المساجد في مواجهة سنة نابليون
لم تستطع مطبعة نابليون وإعلامه ومناشيره أن تنتصر على المسجد، لم يكن بدا من تكميم الأفواه وهدم المساجد على رؤس أهلها؛ فإسلام نابليون يفرض على العلماء ألا يتكلموا في أمور السياسة وأن يتنحوا عن قيادة الأمة وما أشبه الليلة بالبارحة.
نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر في عام 1798م، قدم إلى مصر بأول جهاز إعلامي جماهيري "المطبعة" ليصدر المنشورات التي يخاطب بها الجموع.
وكانت أول منشورات الحاج محمد نابليون ( وفق ما أطلق عليه جنوده تهكما) تبدأ بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) والشهادتين أيضا؛ بل حرص على إظهار إسلامه هو وجنوده للشعب المصري، وكان فيما ساقه للدلالة على ذلك أنه قد حارب البابا الذي كان دائما يحرض على حرب المسلمين.
الحاج نابليون بونابرت كان قائدا لثورة تدعو للحرية، بدأت بامرأة علقت في رقبتها طبلة وخرجت تهتف خبز؛ وكان شعار الثورة الفرنسية ثلاث كلمات: الحرية والمساواة والإخاء.
ومن ثم حلت فرنسا على مصر وهي تحمل مفاهيم جديدة، الحرية والديمقراطية والحريات الشعبية ولكنها كانت مفاهيم خاصة بهم لا تمنح للمخالف -أما بالنسبة للشعوب الأخرى فهي مستعمراتهم الجديدة- إلا شعارات وحسب.
وهكذا حل نابليون على مصر؛ إلا أن المسجد في هذا الوقت كان قلب الأمة النابض؛ والعلماء الأئمة هم مصابيح الناس والشعب، فما خالت عليهم تلك الحيلة، وظهر الشيخ السادات، والشيخ الشرقاوي كبير العلماء وشارح البخاري، وعمر مكرم نقيب الأشراف الذي ميدانه الآن ومسجده هما جزء من ميدان التحرير.
وبعد أن احتل نابليون القاهرة خرجت عليه ثورة المساجد من الجامع الأزهر بقيادة العلماء "علماء الشريعة"، فيما عرف بثورة القاهرة الأولى.
فلم يتحمل دعاة الحرية مجرد رأي أهل العلم؛ فصدرت الأوامر من الحاج محمد نابليون بنصب المدافع على القلعة وألقيت القذائف على صحن الأزهر؛ وتحت وابل القنابل سقطت دعاوى الحرية، وأضحى الحديث لدانة المدفع والقتل لإمام المنبر، وإذ لم تستطع مطبعة نابليون وإعلامه ومناشيره أن تنتصر على المسجد، لم يكن بدا من تكميم الأفواه وهدم المساجد على رؤس أهلها؛ فإسلام نابليون يفرض على العلماء ألا يتكلموا في أمور السياسة وأن يتنحوا عن قيادة الأمة.
وما أشبه الليلة بالبارحة إذ ابتلينا بمن يريد أن يقطع شريان الأمة عن قلبها (المسجد) فأسسوا ونظروا وثبتوا لمنع المسجد من الحديث في السياسية وفي شأن الأمة العام، فلا يصح للإمام أن يتكلم في الدستور، ولكن يصح لكل من امتلك مالا، لا ندري من أين؟ أن ينشئ فضائية لتتكلم في ذات الشأن الممنوع على الإئمة، وكأن توجيه الرأي العام وتنويره هي لمن يملك المال وحسب.
وتلك هي أكبر آفة في ديمقراطيتهم أنها للأقوياء فقط، لمن يملك المال، فهو يملك الصحافة والإعلام ليشكل أفكار الناس كيفما يشاء ووفق هواه.
وهذا بعكس المسجد فهو للجميع، وبعكس الشرع فللجميع متى ملك أدوات الاستنباط أن يقول ويتكلم، لا يمنع أحد فقيرا كان أو غنيا، ضعيفا كان أو قويا، من أن يقول رأيه، لا يسفه أحد بحجة قلة علمه أو أميته، وإنما قليل العلم يُفهم والجاهل يُعلم، «فإنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه» كما جاء في حديث معاوية عند ابن أبي عاصم.
المسجد منبر مثله مثل الصحف والإذاعات فإن أردتم منع هذا فامنعوا ذاك أيضا، وإلا فتلك إذا قسمة ضيزي.
إن كان نابليون لم يعلم أن في القرآن الذي أنزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وأن فيه أيضا {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40]، وأن فيه أيضا {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ} [المائدة: 49]، وأنه فيه أيضا {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وأن فيه أيضا {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّـهُ} [النساء: 105]، وأن فيه {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الانعام: 162] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفة نبي، وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فيكثرون... » الحديث، فله عذره فهو لم يسلم ولم يعرف الإسلام، ولكن ما عذر المسلمين اليوم، الذين يريدون السير بنا على سنة نابليون.
وهل خطأ الإمام مبرر لقذف المسجد بالطوب القنابل الحارقة (الملوتوف) والتوعد بهدم المسجد، وتهديد الإئمة، وترويع النساء والأطفال؟ أليست تلك أيضا هي سنة نابليون حين أراد هدم الأزهر على أهله.
والذي يزيد الطين بلة حين ترى بعضهم يهتفون تسقط الدولة الإسلامية، أو الإسلام فين؟!!! نحن لن نقبل منكم بنظرية الحاج محمد نابليون، ولكن نقول للناس أن الآراء السياسية هي أيضا كالآراء الفقهية، لا بد أن تكون مستندة إلى دليل وهي في النهاية اجتهاد وليست قرآنا من يردها ويذهب لا اجتهاد آخر لا وزر عليه، إلا لو كان مائلا عن هوى محض وغرض فهو آثم لا محالة حتى وإن أصاب الحق، ولكن من استفرغ وسعه في طلب الحق فأخطأه فهو مأجور إن شاء الله، فإن أصاب فله أجران.
إن أهل الدين والفقه هم أكثر الناس إيمانا بالحرية وتعدد الآراء، والدليل على ذلك اختلاف المذاهب والمدارس الفقهية.
وأذكر حين كنا ندرس الفقه ما كنا نجد حرج في أن نستعرض المذاهب فنقول: مذهب الشافعي وأحمد في المسألة كذا وهو قول سفيان وابن المبارك، ومذهب مالك كذا وبه قال أبو يوسف صاحب أبي حنفية، ونمضي في استعراض مذاهب أهل العلم، ثم نقول والراجح هو قول فلان، أو نقول قد أخطأ الإمام في هذا القول، ومن شاء مثل هذا فليراجع كتاب بداية المجتهد لابن رشد، فهل رأيتم أحد يحترم المخالف بمثل هذا؟!، وهل رأيتم حرية في الرأي من قبل مثل هذا؟!، إني لا أجد غضاضة في أن استمع إلى إمام يخالفني الرأي ثم أقف لأرد عليه في أدب بالحجة والبيان لا بالسب والقذف.
ولو كان لهؤلاء حجة حقيقية لفعلوا مثل ما كنا نفعل في أيام المخلوع، فقد كنا نخالف البعض من أهل العلم في بعض الأقوال واستطعنا أن نظهر ما معنا من حق.
فلما لا يفعلوا هذا بدلا من الإرهاب وتكميم الأفواه وغلق المساجد ومنع الآذان والصلوات، واستبعاد الدين والسير وراء سنة نابليون، أما أننا أمام خطة شيعة خبيثة هدفها التجرأ على الإئمة والمساجد تحت ستار سياسي ولهذا محل آخر إن تأكد الأمر.
حاتم محمد
- التصنيف: