أختاه.. قبل أن يحال بينك وبين العمل..
وليكن نظرُك إلى الدنيا اعتباراً.. وسعيك لها اضطراراً.. ورفضك لها اختياراً..وطلبك للآخرة ابتداراً..
ولا تكوني ممن يعجزُ عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، وينهى الناس ولا ينتهي..
واعلمي أختاه..
أنه ليس للدين عوضٌ، ولا للإيمان بدلٌ، ولا للجسد خلفٌ، ومن كانت مطيته الليل والنهار فإنه يُسار به وإن لم يسر..
فلا تيأسي أختاه من رحمة أرحم الراحمين، فهو ينادي عباده في كتابه الكريم قائلاً:
{ قُلْ يعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.وَأَنِـيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ.وَاتَّبِعُـواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ.أَن تَقُولَ نَفْسٌ يحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ }[الزمر:53-56].
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أخوكم/ مجاهد
أختاه..
اعلمي أن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، وقد خُلقت أمّارة بالسوء، ميّالة إلى الشر، فرّارة من الخير، وقد أمرك الله بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربّها وخالقها، ومنع شهواتها المحرمة..
فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفري بها بعد ذلك، وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والمحاسبة والملامة؛ كانت نفسُك هي النفس اللوّامة التي أقسم الله بها ورجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة إلى الدخول في زمرة عباد الله راضية مرضية؛ قال تعالى { يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ.ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً.فَادْخُلِي فِي عِبَادِي.وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر:27-30]
الخطب الجسيم
عجباً أختاه..
كيف تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت لا تبالين بمعصية الله تعالى وارتكاب ما نهى عنه..
أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار؟ وأنك صائرة إلى إحداهما.. فكيف تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو واللعب، وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم؟
فإن كنت تطمعين في التوبة حين يتقدمُ بك السن، فتدركين الشهوات واللذات في شرخ شبابك وتفوزين بالتوبة الماحية للخطايا عند كبرك وهرمك.. فما أطول أملك وما أشدّ جرءتك على ربّك؛ إذ كيف ضمنت طول العمر؟
وكيف تيقّنت التوفيق للتوبة؟ وعساك اليوم تُختطفين أو غداً، فأراك ترين الموت
بعيداً، ويراه قريباً؟
أما تعلمين أن كل ما هو آتٍ قريب، وأن البعيد ما ليس بآتٍ؟ أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير موعدٍٍ ولا مقدّمات؟ أما تعلمين أن الموت ليس له وقت محدّد ولا زمن محدد، ولا عمر محدّد، فلا يأتي في شتاء دون صيف، ولا في صيف دون شتاء، ولا في نهارٍ دون ليل، ولا في ليلٍ دون نهار، ولا يأتي في الصّبا دون الشباب، ولا في الشباب دون الصبا. بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، فإن لم يكن الموت فجأةّ، فيكون المرضُ فجأة، ثم يفضي إلى الموت فالنتيجة واحدة.. هي الموت..
فمالك لا تستعدّين للموت وهو أقرب إليك من كلّ قريب؟
أما تتدبرين قوله تعالى { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ. مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ.لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ }..
ويحك أختاه !!
إن كانت جرأتك على معصية الله لا عتقادك أن الله لا يراك، فهذا ناقضُ صريح من نواقض الإيمان، ولست أراك تعتقدين هذا المعتقد الباطل الرديء..
وإن كانت جراءتُك على معصية الله مع علمك باطّلاعه عليك فأين حياؤك من الله؟ وأين خوفك منه وتعظيمك له؟
ويحك أختاه !!
لو واجهتك إحدى صديقاتك بما تكرهينه، كيف سيكون غضُبك عليها ومقتُك لهـــا؟
فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه؟ أفتظنين أنك تُطيقين عذابه؟ هيهات هيهات!!
جربّي نفسك إن ألهاك البطرُ وشغلتك الغفلة عن أليم عذابه.. فاقعدي ساعة في الشمس.. أو قرّبي إصبعك من النار؛ ليتبيّن قدرُ طاقتك؟ فهل تُطيقين ذلك؟
فإذا كنت لا تُطيقين أن تقعدي ساعة في الشمس، ولا تطيقين أن تُقرّبي إصبعك من نار شمعة، فكيف تطيقين ناراً وقودها الناس والحجارة؟ ناراً هي أعظم سبعين مرةً من نار الدنيا مجتمعة..
الرجاء الكاذب
ولعلك أختاه تغترين بكرم الله وفضله ورحمته، وترددين دائماً أن الله غفور رحيم..
وهذا ليس من إحسان الظن في شيء؛ لأن إحسان الظنّ لابد أن يكون معه إحسان العمل.
أما إساءة العمل والتعويل على كرم الله وفضله ورحمته، فهو من الغرور والأماني الباطلة قال تعالى: { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ }، وقال تعالى:{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى.وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى.ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى.وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى }[النجم:39-42]، ولماذا تنسين في زحمة الرجاء الكاذب أن الله شديد العقاب كما قال سبحانه:{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ }، وقال سبحانه:{ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }، وقال تعالى: { وَلَـكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }، وقال سبحانه في الذين يستحقون رحمته: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }، وقال تعالى: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }. وما مثلك أختاه إلا كمثل عبد يأمره سيده كل ساعة بأمر وينهاه عن نهي؛ ثم إن هذا العبد لا ينفذ لسيده أمراً، ولا ينتهي له عن نهي، وهو مع ذلك منتظرُ لهدايا سيده واثقُ من ثنائه عليه متوقع رضاه عنه وحسن جزاءه له !
ويحك أختاه: هل تنتظرين يوماً يأتيك لا تعسُر عليكِ فيه مخالفة الشهوات؟ هذا يومٌ لم يخلقه الله قطّ، فلا تكون الجنّةُ قط إلا محفوفةً بالمكاره، ولا تكون المكاره قطُّ خفيفة على النفوس.
ويحك أختاه..
أما تتأملين منذُ كم تَعدين نفسك وتقولين: غدًا.. غدًا.
فقد جاء الغدُ وصار يوماً فكيف عملتِ فيه؟
أما علمت أن الغد الذي جاء وصار يومًا كان له حكم الأمس، لا بل الذي تعجزين عنه اليوم فأنتِ غداً عنه أعجزُ وأعجز؛ لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التي طولب العبد بقلعها، فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخّرها، كان كمن عجز عن قلع شجرةٍ وهو شابٌ قوي، فأخرها إلى سنة أخرى، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوةً ورسوخًا، ويزيد القالع ضعفًا ووهنا، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قطّ في المشيب، بل من العناء رياضةُ الهرم، و'من التعذيب تهذيب الذيب' (الذئب)، والقضيب الرطب يقبلُ الانحناء، فإذا جفّ وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك.
اصبري ساعة
ويحك أختاه..
إن كان الذي يمنعك عن الاستقامة هو محبتُك للشهوات وحرصُك على لذّاتها وقلةُ صبرك على مشقة تركها، فإن كنت صادقة في ذلك، فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية المباحة التي لا إثم فيها ولا معصية..
فإن كنتِ تتطلعين إلى ماهو أعظم من ذلك فاصبري ساعة لتتمتعي بالشهوات الدائمة
التي لا تزول أبد الآباد.. فما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ثلاثة أيام ليصحّ ويهنأ بشُربه طول عمره، وأخبره أنه إن شرب ذلك مرض مرضًا مزمنًا، وامتنع عليه شربه طول العمر، فما مقتضى العقل في قضاء حقّ الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر، أم يقضي شهوته في الحال خوفًا من ألم المخالفة ثلاثة أيام؟
وجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد، الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار
أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر وإن طالت مدّته.
وليت شعري.. ألم الصبر عن الشهوات أعظم شدةً وأطول مدة.. أو ألم النار في دركات جهنّم، فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، فكيف يطيق ألم عذاب الله؟
عمرك عمرك
ويحك أختاه..
لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا، ولا يغرنّك بالله الغرور (الغرور: الشيطان )، فانظري لنفسك، واهتمي لأمرك، ولا تضيّعي أوقاتك، فالأنفاس معدودة، فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضُك.. فاغتنمي الصحة قبل السقم، والفراغ قبل الشغل، والغنى قبل الفقر والشباب قبل الهرم، والحياة قبل الموت، واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها برد الشتاء أم زمهرير جهنم !
ويحك أختاه.. انظري لنفسك حينما يقدُم الشتاء.. أما تستعدين له بقدر طوله مدته،
فتجمعين له الطعام والشراب والملابس الثقيلة وأدوات التدفئة وجميع الأسباب الأخرى، أفتظنين أن زمهرير جهنم أخفّ برداً وأقصر مدةُ من زمهرير الشتاء؟ لا يمكن أن يتصوّر ذلك عاقل، فليس هناك مقارنة بينهما أصلا ً..
إذًا فلماذا تستعدين للأخف الأهون، وتهملين الأشد الأعظـــم؟ أليس هذا دليلاً على الغفلة وضعف الإيمان والجهل بحقائق الأمور وعواقبها؟
أتظنين أن ستنجين بغير سعي ولا عمل؟ هيهات !! فكما لا يندفع برد الشتاء إلا بما ذكرتُ من الأسباب، فلا يندفع حرُّ النار إلا بحصن التوحيد، وخندق الطاعات، والبعد عن المعاصي والمنكرات.
النظر القاصر
ويحك أختاه..
اعلمي أن كلّ من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها، مع أن الموت من ورائه، فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة، وإنما يتزود من السُمّ المهلك وهو لا يدري.. أو ما تنظرين إلى الذين مضوا، كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا، وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم؟ أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤمّلون ما لا يدركون.
يبني كلّ واحدٍ قصراً مرفوعاً إلى جهة السماء، ومقرّه قبرٌ محفور تحت الأرض، يعمر الواحد دنياه وهو مرتحلٌ عنها، ويُخرب آخرته وهو صائر إليها قطعًا.. فلا تلتفتي أختاه إلى هؤلاء.. ولا تغتري بأفعالهم، ولا تعتقدي فيهم العقل والذكاء.
ويحك أختاه!
مالك إلا أيامٌ معدودة، هي بضاعتك وما بقي من رأس مالك، فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها؛ لكنت مقصّرة في حقّ نفسك، فكيف إذا ضيعت البقية وأصررت على المعصية والرزيّة؟
فبادري أختاه فقد اقتربت الساعة وجاء النذير، فمن ذا يصلي عنك بعد الموت؟ ومن ذا يصوم عنك بعد الموت؟ ومن ذا يترضى عنك ربّك بعد الموت؟
فحقيقٌ بمن كان الموتُ موعده، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، والفزع الأكبر بين يديه، حقيقٌ به ألا يغفل عن طاعة الله، ولا يتوانى في عبادته وذكره وشكره والاستعداد للقائه..
ويحك أختاه!
أما تستحين؟ تُزينين ظاهرك للخلق، وتبارزين الله في السرّ بالعظائم؟ أفتستحين من الخلق ولا تستحين من الخالق؟
ويحك.. أهو أهون الناظرين عليك؟
ويحك.. ما أجهلك وأجرأك على المعاصي!
ويحك.. كم تعقدين فتنقضين!!
ويحك.. كم تعهدين فتغدرين!!
ويحك.. أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا؟ جمعوا كثيراً، وبنوا مشيداً، وأمّلوا بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً، وبنيانُهم قبوراً، وأملهم غروراً..
ويحك أختاه..
أمالك بهم عبرة؟ أمالك إليهم نظرة؟
أتظنين أنهم دُعوا إلى الآخرة وأنت من المخلّدين؟
هيهات هيهات! ساء ما تتوهمين..
ما أنت إلا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك.
فابني على وجه الأرض قصرك، فإن بطنها عن قليل سيكون قبرك..
ويحك أختاه !
تُعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك، وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك؟
فكم من مستقبل يوماً لا يستكمله، وكم من مؤمل لغد لا يبلغه..
فانظري أختاه بأي بدنٍ تقفين بين يدي الله؟
وبأي لسان تجيبين، وأعدي للسؤال جواباً، وللجواب صواباً..
واعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال..
وفي دار زوال لدار مُقامة..
وفي دار حزنٍ ونصب لدار نعيم وخلود..
اعملي أختاه.. قبل أن يحال بينك وبين العمل..
وليكن نظرُك إلى الدنيا اعتباراً.. وسعيك لها اضطراراً.. ورفضك لها اختياراً..وطلبك للآخرة ابتداراً..
ولا تكوني ممن يعجزُ عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، وينهى الناس ولا ينتهي..
واعلمي أختاه..
أنه ليس للدين عوضٌ، ولا للإيمان بدلٌ، ولا للجسد خلفٌ، ومن كانت مطيته الليل والنهار فإنه يُسار به وإن لم يسر..
فلا تيأسي أختاه من رحمة أرحم الراحمين، فهو ينادي عباده في كتابه الكريم قائلاً:
{ قُلْ يعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.وَأَنِـيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ.وَاتَّبِعُـواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ.أَن تَقُولَ نَفْسٌ يحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ }[الزمر:53-56].
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أخوكم/ مجاهد
المصدر: خاص بإذاعة طريق الإسلام
- التصنيف: