المسؤوليّة الفرديّة
هل الإنسان الواحد مسؤول؟
بالتأكيد، فهو جزء من كل المجتمع الإسلامي، وعنصر ضمن تشكيلة الحياة
الإسلامية.
وهذا هو المفهوم الإسلامي الصريح: { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ }
[آل عمران:165]، { إِنَّ اللّهَ لاَ
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد:11]، بل إن قضية الإيمان بالبعث في
العقيدة الدينية الإسلامية تستقلّ بهذا المعنى بالذات، وقضية الخلق {
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيدًا } [المدثر:11]، وحيداً حينما يحسب الإنسان أن ماله
وولده وحزبه وجمهوره وطائفته ستُبعث معه، بل حتى أخص قرابته تتخلى
عنه، يقول الله سبحانه: { يَوْمَ
يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ .
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس:34-37]، وربما أن فكرة الاعتكاف في
الإسلام هي نوع من إعادة المسؤولية الفردية، دون الضغوط الخارجية
الطائفية أو الحزبية أو الجماهيرية على العقل المسلم الفرد لاستعادة
طبيعته وصحته.
فالجمهور الهاتف المصفق يفعل الأفاعيل؛ ولهذا جاء التوجيه الرباني: {
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ
أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا
بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ
يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [سبأ:46]، فالتفكير الطبيعي الإسلامي
النظيف لا يبحث عمّا يريده الناس، وإن كان يحترم آراءهم ويقدرها، فقد
يخالفك الرأي، ولكنه على استعدادٍ للدفاع عن حقك في التعبير عن
رأيك.
وفي الفرد المسلم تكمن معظم مشاكل الشخصية الإسلامية المعاصرة، وفي
ضمن هذه العقلية الحاضرة، يصبح أي حدث قابل لصناعة مشكلة في غياب عن
حسّ المسؤولية الفردية التي كرَّسها الإسلام، فالقوى الخارجية عند
الفرد المسلم هي سبب كل المشاكل، والمؤامرة العالمية والصهيونية هي
الأيدي الخفية والأصابع المؤثرة الوحيدة في اللعبة.
وربما كان الحكام، أو العلماء، أو القدر، أو التاريخ مسكن الأزمة -حيث
يظن الفرد- ويعتقد ببراءة جانبه، ولا يخطر في باله أن يتهم نفسه،
فآراؤه صحيحة، ومواقفه سليمة، يعرف كلّ شيء، ولو أن الناس أطاعوه لحل
مشكلات العالم.. بينما عجز عن حل مشكلة عائلية.. و يخفق أمام معادلة
رياضية، ولا يملك خبرة ولا دراسة، ولا هو قادر على اتخاذ قرار خاص
بتغيير خلق ذميم، أو عادة رديئة في نفسه.
شاب حديث عهد بالتزام، يظن أن بيده المفاتيح، ويظن أن يده يد عيسى
عليه السلام، التي تبرئ الأكمه والأبرص، وتحيي الموتى بإذن الله، وحتى
حين يتحدث عن الكتاب والسنة يظن أنه هو الذي يفهمها، ويسهل عليه اتهام
الآخرين بالجهل أو الهوى، وعدم فهم الكتاب والسنة.
فهذا الإخفاق الشخصي الفردي هو جزء من مشاكل الأزمة العامة وليس حلاً
أممياً ناجحاً.
ومسؤولية الفرد تتفاوت حسب موقعه، وأهميته وخبرته وعلمه، وهي مسؤولية
تاريخية تراكمية، ليست وليدة الساعة ولا بنت اليوم؛ فالمسؤولية تعني
تحمل التكاليف، وأداء الأمانة، وكسب الخير، وأداء المعروف. وهي -وإن
كانت معاني فردية- فهي ترجع على الأمة جميعها بالخير والفضل، وفي
الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « كُلُّ سُلاَمَى مِنَ
النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ،
يَعْدِلُ بَيْنَ الاِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى
دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ
صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ
يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ
الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ »، حتى عدم أذاك للناس -إذا عجزت عن هذا
كله- صدقة منك على نفسك.
وما معنى فروض الأعيان -كما يسميها الفقهاء في التراث الإسلامي- إلا
المسؤولية الفردية، وكل ذلك لتنمية الشخصية الإسلامية على مستوى
يؤهلها لإدراك النجاح المجتمعي العام.
ومع هذا لا تزال شرائح واسعة من المسلمين مأخوذة بالهمّ العام على
حساب الخاص، وبالمشاكل العالمية على حساب المشاكل الشخصية، وبالهموم
الأممية على الهموم الوطنية، وبقضايا العالمين أجمع على قضايا النفس
التي تمتلئ بأدواء متراكمة، من ظلم النفس والناس، وبخس الحق، وأكل مال
اليتيم، والجهل والبغي، والغفلة، وضعف الإيمان، وأدواء اللسان،
والأهواء التي تضرب في فكره بكرةً وعشيةً.
فهل يجوز بعد ذلك كله أن يتحدث عن مشاكل المسلمين، وقد أصبح شيئاً من
تلك المشاكل؟
إِذا رُمتَ أَن تَحيا سَليماً مِنَ الرَدى *** وَدينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ
فَلا يَنطِقَنْ مِنكَ اللِسانُ بِسَوأَةٍ *** فَكُلُّكَ سَوءاتٌ وَلِلناسِ أَلسُنُ
وَعَيناكَ إِن أَبدَت إِلَيكَ مَعائِباً *** فَدَعها وَقُلْ يا عَينُ لِلناسِ أَعيُنُ
وَعاشِرْ بِمَعروفٍ وَسامِحْ مَنِ اِعتَدى *** وَدافِعْ وَلَكِن بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ
إن حل مشكلات العالم يبدأ من النفس، ومسيرة ألف ميل في إصلاح الأمة
تبدأ بخطوة إصلاح النفس أولاً:
إن الفرد المسلم اليوم تأخذه أحداث المسلمين وظلامتهم التي تتفجر
في كل مكان عن أدواء النفوس، ومشاكل التفكير، وأساليب تطوير الفرد
المسلم التي هي -بمعنى ما- جزء من حل الأزمة العامة؛ فإن الأفراد
الكامنين خلف المسميات العامة والجمعيات والمؤسسات والدول هم جزء لا
يُستهان به من قوة التأثير، وإن لم يذكرهم التاريخ، أو الناس أو
الإعلام.
وإنّ فتوح الإسلام -مثلاً- ليست خالدة بأسماء قوّادها الذين يُعرفون
بها، بل أيضاً بأولئك الأفراد المقاتلين الذين حاربوا وصبروا وربما
قتلوا، وأولئك النساء الصابرات المؤمنات الداعمات.
والنجاحات الحضارية الإسلامية والمعمارية -مثلاً- ليست حكراًَ على
أسماء الآمرين بها من الخلفاء والأمراء، بل هي أيضاً في أولئك
المنفذين من تلك الأيدي المشمّرة، والسواعد النشيطة، والعقول المخططة،
وأصحاب الثراء المعطين، وإن بقيت فيما بعدُ باسم أحد هؤلاء.
وإنّ معنى المسؤولية الفردية -في النهاية- متضمن في الحقيقة القرآنية
والتفكير الإسلامي، وهو أيضاً معنى حضاري مهم للبناء الراشد، فالبنيان
لبنات متفرقة، وفي الحديث الشريف المتفق عليه: « إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ
كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ».
سلمان بن فهد العودة
الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-
- التصنيف: