أُمة.. وقيادة.. فمن يجيب ؟
لا يشك عاقل في أن الفكرة هي التي تُشكل الواقع وليس الواقع هو
الذي يُشكل الفكرة.
على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمم، فمجموعة الأفعال الخارجية للفرد هي
لا زم عمل القلب الذي ينشأ ـ ولابد ـ من المعرفة الخبرية
(الإدراك).
يَلْبِسُ أحدنا من الثياب ما يعكس ما بداخله من مفاهيم وتصورات بيئية
أو عقدية، ويأكل أحدنا ما يستقيم مع تصوراته ومفاهيمه، فمِنْ خلْق
الله من يأكل الخنزير، ومن خلق الله من لا يبالي بما يأكله أمن حلال
أم من حرام، ومن خلق الله من يتقي الله في ما يدخل جوفه. فصيام وحلال
... الخ .
والأمر نفسه على مستوى الأمم، فالأمم التي لا تُحرِّم الخمر ولا
الغناء، تُنشأ البارات وتحمي أهل الخنا والفجور، والأمم التي لا ترى
في الشذوذ عيبا تزوج الرجال من الرجال. وجملة كلٌ يحب من يوافق هواه
أو مصلحته وينصره، وتمام المحبة تستلزم تمام النصرة والحصة
للحصة.
والمقصود أن السلوك الخارجي ينضبط بأفكار ومفاهيم داخلية ولابد، فلا
سبيل لضبط العمل الخارجي طوعاً إلا من خلال ضبط المفاهيم والتصورات
الداخلية، هذه مسلّمة لا أحسب أن عاقلاً يجادل فيها.
ومن البديهي إذا أن ضبط سلوك الناس على منهج الله العظيم سبحانه
وتعالى يتطلب تصحيح المفاهيم والتصورات على وفق الشريعة الإسلامية.
أليس كذلك؟
بلى، ولكن ليس فقط.. هناك من الناس من يقف عند حد المعرفة الخبرية
(الإدراك أو التصديق) ولا تنشئ هذه المعرفة في قلبه أثراً يضبط سلوكه،
وهذا واقع مشاهد.
فنحن الآن أمام مطلبين:
الأول: نشر مفاهيم صحيحة.
الثاني: تفعيل هذه المفاهيم في حياة الناس.
فكيف؟؟
يتولى هذا الأمر نخبة من الناس، هي التي تنشر المفاهيم الصحيحة، وهي
التي تحمل الناس على العمل بها [1].
فالأمر لا بد له من الاثنين، الأمة والقيادة، والاثنين معاً.
فقيادة بلا أمة، مهما كانت قوتها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، وقد كان
موسى وهارون عليهما السلام، نبيين أحدهما من أولي العزم، وما استطاعا
أن يدخلا بيت المقدس ببني إسرائيل.
وأمة بلا قيادة لا تستطيع أن تفعل شيئاً، بل تتخبط وتمشي وراء من يأخذ
بزمامها، ولعل في انقياد الأمة وراء (الثوار الأحرار) في منتصف القرن
الماضي دليل على قولي، فقد انقادت الأمة لـ (الثوار الأحرار)، وهي لم
تأخذ منهم إلا حلو الكلمات، ولم يتغير حالها على أيديهم كثيراً.
والأمة ذات المفاهيم الفاسدة كالأمة الغائبة، وقد رأينا كيف تأبَّت
الأمة على عليّ بن أبي طالب -رضى الله عنه- حين انتشر فيها الإفراط
والتفريط (الخوارج وأهل الإرجاء).
فالصورة الصحيحة -من وجهة نظري- نخبة -غير قليلة- تعالج الأمة حتى
تسير بها على صراط الله المستقيم؛ وهكذا بدأت الأمة الإسلامية في
يومها الأول.
فقد كان لحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم حوار في الأسواق والنوادي
يستهدف عوام الناس، وكانت له حلقات علم في البيوت -دار بن الأرقم-
لتنشئة النخبة، التي هاجرت وأنفقت وجاهدت في سبيل ربها حتى كتب الله
لها النصر من عنده.
إن كل الناس لا يُصْغون لخطاب التمكين وإن اقتنعوا به فهناك من لا هم
له إلا لقمة عيشه، وهو وراءها، وهناك من لا تحركه إلا عصى السلطان،
وهناك من لا حظ له إلا مشاهدة الصراع بين الحق والباطل حتى تتميز
الصفوف بوضوح ثم هو مع من غلب.
هي دعوة لعلماء الأمة ودعاتها بتبنّي:
- حوار عام تخاطب به الجماهير ويرد به على المشككين من العلمانيين
المنافقين والكافرين. - وكذا -وهو ما كتبت من أجله- التوجه نحو تربية
كوادر تحمل هم الدعوة فيما بعد وتأخذ بزمام الأمة وتسير بها على صراط
الله المستقيم.
أتساءل: لو أن كل واحد من شيوخ الصحوة -حفظهم الله- خلّف للأمة عشرة
مثله، فكيف الحال بعد عشرين أو ثلاثين عاماً؟!
إننا نعاني اليوم من العمل الارتجالي أو الفردي أو الحزبي الذي يسير
وراء الحدث وتستغرقه الجزئيات، ونفتقد العقلية التي تسعى لصناعة الحدث
أو توجيهه.
ومن يتدبر يجد أن هذا الأمر -الاتصال بالأمة مع تربية الكوادر
العلمية- هو الذي حفظ الله به الدين في القرون الماضية، حتى في القرون
الأولى.
فماذا لو كان التعليم في القرون الإسلامية الأولى وخاصة الثاني
والثالث تابع لعلماء السلطان فقط (أعني المؤسسات الرسمية)، ولم يكن
هناك حِلق علم؟
لانتشر الكلام والفلسفة، وكل فكر هدّام، ثم التشيّع فيما بعد.
ولكن تواجد حِلق العلم الخاصة، أو قل المحاضن التربوية الخاصة، التي
أخرجت للأمة الأمام أحمد والبخاري والشافعي وغيرهم من علماء الأمة هي
التي أمسكت الأمة على دين الله وردت كيد الظالمين من المبتدعين
والمتجبرين.
فهل تجد دعوتي من يجيب؟؟
-------------------------------
[1] ولستُ ممن يؤمن بنظرية (العبقريات) التي قال بها المؤرخون الألمان
ونقلها عنهم بعض المفكرين العرب، والتي تقول بأن التاريخ يصنعه أفراد
هم (العباقرة).
- التصنيف: