اختلال الموازنات.. في فقه الأزمات

منذ 2005-05-03

« <span style="color: #3366FF">يخرج قوم من أمتي في أخر الزمان ....... يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ..</span> »


ألقت أحداث الأسابيع الماضية بثقلها علينا، وأصابت بهول صدمتها ذهول وأسف وحنق كل من رأى ذلك التخريب والتفجير والترويع الهائل الذي أصاب قلوبنا في سوداءها، قبل ان يصاب بها رجال الأمن وأهل هذه البلاد من الآمنين والمستأمنين..

ولعل هذا المصاب الجلل دفع الكثير للتعبير عن استياءه لما وقع من تفجير بالاستنكار والتنديد أو بالدراسة والتنظير..

ولعلي في هذا لمقال أن أنظر إليه من زاوية الخلل والخلط الفقهي الذي وقع به أولئك المفجّرون والانهيار الكلي للبناء التأصيلي الذي يقوم عليه حكمهم الشرعي للمخالفين، سواءٌ أكان ذلك بفتاواهم حول إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب أو تسويغهم قتل الامنيين والمستامنين أو حربهم الأن مع رجال الأمن والمواطنيين..

والملاحظ أن هناك صور من الخلل الفقهي في الاجتهاد وغياب كلي للتأصيل الشرعي في النظر في قضايا الأمة، وغفلة خطيرة عن مقاصد الشريعة وقواعدها الكلّية، فضلاً عن المسائل الفرعية والجزئية.

فأحببت أن ألقي الضوء على أهمّها من أجل حمايةٍ لفكر الشباب وتحصين للغافلين الطيبين من أبناء المسلمين من خطر تلك الشبهات المضلة والانحرافات المهلكة، أوجزها فيما يلي:

- الجهل وتحسين الظن بالعقل مع الغرور بالنفس، وهذه الأمور مجتمعة سبب كبير في الخروج عن الاعتدال المطلوب إلى الجنوح والإحداث في الدين. يقول الله عز وجل: { يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ }، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "إن الإحداث في الشريعة إنما يقع إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة".

والناظر في سمات أهل الأهواء والجنوح والبدع، يجد قاسماً مشتركاً من الجهل الذي يصدهم عن الفهم والفقه في الدين، والهوى الذي يعميهم عن رؤية الحق والصواب, وهذا ما يجمع في العادة بين أطرافهم المتناقضة وأطيافهم المختلفة.

ومصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: « يخرج قوم من أمتي في أخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.. ». رواه البخاري.

- ويحدث الخلل أيضاً عندما تقدم آراء البشر على نصوص الشرع الحكيم، وهذا الأمر وإن كان مردوداً من الناحية النظرية، إلا أن الواقع شهد بهذا الخلط بين تنزيل أقوال الرجال مكان نصوص الشرع والدفاع عنها والولاء والبراء من أجلها.

-ومن الخلل كذلك ترك تلقّي العلم من العلماء ومجالستهم والتتلمذ على الأصاغر والنكرات أو الأخذ من كتب أهل الأهواء، وجمع الغرائب من الأقوال والآراء واعتمادها حجة على النصوص، والأدهى من ذلك أن بعضهم يحتج بما في الانترنت من بحوث وفتاوى ممن لا يعلم قائله ولا مصدره ويشك في أصل صحته.

والمتأمل في التاريخ الإسلامي يجد أن هناك صفحات منه تعيد نفسها هذه الأيام، وتتكرر أحداثها اليوم بما يشبه البارحة.. ولكننا كثيرا ما نجهل التاريخ وأحداثه وإذا قرأناه لا نعي حقيقة دروسه المستفادة وعبره الغابرة..

واذكر لكم مثالاً واحداً على الموقف الفقهي السديد والتصرف الحكيم الذي يجب أن نستوعبه ونتأمله فيما يقع بنا من فتن, وهو ما حصل من فتنة في زمن الإمام الحسن البصري رحمه الله وهو من كبار التابعين علماً وفقهاً وورعاً وصرامة في الحق, وصاحب القولة المشهورة "الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل" ..

فقد ذكر ابن سعد في الطبقات: " كان الحسن والله من رؤوس العلماء في الفتن والدمـاء" ولهذا نجد مواقفه في الفتن التي حدثت في عهده ما يدل على سعة فقهه ونظره لمآلات الأفعال وحقائق الفتن، فلم يفت بقتال بين المسلمين ولم يأمر بنقض بيعة أو خروج على أحد وذلك أيام قتنة الحجاج وظلمه للناس , فلما استبطأ الناس والفقهاء الذين مع ابن الأشعث خروج الحسن البصري معه أرادوا أجباره على الخروج وحمله قسراً لقتال الحجاج , يقول ابن عون: "فنظرت إليه بين الجسرين وعليه عمامة سوداء، قال فغفلوا عنه، فألقى نفسه في بعض تلك الأنهار حتى نجا منهم وكاد يهلك يومئذ ".

ويروي ابن سعد هذه الأحداث ويقول: "لما كانت الفتنة فتنة ابن الأشعث والحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن، فقالوا: يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذا الطاغية (الحجاج) الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة وفعل وفعل؟

فقال الحسن: "أرى أن لا تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم وإن يكن بلاءٌ فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين".
قال: فخرجوا من عندي وهم يقولون: نطيع هذا العلج!
قال: وهم قوم عرب، قالوا: وخرجوا مع ابن الأشعث، قال: فقتلوا جميعاً".

أن من المهم للغاية أن نستفيد من تلك الأحداث دروساً نتعلم منها ما مضى ونستفيد منها فيما بقي؛ وقاية وهداية لشباب المسلمين من الوقوع في الفتن والإنحرافات الفكرية.

وأرى والله أعلم أن من أهم الدروس التي يجب أن نهتم بها ونراعيها في ميادين التعليم والتربية والعمل الإسلامي, التأكيد على البناء العلمي والفقهي لدى العاملين لدين الله، والتأصيل الشرعي لقضايا الأمة ونوازلها الحادثة من خلال قواعد التأصيل والإستدلال التي أمتازت بها أمة الإسلام عن باقي الأمم الأخرى, فيما يعرف بـ"علم أصول الفقه" ومسؤلية تبيين ذلك ملقاة على عاتق العلماء وطلاب العلم في الكليات والجامعات.

فعلم أصول الفقه من أجلّ العلوم وأشرفها, فهو يبحث في أدلة الأحكام وقواعد الاستنباط وكيفية الوصول إلى الحكم الشرعي في النوازل والمستجدات ولذلك كانت العناية به جليلة لشرف مقصوده، يقول ابن برهان البغدادي: "يعرف شرف الشيء وقدره بتقدير فقده وتصوير ضده ولو قدَّرنا فَقْد هذه المراسم المرعية والأحكام الشرعية الموضوعة لأفعال الإنسانية (أي أصول الفقه) لصار الناس فوضى هملاً مضاعين، لا يأتمرون لأمر آمر، ولا ينزجرون لزجر زاجر، وفي ذلك من الفساد في العباد والبلاد ما لاخفاء به. وقال شاعرهم وهو الأفوه الأودي:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

 

ولا سراة إذا جهالهم سادوا



فلذلك لا يجدُّ في حياة الناس أمر أو ينزل بهم حادث إلا وفي أصول الفقه الدليل المنطوق أو المفهوم على بيان حكمه ومراد الشرع فيه بما يضبط للناس حياتهم ويحقق لهم السعادة في الدارين.
د.مسفر بن علي القحطاني
الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
المصدر: موقع صيد الفوائد

مسفر بن علي القحطاني

أستاذ الفقه وأصوله بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن