مُساجَلة للقائلين: (تهنئة الكافر بعيده جائزة)
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}
كتب أحد الإخوة المشايخ مقالاً بعنوان "تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم جائزة" معتبراً أن تهنئتهم بعيدهم ليس فيه معنى الرضى والإقرار بما يحمله العيد، وأن التهنئة من قبيل مجاملتهم وبرِّهم الذي لم ننه عنه شرعاً، حيث قال: "وتهنئة الكتابي في عيده إنما هي مجاملةٌ لشخصه بوصفه جاراً أو زميلَ عمل، وليست إقراراً بما حملته المناسبة من معانٍ دينية، ولسنا معنيين بالبحث في حيثيات هذه المناسبات وخلفياتها التاريخية".
وأنا أحب أن أسأل الشيخ حفظه الله:
● لو أن رجلاً مثلياً تزوج رجلاً وفقاً لقوانين الحرية التي شرعها الإباحيون، فهل يجوز أن نهنئه ونبارك له بوصفه جاراً أو زميل عمل، ولا يعد هذا إقراراً بالزواج المثلي ولا بما يحمله ويرتكز عليه من خلفية فكرية؟
● وكيف نجمع بين وجوب إنكار المنكر -حتى القلبي منه والذي ليس وراءه من الإيمان حبة خردل- وبين القيام بتهنئة من يتعاطى فاحشة قوم لوط؟
● وهل بإمكان الشيخ أن يخطب في الناس عن جريمة اللواط ثم يأخذ وفدا منهم لتهنئة اللوطيين مجاملة لهم؟ وحين نقول للوطي"مبارك فعلك" فهل هناك عاقل يفصل بين هذه الكلمة ودلالتها على إقرار اللواط؟ أو السكوت عليه في أسوء الأحوال؟
● فإذا استبشع الشيخ واستقبح تهنئة اللوطي، فأيهما أشد قبحاً وبشاعة اللواط أم الشرك؟
وقد استدل الشيخ على جواز تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية بالإباحة الأصلية، وهذا الاستدلال صحيح لو لم يرد دليل التحريم في عشرات النصوص التي أوجبت على المسلمين البراءة من أديان الكفار وعقائدهم وإعلان ذلك بشكل واضح وصريح، ومن المفارقات الغريبة أن آية البِرّ والإقساط بالمشركين التي يستدل بها المجوزون لتهنئة الكفار بأعيادهم جاءت بعد الآيات التي بينت ملة إبراهيم من عقيدة الكفار في سورة الممتحنة وجلت الموقف الحق بشأن أديانهم.
ومنها قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [المُمتحنة: من الآية 4].
ما يدل على أن العدل معهم ومعاملتهم المعاملة الحسنة لا يتنافى ولا يتعارض مع البراءة من دينهم، وأن البر بهم لا يستلزم مجاملتهم على ما هم فيه من كفر وشرك، وأنه يجب الفصل والتفريق عند التعامل معهم بين شؤونهم الدينية وأحوالهم الدنيوية، وهذا ما جسده الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام في تعاملهم مع أهل الكتاب المجاورين لهم.
فقد تواترت النقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم, وأصحابه أنهم كانوا يبايعون أهل الكتاب، ويبتاعون منهم، ويؤاكلونهم ويأكلون منهم، ويعودونهم إذا مرضوا، ويهدونهم ويقبلون هداياهم، لكن لم يرد أثرٌ واحد أنهم هنأوهم بأعيادهم، أو باركوا لهم شيئاً من طقوسهم الدينية، وعلى هذا جرى المسلمون علماء وحكام وعامة طيلة العصور السابقة إلا في فترات تسلُّط الكفار على المسلمين واستضعافهم، وكتب الفقه والتفسير من كل المذاهب طافحة بتحريم مجاملة الكفار في شؤونهم الدينية، وهذا أظهر وأشهر من أن يستدل له.
لكن لكون الشيخ المجيز لتهنئة الكفار بأعيادهم حصر فتوى التحريم بابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومدرستهم، وشكك في دعوى الإجماع التي ذكرها ابن القيم في كتابه [أحكام أهل الذمة] من أن: "التهنئة بشعائر الكفر المختصة بهم أمر محرّم بالاتفاق".
أصبح من الواجب إثبات نماذج من فتاوى مختلف علماء المذاهب الفقهية السنية -علماً بأن التشكيك بكلام عالم موسوعي ومشهود له بالأمانة والدين أمر غير جائز إلا بإقامة البينة على خطأه- لكن من باب تأكيد كلام ابن القيم نثبت النقول التالية كنماذج ونطالب بالوقت نفسه أصحاب دعوى جواز تهنئة الكفار بأعيادهم بإثبات نقل واحد عن الفقهاء السالفين يقول بقولهم.
قال زين الدين ابن نجيم الحنفي في كتابه [البحر الرائق شرح كنز الدقائق (8/555)]: "قال أبو البركات النسفي: "والإعطاء بِاسْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ لَا يَجُوزُ" -أَيْ الْهَدَايَا بِاسْمِ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ حَرَامٌ بَلْ كُفْرٌ-.
قال ابن الحاج في كتابه [المدخل (2/47)]: "قال أشهب: قيل لمالك: أترى بأسا أن يهدي الرجل لجاره النصراني مكافأة له على هدية أهداها إليه؟ قال: ما يعجبني ذلك قال الله عزَّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: من الآية 1]، قال: وكَرِهَ ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأة له ورآه من تعظيم عيده وعوناً له على مصلحة كفره".
"ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئاً من مصلحة عيدهم لا لحماً ولا إداماً ولا ثوباً ولا يُعارون دابة ولا يعانون على شيء من دينهم؟ لأن ذلك من التعظيم لشركهم وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره لم أعلم أحداً اختلف في ذلك"، انتهى.
وقال الخطيب الشربيني في كتابه [مغني المحتاج (4/194)]: "ويُعزَّر من وافق الكفار في أعيادهم ومن يمسك الحيَّة ويدخل النار ومن قال لذمي يا حاج ومن هنأه بعيده".
وقال منصور بن يونس البهوتي في كتابه [كشاف القناع عن متن الإقناع (3/131)]: "وفي المنتهى لا بيعنّا لهم فيه (ومهاداتهم لعيدهم) لما في ذلك من تعظيمهم فيُشبه بداءتهم بالسلام".
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي رحمه الله تعالى في باب الردة:
"ثم رأيتُ بعض أئمتنا المتأخرين ذكر ما يُوافق ما ذكرته فقال: ومن أقبح البدع موافقة المسلمين النصارى في أعيادهم بالتشبه بأكلهم والهدية لهم وقبول هديتهم فيه وأكثر الناس اعتناء بذلك المصريون وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» [متفق عليه]".
وبهذا القدر كفاية ومقنع لمن أراد الوصول إلى الحق والله أعلم.
عدنان أمامة - 16/2/1434 هـ
- التصنيف:
- المصدر: