بيان النيوزويك كيف يمكن تفسيره ؟

منذ 2005-06-03
قرأت المادة التي أعدها محرر "النيوزويك" مارك وايتكار -وذلك على موقعهم الإلكتروني- في الاعتذار عن خبر تدنيس المصحف، وهذا نص ترجمته إلى العربية مع التحفظ على ما بين الأقواس المربعة:
"عدد 23 مايو:هل بعث تقرير النيوزويك موجة الاضطرابات القاتلة ضد الأمريكان في أفغانستان؟

هذا ما أوحت به أنباء الأسبوع الماضي حينما خرج الأفغان الغاضبون إلى الشوارع لينددوا بالتقرير المنسوب إلينا، والذي أفاد أن المحققين الأمريكان قد امتهنوا المصحف أثناء استجوابهم [إرهابي] مسلم [مشتبه فيه].
لقد ذعرنا كغيرنا عندما سمعنا عن العنف الذي خلف 15 قتيلاً وأعداداً من الجرحى.

ولكنني أعتقد أنه من المهم للجماهير أن يعرفوا ما كتبناه بالضبط؛ لم؟ وكيف تجلت الحقائق لاحقاً؟
قبل أسبوعين في عدد 9 مايو قدم ميخائيل أيسيكوف وجون باري مادة قصيرة في قسمنا بيريسكوب "Periscope" يفيد بأن محققي الجيش الأمريكي وجدوا دليلاً على أن جنوداً في مركز الاحتجاز في خليج قوانتانامو بكوبا، قد ارتكبوا انتهاكات أثناء محاولتهم دفع أحد [الإرهابيين] المشتبه فيهم للكلام، يتضمن ذلك حالة واحدة لإلقاء القرآن في المرحاض. وقد استقيا معلوماتهما من مصدر مطلع في الحكومة الأمريكية، وقبل أن نقرر هل ينشر أو لا استضفنا موظفين من قسم الدفاع -كل على حده- للتعليق.

أحدهما رفض أن يعطينا إجابة، والآخر اعترض على القصة ولكنه لم يفند مهاجمة المصحف.

على الرغم من أن وكالات الأنباء الكبرى الأخرى أذاعت أخبار مهاجمة المصحف وامتهانه معتمدة فقط على شهادات المعتقلين، فاعتقادنا أن روايتنا كانت لها أهمية إخبارية لأن موظفاً أمريكياً ذكر أن محققي الحكومة وجدوا هذا الدليل، ولذلك نشرنا الموضوع.

بعد عدة أيام بدأت الصحافة الباكستانية والأفغانية بالاهتمام بروايتنا، عندها كما أورد إفان توماس و رون مورو وسامي يوسفازي هذا الأسبوع بدأت الاضطرابات وامتدت عبر البلاد يلهبها المتطرفون والناقمون على الوضع الاقتصادي.

وفي الجمعة الماضية أخبرنا المتحدث باسم البنتاقون أن نظرة فاحصة لروايتنا تبين أنه ما كان ينبغي أن تتناول امتهان المصحف، وقال المتحدث أن البنتاقون كان قد حقق في قضايا امتهان أخرى ذكرها معتقلون فوجدها غير معقولة. وقال مصدرنا الأصلي لاحقاً: إنه ليس متأكداً مما إذا كان قرأ عن مزاعم حادثة القرآن في التقرير الذي اسشتهدنا به، أو أنه ربما وجد في وثائق تحقيقات أو مسودات أخرى. ووعد مسؤول حكومي بارز بالاستمرار في النظر في القضية، ونحن نعد بذلك كذلك، ولكننا نعتذر إذا ما أخطأنا في جانب من القصة، ونبسط تعازينا لضحايا العنف وللجنود الأمريكان الذين وجدوا أنفسهم وسط الحدث.
ملاحظة من تحرير النيوزويك:
بعد ظهر الاثنين 16 مايو ذكر ويتاكر هذه الجملة:
اعتماداً على ما نعرفه الآن، فإننا نتراجع عن روايتنا الأصلية والتي ذكرت أن تحقيقاً داخلياً في الجيش قد كشف عن إساءة للقرآن في خليج قوانتانامو".

انتهى كلام المجلة ولعلنا نلحظ أن هذا الكلام قد بدأ بسؤال هو: هل بعث تقرير النيوزويك موجة الاضطرابات القاتلة ضد الأمريكان في أفغانستان؟
وقد ترك المحرر فيه الجواب إلى فطنة القارئ ولم تسمح له نفسه ابتداءً بتخطئة المجلة أو خطة البنتاقون ولكنه اعتذر عن ما إذا كان خطأ من جانبهم قد وقع، وفي طيات المادة المنشورة وبالأخص في مقدمتها و خاتمتها ما يفيد بأن ضغطاً حصل على المجلة مفاده أن اصطلاء الأمريكان بالنيران التي أشعلتها المجلة خطأ منها ينبغي أن يصحح.

ويبدو أن قناعة المحرر لم تكن كافية ولهذا لم تأت استجابته كاملة لهذه الضغوط فأصدر يوم الأحد الماضي هذه المادة، ثم لما تكاثر النقد لم يجِدْ بداً من أن ينزل في يوم الاثنين التالي اعتذاره الرسمي وتراجع المجلة القاطع، وحيث أنه لم يكن هناك مبرر يذكر فلم يضف المحرر غير سطر التراجع والاعتذار! وهذا يوضح أن المحرر لا يمكنه أن يبرر هذا الصنيع إلاّ بما لا يمكن البوح عنه وهي الضغوطات المتزايدة التي تناقلتها وكالات الأنباء عن البيت الأبيض ووزارة الدفاع وقد صرحت بعض الوكالات قائلة:"هذا التراجع جاء بعد انتقاد شديد وجهته الحكومة الأميركية للمقال واعتبرته 'غير مسؤول' و'خاطئاً'. إلا أن البيت الأبيض رأى أن هذه الاعتذارات ليست كافية، وانتقد المتحدث باسمه سكوت ماكليلان موقف المجلة معتبراً أن "بعض قواعد الصحافة لم تحترم". وطالب المتحدث باسم الخارجية المجلة بالذهاب لما هو أبعد من "مجرد تصحيح".

وكانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قد وصفت المقال بأنه "مخيف" وأنه "خلق مشكلة خطيرة لواشنطن في العالم الإسلامي" الذي تسعى لتحسين صورتها لديه".
ولعل ما سبق يفسر ملابسات ظهور الاعتذار.

تأملات في التراجع مع اعتبار حقائق أخر تبين انحصار المسؤولية

لعله إذا تأملنا البيان السابق مع أخذ اعتبارات وحقائق أخرى في الحسبان نستطيع أن نفهم منه بجلاء ما يلي:
1- جاء خبر امتهان المصحف في عدة وكالات أنباء كبرى اعتماداً على شهادات الأسرى فقط. وقد صرح بذلك الصحفي المعروف إيفان توماس في تقرير أعده للنيوزويك أشار فيه إلى مصادر بريطانية وروسية وقناة الجزيرة العربية وغيرها وسوف يأتي ذكر بعضها في ختام هذا التقرير.

2- بَلّغ عدد من الأسرى المسؤولين الأمريكان بهذا الامتهان فوجدوه غير معقول ولم يبينوا لنا ما هو غير المعقول فيه!

3- بلغ خبر امتهان المصحف النيوزويك ابتداء عن طريق مسؤول رسمي مطلع بشهادة محررين قديرين هما ميخائيل أيسكوف والذي وصفه إيفان توماس بالمحرر المحنك، وهو صاحب اكتشاف البريد الإلكتروني الذي أثبت صور امتهان لبعض نزلاء قوانتانامو، ولم يكن ميخائيل هو الشاهد الوحيد على المسؤول بل كان معه صحفي آخر هو جون باري. ولعل هذا هو ما منع المصدر المطلع السنيور الأمريكي الذي لم يفصح عن اسمه من التراجع.

4- ثم قال هذا المسؤول المطلع هو غير متأكد أين قرأ عن ذلك الحادث بالضبط، وقد نقل الصحفي إيفان توماس في تقرير نشره في النيوزويك نفسها بنفس تاريخ البيان ما يوضح هذا التردد وبين أنه ينحصر في شكه هل قرأه في محاضر لتحقيقات القيادة الجنوبية كما ذكر ابتداء أو في محاضر أخرى! غير أنه واثق من قراءته للتقرير، الأمر الذي حدى بالناطق الرسمي باسم البنتاقون لورانس دايريتا عندما نقل له صحفيوا النيوزويك إصرار السنيور الحكومي على موقفه للصارخ قائلاً: "يموت الناس بسبب ابن البغي هذا.. كيف يكون مؤتمناً الآن" [مع اعتذار (المسلم) عن الألفاظ غير اللائقة]. وهذا يُشْعِر بأن السيور الأمريكي خشي أن تُخفى الأوراق في القيادة الجنوبية ثم يتهم بالكذب عليها فتقع التبعة عليه فكان من الذكاء بمكان كاف حداه إلى الاحتياط لنفسه، وعندها حُقَّ للناطق أن يغضب فلم يترك له مستمسكاً يكذبه به.

5- وبعد كل هذا وعدت المجلة كما وعد البنتاقون باستمرار النظر في القضية.

6- بعد فترة وجيزة من النظر! صدر تراجع من النيوزويك عن روايتهم المذكورة آنفاً والتي تفيد بأن تحقيقاً داخلياً في الجيش كشف عن إساءة للقرآن في قوانتانامو.

ونحن كمسلمين يسرّنا أن تبقى مكانة المصحف مرموقة محفوظة لا تمتد إليها يد السوء، وفي نفس الوقت لسنا بسذج أو على الأقل ينبغي أن نكون من الفطنة بمكان يجعلنا موضوعيين ومنصفين عند قراءة مثل هذه الأخبار.

ودعونا الآن لنقرأ النقاط الست الآنفة قراءة موضوعية..

هناك مسلمون معتقلون شهدوا حادث امتهان المصحف وأبلغوا عنه وكالات الأنباء كما قدموا فيه دعاوى للبنتاقون، وقد اتهم البنتاقون هذه الدعاوى بكونها غير معقولة ولم يبين لنا كيف ذلك وما هو غير المعقول فيها؟
فالجرم ينقله ويثبته شهود العيان ولا حجة للنافي إلاّ أن ذلك غير معقول فهل يعقل هذا!
ثم ما هو الدافع وراء افتراء مثل هذا الموضوع من قبل المعتقلين ليقدموا فيه دعوى؟ لو كانت الدعاوى حقوقاً شخصية لقلنا قد يطالبنوكم بتعويضات جراءها فتكون لهم نفعاً، ولكن مثل هذه القضية ما النفع المرتجى لهم من ورائها، طالما أنها متعلقة بحق عام يشترك فيه مليار مسلم؟

لقد حاول النطاق الرسمي باسم الجيش الأمريكي الكولونيل براد تفسير ذلك بقوله لبعضهم: "لو أنك قرأت الإرشادات التدريبية للقاعدة، لقد دربوا على اختلاق الدعاوى ضد الكفار"، ولا أدري من أثبت أن المعتقلين الذين بلغوا عن الحدث هم من القاعدة أصلاً وإذا كانوا منها فلماذا أفرجوا عنهم! وكيف نفسر انتماء بعضهم لمؤسسات إسلامية إغاثية ودعوية محترمة مع اختلاف أيدلوجيات بعضهم عن فكر القاعدة؟ وهل يستطيع أن يثبت الناطق الرسمي تلك الدعوى التي ذكرها عن القاعدة، وهل يستطيع أن يثبت أنهم قاموا بتطبيقها هنا أم هي مجرد كلمات لرفع الحرج عن جيشه؟

ثم لنفرض -جدلاً- صحة ما قاله البنتاقون فمن المسؤول عن الضحايا الأبرياء الذين سقطوا جراء خبر النيوزويك ما بين قتيل وجريح؟
وهل سوف يعيد اعتذار المجلة ميتاً أو يبرئ جرحاً؟
لقد حاول محرر النيوزويك اللف والدوران ليرمي بحمل العبء من فوق ظهره فأشرك في نقله وكالات أخبار أخرى وكأنه يومئ إلى أنه لا يمكن أن تعد مجلته السبب الوحيد لتلك الكارثة، ثم بين أن خطأهم لم يكن من تلقاء أنفسهم وإنما هو إفادة مسؤول مطلع.
ونحن لا يهمنا كيف حصلت النيوزويك على الخبر هل كذب عليهم المسؤول، أو كذب عليهم الناطق باسم البنتاقون. وإنما يهمنا إذاعتهم له التي تحملهم تبعته أولاً فيجب عليهم تحمل مسؤولية ما نشروا وما نجم عن نشرهم ثم عليهم أن يتولوا محاكمة من غرر بهم أو أساء من موظفيهم إن أرادوا فهذا شأن يخصهم.

وأما كونهم ليسوا بمفردهم من أشار إلى مثل هذا الأمر فلا يعفيهم إذا أن المظاهرات اندلعت بسبب تقريرهم فهو يتضمن إقراراً من مسؤول، بخلاف الآخرين الذين ينقلون أخباراً عن أسرى، ولعله من المناسب أن تشبه الضجة الإعلامية حول هذا الموضوع برصاصات طائشة أطلقها الإعلام فأصابة خمسة عشر شخصاً في مقتل فلما بحثنا عن مصدرها أشارت الدلائل للنيوزويك ومن الأسباب التي تدعو إلى هذا القول هو أن مجرد نقل خبر عن امتهان المصحف من قبل الجنود الأمريكان نشر مراراً في مصادر كثيرة ومن نحو ما يربو على العام فلم تثر ثائرة أحد كما ثارت إثر هذا الإقرار المتضمن في التقرير.

ثم هب أن المظاهرات اندلعت بسبب تقريرهم هذا وبسبب غيره من التقارير فإن ذلك يحمل المسؤولية للجميع و لا يذهب دماء الضحايا هدراً؟
فإن ما تناقلته وسائل الإعلام من أخبار حول انتهاك قدسية ما تضمنته المصاحف لا يخلو إما أن يكون حقاً أو باطلاً، فإذا كان حقاً وجب على الحكومة الأمريكية تحمل مسؤوليتها والإقدام بشجاعة على الإقرار بجرم منتسبيها بل بجرمها.

وأما إن كان باطلاً فإن هذا الكذب الباطل هو الذي تسبب في إزهاق أرواح بريئة وتدمير ممتلكات محترمة وإيغار جروح في صدور المسلمين لن تندمل بل قد دفنت مع بعضهم في قبورهم. فهل يُعفى الناشرون لهذا الكذب الباطل بالرغم من عظيم آثاره لمجرد أنهم أسندوا القول إلى آخرين كذبوا عليهم؟

إذا ساغ لنا القول بذلك في حق الجميع فلا يسوغ لنا ذلك في حق النيوزويك خاصة والتي لم تنقل عن أسير أو شخص مجهول لا يمكن الاعتماد على ادعائه بل نقلت عن مصدر مطلع سنيور أمريكي لازال مصراً على ما قاله، وبهذا تنحصر التهمة بين هذا المصدر والمجلة والبنتاقون الذي يصر على عدم الثبوت.


اجتهادات مضنية للتهرب من المسؤولية

لقد حاول إيفان توماس في تقرير له أسهم معه فيه كلاً من سامي يوسفازاي من بيشاور، ورون مريو وزاهد حسين في إسلام أباد مع وإيفا كوننات وأندرو هورش من واشطن، حاول أن يحمل مسؤولية ما نجم عن تقرير النيوزويك لجهات أخرى تتلخص في الظروف السياسية والاقتصادية السيئة لأفغانستان بالإضافة إلى (الشماعة) المعهودة؛ المتطرفون الإسلاميون، الذين اتهموا باستغلال الظروف واستخدام تقرير النيوزويك لتحقيق أغراضهم الخاصة.

إلاّ أنه تفطن إلى عدم قبول العقل لهذا التفسير فرجع واعترف بأن هذا القول لا يمكن أن يفسر امتداد موجة التظاهرات وانسحابها على العالم الإسلامي بهذا الشكل. الذي علق عليه بقوله: "بالنسبة للمسلمين يبدو أن طمس الكتاب الكريم شنيع جداً" ولاشك أن هذا حق والواقع شاهد عليه، بيد أن ما يشير إلى خطأ التفسير بمصادفة تزامن التقرير مع ظروف اقتصادية وسياسية لأفغانستان صعبة حاول استغلالها من وصفهم بالمتطرفين يمكن تفنيده أيضاً بالنظر إلى جوانب أخرى غير ما ذكر ومن أظهرها أن هذه الأوضاع في أفغانستان ليست وليدة اليوم بل قد ولدت كبيرة منذ يوم الاحتلال الأول، كما أن تقارير امتهان المصحف كانت تتوالى منذ أكثر من عام ولكن لم تكن هناك جهة مدانة مسؤولة وإنما هي تصريحات أسرى لا مسؤولين أمريكان.

والحق أن التقرير قد أثار غضب عامة المثقفين المطلعين من المسلمين ابتداء قبل أن يثير غضب من وصفهم بالراديكالية أو الأصولية، وقد جاء في تقرير إيفان توماس هذا نفسه إرجاعه اهتمام الصحافة الباكستانية والأفغانية إلى حادثة لاعب الكريكت الشهير عمران خان الذي أخذ نسخة من النيوزويك بتاريخ 9مايو وقرأ التقرير عن المحققين الذين رموا بالقرآن في المرحاض وهتف: "هذا ما تفعله الولايات المتحدة تمتهن القرآن".
ثم هب أن متطرفين حقاً هم من أثار الحدث فالسؤال الذي ينبغي أن يتوجه حينها: هل إثارة هؤلاء للحدث بحق أم بباطل اختلقوه لم تكن للمجلة فيه يد؟ وهنا مربط الفرس.


هل ضاعت الحقيقة حول امتهان المصحف؟

لا يبدو ذلك مع أن هناك محاولات مستميتة من النيوزويك وخلفها الحكومة الأمريكية ممثلة في وزراه الدفاع والخارجية والبيت الأبيض لإضاعة الحقيقة، فقد انتقد دون ألد رامسفلد المجلة هو ومتحدثه وكذّبا الخبر، كما انتقدت تلك التصريحات كل من الخارجية على لسان كوندليزا رايس، والبيت الأبيض على لسان الناطق باسمه سكوت ماكيلان.

ولعل هذا التكذيب اختيار منهم لأحسن الأسوأ! فهم يعدون تراجع المجلة خطوة جيدة ولكنه لا يصلح كل الضرر كما قال سكوت ماكيلان حسب إفادة وكالات الأنباء العالمية كالبي بي سي، وقد أردف ماكيلان قائلاً: "للتقرير تداعيات حقيقية لقد فقد أناس أرواحهم".

ولاشك أن هذا أهون من ثبوت تهمة امتهان المصحف على الجنود التي تتحمل الحكومة الأمريكية مسؤولياتهم كما أشارت إلى ذلك كوندليزا رايس قائلة حسب ما أورد إيفان توماس في تقريره الآنف: "كمسألة قانونية، المواطنون أحرار في طمس القرآن كممارسة لحرية التعبير، تماماً كما هم أحرار في إحراق علم أمريكا أو تمزيق الإنجيل، لكن الموظفين الحكوميين يمكن أن يعاقبوا لانتهاكهم قوانين الحكومة"، وعلى الرغم من أن كلام هذه المسؤولة فيه شيء من التلبيس فقد شبهت حرق المصحف أو التوراة بحرق العلم الأمريكي أو تمزيقه، وعدت ذلك كله من حرية التعبير بالنسبة للمواطن العادي مع أن بين الصورتين فرق كبير فإحراق العلم الأمريكي تعبير يقوم به جميع الناس مسلمهم ونصرانيهم فهو لا يمثل امتهان ديانة اسمها أمريكا، وإنما يشعر بازدراء حكومتها، ولهذا فإن الملايين يشاهدون حرق العلم الأمريكي في الصين الشيوعية، وفي اليابان البوذية وفي كوريا الشمالية وفي أوربا النصرانية وكذلك في الشرق المسلم.

أما إحراق المصحف فهو تعد على مقدسات ومعتقدات لا يكفل القانون إباحة التعدي عليها، ولو خيرت مسلماً ما بين سبه أو سب القرآن لاختار سب نفسه طائعاً راضياً وآخرون ربما افتدوه بأنفسهم كما حدث في مظاهرات أفغانستان التي أزهقت فيها خمسة عشر نفساً.
وعوداً على كلمة رايس فالمفيد فيها هو إقرارها بأنه إذا ثبت صدور هذا الحكم من موظفين حكوميين فإن له حكم خاص لا ينبغي أن يتجاوز.


وبعد تقرير هذه الحقائق، وعوداً على السؤال المصدر هل ضاعت الحقيقة حول امتهان المصحف؟
يمكننا القول بأن هناك ثلاثة احتمالات نستطيع أن نخلص إليها من هذه الضجة:
1- صدق التقرير الأول وصحة ما قاله المتحدث والمسؤول المطلع الذي رفض التصريح عن اسمه وأصر على أنه قد قرأ التقرير.

2- صدق ما ادعاه لورانس دايريتا المتحدث باسم البنتاقون والذي وصف زميله الأول بأبشع الأوصاف جراء إصراره على قوله وبالتالي صحة تراجع المجلة.

3- ضياع الأمر بين الأول والثاني وفقدان الحقيقة إلى حين ظهور حقائق أخرى.

ولعله لا يوجد ما يدفع نحو الاحتمال الثالث كافة المحايدين وبخاصة في ظل الحقائق التالية:
- قال إيفان توماس: "بدأت تقارير مماثلة في الربيع والصيف الماضيين في الظهور في الأنباء البريطانية والروسية ووكالة الأنباء العربية الجزيرة" يعني عن امتهان المصحف، إذا فالمصادر التي تثبته متعددة.

- أفاد مارك فالكوف محامي الدفاع الذي يمثل 13 يمنياً من معتقلي قوانتانامو بأن 23 معتقلاً قد حاولا الانتحار عندما أهان جندي المصحف أمامهم.

- أفاد بدر الزمان بدر (35) سنة وهو محرر سابق في مجلة ناطقة بالإنجليزية في بيشاور وكان قد أفرج عنه قبل سبعة أشهر بعد أن قضى أكثر من عامين في قوانتانامو أنه أثناء تفريغ مراحيض النزلاء بمخيم في قندهار أثناء الطريق إلى قوانتانامو قام جندي أمريكي بإلقاء المصحف وبعد صراخ واحتجاج الموجودين اعتذر القائد الأمريكي.

- بحسب إفادة السي إن أن بتاريخ 17/5/2005 في تقرير بعنوان (نيوزويك: أخطأنا في تقرير تدنيس القرآن) جاء ما نصه: "وفي يناير كانون الثاني قال سجناء بريطانيون أفرج عنهم من سجن قوانتانامو أن حراساً ألقوا بالقرآن في المراحيض وحاولوا إجبارهم على التخلي عن دينهم" وكذلك نقلت اللومند الفرنسية عنهم.

- وفي المصدر نفسه ما نصه: "وقال محامي حقوق الإنسان توم ويلند الذي يمثل عدة سجناء كويتيين في قوانتانامو فبراير/شباط أن موكليه أبلغوه أن المصحف الشريف ألقي على الأرض ووطء بالأقدام وألقي في المراحيض".

- وقال معظّم بك للومند الفرنسية وهو أحد المساجين البريطانيين بقوانتانامو الذي أطلق سراحه يوم 26 يناير/كانون الثاني الماضي إنه من المشتهر بين السجناء أن جنديا أميركيا ألقى مصحفا في مكان مخصص لقضاء الحاجة، وأنه رأى في بغرام في نفس السنة (2002) عدة أحداث أغضبت المساجين منها وضع جندي أميركي مصحفا في الحمام. وقال معظم بك إن رجوع نيوزويك عما نشرته حماقة، لأن الأمر يعرفه كثير من الناس ويقولونه، غير أن الغريب هو نشرها له في هذا الوقت بالذات مع أنه ذكر منذ فترة طويلة.

- وقال جمال الحارث -وهو سجين سابق آخر بقوانتانامو أطلق سراحه في مارس/آذار 2004- إن أحد المحققين داس المصحف الشريف، وأن المساجين أضربوا عن الطعام مرة بسبب إلقاء حارس أميركي مصحفاً في مكان قضاء الحاجة".

- وقد نشرت الجزيرة تحت خبر بعنوان: " واشنطن تطالب نيوزويك بمعالجة آثار تقرير تدنيس المصحف" هذا اليوم الأربعاء ما نصت فيه على تأكيد آخرين للخبر فقالت: "..وأكده العديد ممن أطلق سراحهم من معتقل قوانتنامو"، في إشارة إلى ما نقلته صحيفة ذا نيوز الباكستانية عن معتقل قوانتنامو السابق حافظ إحسان سعيد من أن المصحف كان يدنس بشكل روتيني.

- وتطابقت تصريحات المعتقل الباكستاني -الذي أطلق سراحه قبل ثمانية أشهر- مع ما ذكره معتقل أفغاني سابق بقوانتنامو لقناة تلفزيونية أفغانية من أن المحققين كانوا يدنسون المصحف بشكل روتيني خاصة في أيام الاعتقال الأولى, ويقولون للمعتقلين إنه لا أحد يمكنه أن يوقفهم" كما نقلت الجزيرة في تقريرها المشار إليه آنفاً.

- ونقلت القناة الأفغانية عن عبد الرحيم، الذي أمضى ثلاث سنوات بقوانتنامو قوله: "إن تدنيس المصحف دفع المعتقلين إلى الدخول في إضراب عن الطعام لم يضعوا حداً له إلا بعد اعتذار قدمه مسؤول أميركي رفيع المستوى".
فهذه كلها وغيرها شهادات تؤكد امتهان المصحف من قبل الجنود الأمريكان وتنصر الاحتمال الأول وهو قول المتحدث الرسمي المطلع الذي نشرت النيوزويك الخبر عنه ابتداء.

وإذا كان محرروا النيوزويك يحاولون إيهام الناس بالرأي الرسمي المعلن وهو أن هذه القصص لا تثبت وأن أمراء الحرب يحاولون إدارتها على نحو واسع وأن من قالها ليس معه حجة أو دليل يؤيد ما يقول.
فإن منطق العقل والإنصاف يقضي بأن شهادات هذا الجم الغفير لايمكن أن تتواطأ على الكذب على نحو هذا الاتهام المتكرر وبمثل هذه التفاصيل على الرغم من لطف الجنود الأمريكان وتعاملهم الراقي معهم!
وإذا لم يثبت الاتهام بشهادة العشرات فبأي شيء يثبت؟

وما الذي يدفع المحايدين إلى أن يصدقوا المتحدث باسم البنتاقون القابع بمكتبه في الوزارة وتكذيب هؤلاء جميعاً رغم معارضة آخرين مسؤولين مطلعين في الحكومة له؟

أما عموم الأمريكان فأياً ما كان الآن، فإن الليالي والأيام جديرة بكشف ما لم يكن في الحسبان.

ولعل مما يساعد على إظهار الحقيقة لهم مطالبة النيوزويك من قبل المتضررين في انفجار الأحداث بعد تراجعها بالتعويضات المرضية عن النفوس التي أزهقت بسبب خبرها وعن المئات الذين تضرروا في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه.

وأرجو أن تكون هذه هي أول الطريق نحو الإقرار بالحقيقة المتدافعة بين السياسة والإعلام الأمريكيين الذين بتنا نشك في مصداقيتهما مع الشك في انعتاق رقبة الأخير من أيدي الساسة في بلد تمثال الحرية!
المصدر: موقع المسلم