رابعة العدوية .. الشخصية والأسطورة
مجلة التوعية الإسلامية لموسم الحج.. لما لها من مكانة عند الدكتور
محمد جميل غازي.. نأمل أن يتحدث على صفحاتها.. إلى "ضيوف الرحمن" على
بعض الشخصيات التي تدعى الصوفية أنهم من كبار قادتها، ولتكن البداية
"برابعة العدوية" ولعل هذا الاختيار قام على اتساع شهرتها بين
المتصوفة، وما ذاع وشاع حولها من أساطير، وقد امتلأت كتبهم بآلاف
الصفحات التي كتبت عنها، وبعضهم يصفها بأنها خير نساء الأرض، مع
مجافاة ذلك للواقع، فهلا تفضلتم مشكورين بتسليط الأضواء على هذه
الشخصية الغريبة؟
رابعة العدوية واحدة من المتصوفين الذين اتخذوا لهم منهجًا في
العقيدة، ومنهجًا في العبادة، أما منهجهم في العقيدة فهو مجموعة أفكار
غريبة عن الإسلام مأخوذة من الديانات القديمة كالهندوكية،
والزرادشتية، والفارسية، والإغريقية، والمسيحية، وغيرها من الأديان
الأخرى، ومجموعة هذه الأفكار أدت بهم إلى عقيدة معينة توهموها
واعتنقوها فقالوا بالحلول، وقالوا بوحدة الوجود، وقالوا بالإشراق أو
ما شاكل ذلك، ولن نناقش ما يعتقدونه الآن. فنحن نركز على رابعة بالذات
وما قالته، وما نُسِبَ إليها، وما نُسِجَ حول شخصيتها من خرافات
وأوهام.
لماذا نعبد الله ؟
والصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة "صوفيا" وليس كما
يقولون أنه مأخوذ من الصوف لأنه كان لباس المسيح عليه السلام، فلقد رد
عليهم "ابن تيمية" في رسالته عن "الصوفية والفقراء" فقال: نحن أولى
بهدي محمد صلى الله عليه وسلم من هدي عيسى ابن مريم ولقد كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف ويلبس القطن ويلبس الكتان، هذا
إذا سلمنا جدلًا أن عيسى عليه السلام كان ينفرد بلبس الصوف، أو كان لا
يلبس شيئًا غير الصوف، "ورابعة العدوية" -كما قلت- هي واحدة من هذه
المدرسة.
وحينما تقول: إنها لا تعبد الله خوفًا من ناره، ولا طمعًا في جنته
تخالف نص القرآن الكريم، وإن كانت هي بهذا تنتمي إلى مدرستها تمامًا؛
فالمدرسة الصوفية هي التي تعتبر أن الذين يعبدون الله من أجل جنة أو
خوفًا من نار إنما يتعاملون مع الله، أو يعبدون الله، عبادة التجار
كما أطلقوا عليها.
مع أن هذه العبادة التي يسمونها عبادة التجار هي عبادة رسل الله عليهم
صلوات الله وسلامه كما قال الله عنهم في سورة الأنبياء بعد أن عدد
أسماءهم نبيًا نبيًا، ورسولًا رسولًا: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } [الأنبياء:
90] فالله يقول عن أنبيائه: إنهم كانوا يدعونه -سبحانه وتعالى- راغبين
في ثوابه خائفين من عقابه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا
للأعرابي الذي جاءه وقال له: يا رسول الله، إني أسال الله الجنة وأعوذ
به من النار، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة "معاذ بن جبل"، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "حولهما ندندن". (يعني: حول الجنة والنار)، فإذا
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدندن حول الجنة والنار فكيف يتأتى
لواحدة "كرابعة العدوية"، قالوا عنها أنها كانت مغنية، وقالوا عنها
أنها كانت راقصة، وقالوا عنها كلامًا كثيرًا، كيف تأتى لهذه التي عاشت
عمرًا في الغناء وفي الرقص.. كيف يتأتى لها أن تسبق رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأن تسبق رسل الله جميعًا في المعرفة بالله والعلم به
سبحانه وتعالى؟ ثم ما هذا الذي تقوله؟ إنها تعبده لذاته!، ما معنى
هذا؟
وما معنى قولها في ربها في الشعر الذي نسب إليها:
فأما الذي هو حب الهوى *** فشغلي بذاتك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له *** فكشفك لي الحجب حتى أراكا
ما هي هذه الحجب التي تنتظر "رابعة" أن تنكشف لها حتى ترى الله، مع
أن الله سبحانه وتعالى قال "لموسى" عليه السلام حينما قال له: { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن
تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ
مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف: 143].
ولقد اتفقت الأمة المسلمة الواعية على أنه لا يمكن للبشر أن يروا الله
سبحانه وتعالى في الدنيا؛ لأن الإنسان بحالته هذه، وهو في الدنيا لا
يستطيع أن يواجه تجلي الله سبحانه وتعالى كما حدث بالنسبة "لموسى" {
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا } [الأعراف: 143]
فالرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم مكانًا، وأعظم مكانة قال حينما
سئل: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه".
ولا نلتفت لرواية الصوفية لهذا الحديث حيث رووه هكذا، قالوا "نور أنى
أراه" بكسر همزة إني، وهذا مخالف لِمَا صح عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم "نور أنى أراه" فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وموسى
عليه السلام حينما طلب الرؤية قال الله له: { انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ
مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف: 143]..
والصوفية لم يقفوا عند حد الأدب مع الله سبحانه وتعالى، ولم يتعلموا
من موسى، وما جرى معه بل قال واحد منهم:
وإذا سألتك أن أراك حقيقة ***فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى
فهو يأمر الله سبحانه وتعالى أن يسمح، ثم ينهاه سبحانه وتعالى أن
يجعل جوابه لن ترى كما أجاب موسى بذلك، وكذلك "رابعة العدوية" تعتقد
أن الحجب ستكشف لها حتى ترى الله، ويا ليت الصوفية يتوقفون عند هذه
المسألة أن يروا الله، وإنما الرؤية عندهم هو أن يحس أنه هو الله وأن
الله حال فيه، هذا هو كشف الحجب.. حجب الذات.. حجب النفس بحيث يصل
الإنسان منهم إلى أن يرى أنه هو الله، ولذلك كان فهمهم لكلمة التوحيد
"لا إله إلا الله" كان الواحد منهم يقول: "لا إله إلا أنا" "أنا الله"
فهو يعتقد أنه هو المقصود بكلمة "لا إله إلا الله".
ونعود مرة ثانية إلى "رابعة" وإلى ما كتب عنها الذي يقول إن رابعة هي
أول من تحدث عن حب الله، هذا الإنسان يبدو أنه لم يقرأ القرآن الكريم،
ولم يقرأ السنة المطهرة، ففي القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى
تحدث عن الحب فقال: { يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54] وقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ
اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ
إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } [البقرة: 165].
الفرق بين الحب والعشق:
حب الله وحب رسوله موجود في القرآن الكريم، وفي أحاديث الرسول صلى
الله عليه وسلم، ولكن يبدو أن كاتب هذه السطور يقصد حبًا آخر وهو
"العشق" وليس الحب، فعلا "رابعة العدوية" ومن على شاكلتها هم أول من
أطلق على محبة الله عشقًا، والعشق ما هو؟ إن العشق في أصل وضعه في
اللغة العربية لما ينكح، والصوفية وضعوا هذا اللفظ لما بينهم وبين
الله سبحانه وتعالى، اعتبروه عشيقًا كالذي يكون بين الرجل والمرأة، قد
يذهل الإنسان حينما يسمع هذا الكلام، وربما اعتبر البعض أن هذا تجنيًا
على الصوفية، ولكنه حينما يتابع كلام القوم وما كتبوه في باب العشق
يجد أنهم ينهجون ذلك المنهج، ويقصدون هذا المنحى، ويعترفون أن علاقتهم
بالله تكون على هذا المستوى مستوى الناكح والمنكوح، ولقد جاء ذلك
صراحة في فصوص الحكم "لابن عربي" إذ قال: "إن الرجل حينما يضاجع زوجته
إنما يضاجع الحق" وكان من الممكن أن نقول إن هذه غلطة من محيي الدين
ابن عربي، أو أن لها تأويلًا آخر، ولكن جاء "النابلسي" فشرح
الفصوص.
ووقف عند هذا التعبير وهو قوله "إنما ينكح الحق" وذكر الله بدلًا من
كلمة الحق، وهم يرون أن العلاقة تكون بين الرجل والمرأة قوية إذا كانت
في حرام، فهم يعتبرون أن الاتصال بالله يكون كما بين الزوج وزوجته،
فإذا كان في حرام غير زوجته كان الاتصال أقوى. ثم نرجع "لابن الفارض"
مثلًا فنجد أن "ابن الفارض" تحدث عن الله بضمير المؤنثة المخاطبة؛ فهو
يقول له: "أنتِ كذا أنتِ كذا أنتِ كذا" ولو رحت تسأل الصوفية لماذا
تتحدثون عن الله بضمير المؤنثة المخاطبة؟ فإنهم يقولون لك: إننا لا
نقصد الله، وإنما نقصد الذات الإلهية، فنحن نوجه ضمير المؤنثة
المخاطبة للذات، وليس لله فنوجهها الذات الإلهية، "ابن الفارض" يقول
إن الله تجلى لقيس بصورة ليلى، وتجلى لكُثَيْر بصورة عزَّة، وتجلى
لجميل في صورة بُثَيْنَة في قصيدته التائية المعروفة، فهو يعترف أن
هذا من تجليات الحق.
الأدب اللفظي!!
نعود إلى الصوفية ونقول لهم: كيف تطلقون على الله لفظ المؤنثة أيا كان
تأويلكم، وأيا كان تحليلكم، وأيا كان تعليلكم مع أن الله سبحانه
وتعالى غضب أن يطلق لفظ الأنثى على الملائكة وقال: { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ
عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ
شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف: 19] فالله سبحانه
وتعالى غضب -وأعلن ذلك الغضب في أكثر من آية من آيات كتابه- على العرب
المشركين الذين جعلوا الجن ذكورًا والملائكة إناثًا، وزعموا أن هناك
مزاوجة بين الجن والملائكة، إلى آخر ما قاله الوثنيون القدامى، فالله
سبحانه وتعالى نفى هذا وغضب من أجل هذا، فكيف يرضى سبحانه وتعالى أن
يطلق لفظ المخاطبة بضمير المؤنث مهما كان الاحتمال العقلي عند هذا
المتحدث؟
ثم إن القرآن الكريم له أسلوب عجيب أن يستبعد في باب العقيدة أي لفظ
محتمل، ونحن حينما نقرأ سورة البقرة ونجد في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا } [البقرة: 104] لو
تأملنا الفرق في كلمة راعنا وانظرنا في اللغة العربية نجده قريبًا من
قريب، فرعنا تساوي انظرنا، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا
يجلسون في الشمال: راعنا، يعني انظر إلينا، فإذا نظر إليهم قال الذين
هم على اليمين: راعنا انظر إلينا، اليهود حفظوا هذه الكلمة راعنا
فكانوا يقولونها سخرية واستهزاء، يقولون: راعنا إما من الرعونة أو
لاعنا من اللعن، أو راعينا أي أنه من رعاتنا أو أي شيء من هذا القبيل
يقولونها في سخرية ليا بألسنتهم وطعنًا في الدين فنهى الله أصحاب
رسوله عن هذه الكلمة أن يقولوها، فقال لهم: { قُولُواْ انظُرْنَا } فإنها لفظ غير
محتمل.. إذا كان ذلك في لفظ يطلق بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، أيمكن أن يطلق العنان في ألفاظ تستعمل بالنسبة له سبحانه؟
ثم نترك "رابعة العدوية" قليلًا، ونلتقي "بمحيي الدين ابن عربي" الذي
دخل بيت "الشيخ مكين الدين" وعاش عنده فترة ثم أحب ابنته، وقال فيها
شعرًا في عينيها، وتغزل في شفتيها، وفي وصف القبلات التي كان يرسمها
على خديها وشفتيها. تحدث عن أثدائها، تحدث عن أردافها، تحدث عن قدها،
تحدث عن جمالها، عن كل شيء ما ظهر منها وما بطن، ولما خرج بأشعاره على
الناس قالوا له: أليس عيبًا أن تقول هذا الكلام في بنت الشيخ الذي
استضافك وأعزك وأكرمك؟ فخرج بكتاب على الناس اسمه "ترجمان الأشواق"
هذا الكتاب الذي ذهب فيه إلى أن كل ما قيل عن بنت الشيخ "مكين الدين"
ليس غزلًا فيها، وإنما هو عن الذات الإلهية، وأنه إنما يقصد الذات
الإلهية وهو يتغزل في بنت الشيخ "مكين الدين"، فهو إذا وصف القد أو
إذا وصف الخد أو إذا وصف الوصال أو العناق أو الصد أو البعد أو القرب
أو ما شاكل ذلك فإنما كل ذلك منسحب على الذات الإلهية!
جعلناكم أمة وسطا:
ثم ما هو هذا العشق الإلهي الذي لجأت إليه "رابعة العدوية" ونسيت
الدنيا وما فيها وكرهت العالم جميعًا، وهل الله سبحانه أمرنا بهذا؟ هل
الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نصد عن خلقه، وأن نصد عن الناس، وأن نصد
عن الزواج، وأن نصد عن المتع، وأن نصد عن المال، وأن نصد عن هذا كله
بحجة أننا تركنا هذا كله له، مع أنه هو الذي قال في كتابه: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ }
[الأعراف: 32] ثم كيف تمتنع "رابعة" عن الزواج كما يقولون مع أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال للثلاثة الذين حاولوا أن يتزيدوا في
العبادة، والذين ذهبوا إلى بيوته، وسألوا عن عبادته فقالوا: وأين نحن
من النبي؟ ثم حاول كل واحد منهم أن يزيد في عبادته فقال واحد: "أما
أنا فأصلي ولا أرقد" وقال الثاني: "وأنا أصوم ولا أفطر" وقال الثالث:
"فأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا" فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : "ما هذا الذي بلغني عنكم؟ أما وإني رسول الله فإني أصلي وأرقد،
وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"..
أتزعم "رابعة العدوية" أنها متفوقة على رسول الله الذي تزوج النساء
وأكل وطعم وشرب، وهل نتصور أن رابعة أفضل من الرسول صلى الله عليه
وسلم، وأفضل من صحابته، هؤلاء الذين رباهم الله، وأنها أوتيت من العلم
ما لم يؤته رسول الله، وأكثر مما نزل في القرآن، وأنها تتخلق بأخلاق
أكبر من أخلاق القرآن؟.. وهذا وحده مخرج من الملة والعياذ بالله
سبحانه وتعالى.
الزاهدون في الحلال:
وذلك باب من الشر وقع فيه هؤلاء الناس، وهم الصوفية إذ زعموا لأنفسهم
أنهم الزهاد، وأنهم العباد، ثم أطلقوا على أنفسهم هذا اللفظ "صوفي"
وقالوا لنا أن صوفي تعادل كلمة "تقي" أو تعادل كلمة "محسن" أو تعادل
كلمة "صديق" كما روى ذلك "ابن تيمية" عنهم في رسالته الصغيرة "الصوفية
والفقراء" زعموا أنهم صديقوا الأمة، ولقد تساءلت في مقدمتي لهذا
الكتاب قلت: كيف يمكن لهؤلاء الناس أن يطلقوا على أنفسهم هذه
الألقاب؟
مثلًا: رجل يقول أنا صوفي معنى هذا أنه يقول أنا تقي، معنى هذا أنه
يقول أنا محسن، معنى هذا أنه يقول أنا صديق.. كيف يمكن للإنسان أن
يزكي نفسه؟ كيف يمكن للإنسان أن يحكم على نفسه بالتقوى أو بالإحسان أو
بالصديقية؟ مع أن الله سبحانه وتعالى قال: { فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 32].. ومع أن الله سبحانه وتعالى
قال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ
يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } [النساء: 49].
إن الزهد لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة.. ووروده في القرآن الكريم
في هذه المرة الواحدة جاء في شأن يوسف عليه السلام: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ
مَعْدُودَةٍ وَكَانواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [يوسف: 20]
هذا الزهد الذي لجأت إليه الصوفية هو الزهد في الحلال، وهو خطأ؛ لأن
الزهد لا يكون في الحلال، وإنما الزهد يكون في الحرام، فالإنسان الذي
يريد أن يزهد فليزهد في الحرام، أما أن يزهد في الحلال فهذا خطأ مخالف
لطبيعة الإسلام.
سخافات لا كرامات!!
يقولون: إن "رابعة" لما حضرتها الوفاة قالت لمن حولها: انهضوا واخرجوا
ودعوا الطريق مفتوحًا لرسول الله؛ فنهضوا جميعًا وخرجوا، ولما أغلقوا
عليها الباب سمعوا صوتها وهي تتشهد، وسمعوا الملائكة وهي ترتل: {
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً،
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر:
27-30] فماذا ترون في ذلك؟؟
جنون أم كرامات:
قبل أن نتحدث عن هذه الكرامة بالذات نعود إلى "رابعة" من الأول،
ونتحدث عن حب "رابعة" وما في هذا الحب من خطأ بشع، لقد رووا عن
"رابعة" نفسها: إن سفيان الثوري -على حد ما زعموا- سألها "يا رابعة هل
تكرهين الشيطان؟ فقالت له: إن حبي لله لم يترك في قلبي كراهية لأحد"
"فرابعة" بلغ بها الأمر أنها لا تكره الشيطان لأنها تحب الله، وهذا من
الأمور العكسية، وهذه نتيجة للخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الناس في الحب
أو في العشق، أو في الذي يسمونه الفناء، أو في الذي يسمونه مقام
الشهود أو مقام الحلول.
ونعود إلى كرامات الصوفية وليست هذه بأبشع كراماتهم؛ فكرامات الصوفية
لها سجلات مليئة بالبشاعات، وأعظم سجل لبشاعات الصوفية أو لكرامات
الصوفية هو كتاب "الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني" وهذا كتاب
مليء بالكرامات أو السخافات التي يروونها عن أوليائهم، وهذا الذي كتب
في هذا الكتاب فيه إسفاف، ومجون، وفيه فسوق، وفيه مروق، بل إن الفسوق
الذي ذكر في هذا الكتاب ينأى عن أي كتاب من كتب الجنس التي تصادر
والتي يحظر تداولها أو قراءتها أو دخولها لبعض البلاد.
فهم يعتبرون أن إتيان الحيوان كرامة من الكرامات، وأن رجلًا اسمه
"وحيش" كان يدعو كل رجل يركب حماره إلى أن يمسكها له ليفعل بها فإن
رفض تسمر في الأرض وإن قبل أصابه خجل عظيم.
وهذه واحدة من آلاف الكرامات وليس بأعظمها، وكنت أظن أن كتاب الطبقات
لا يعادله كتاب فيما ذهب إليه، ولكني لما ذهبت إلى السودان وجدت هناك
كتاب طبقات آخر "طبقات ود ضيف الله"، وكتاب "طبقات ود ضيف الله" في
السودان كتاب محقق، حققته الجامعة وخرجته الجامعة، وهو مليء كطبقات
الشعراني بهذا الهوس وبهذا الخبل وبهذا المجون والفسوق والمروق.
معركة مع الموت:
أكثر كرامات الصوفية تدور حول الموت فهم يزعمون أنهم يطيرون بنعوشهم
بعد الموت، وما أكثر النعوش التي تطير أو يطيرها أتباعهم، يزعمون أن
فلانًا أمسك ملك الموت وأخذ منه زنبيل الأرواح ورماه فعادت الأرواح
إلى أصحابها، ويزعمون في طبقات "ود ضيف الله" أن ملك الموت أراد أن
يقبض روح واحدة -فاطمة بنت عبيد على ما أذكر- وأنها استغاثت بأحد
الأولياء، فذهب إلى السماء الرابعة وأمسك ملك الموت ودخل معه في صراع
إلى أن أسترد منه روح فاطمة بنت عبيد ثم عاد إلى الأرض وهو يتصبب
عرقًا، فسألوه فقال: لأنني كنت أجاهد ملك الموت حتى استخلصت الروح
منه.
كراماتهم تدور حول هذا المعنى، وهم ينددون بمن يقول لهم مثلًا: إن
فلانًا مات، ويغضبون لهذا التعبير جدًا ويقولون: انتقل ولم يمت،
ويجهلون أن الله سبحانه وتعالى قال عن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن
أشرف خلقه: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ
قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144]..
وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال حول هذه الآية: "من كان يعبد
محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وأن
الله سبحانه وتعالى قال: { إِنَّكَ
مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30]. وقال: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ
الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [الأنبياء:
34].
وقال في ثلاث قضايا سورت بالسور الكلي قال أولًا: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن:
26]، وقال: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ
الْمَوْتِ } [آل عمران: 185]، وقال سبحانه وتعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ }
[القصص: 88]، فالموت مكتوب على كل إنسان، وجعلها كلمة باقية في عقب
آدم إلى يوم يرجعون، فالله سبحانه وتعالى يقرر في القرآن أن الكل
يموت، ولكن الصوفية ينفون أن يكون واحد منهم قد مات. هذه
عقيدتهم..
ثم نعود إلى كرامة "رابعة العدوية" التي استقبلتها الملائكة وملأت
بيتها، وزحمته، وجعلتها تقول للناس اخرجوا حتى يدخل رسل ربي، ثم لماذا
يخرجون ليدخل رسل الله مع أن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا أن رسله
يدخلون على الميت وقت احتضاره والناس من حوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن
لاّ تُبْصِرُونَ } [الواقعة: 85]، فهم أقرب إليه ولكن الناس لا
يبصرون، فهل طالب الله سبحانه وتعالى بإفراغ المكان حتى يدخل رسل الله
سبحانه وتعالى، ثم من هم هؤلاء رسل الله الذين يسمعون وهم يرددون
الآيات ويرددون البشارات حتى يعرف الناس.
الذين يخلعون الولاية على الناس:
يقول الصوفية:
"إن رابعة من أهل الجنة وأنها رجعت إلى ربها راضية مرضية، مع أن حديث
أبي السائب معروف لنا وهو أن زوجه قالت: رحمك الله يا أبا السائب لقد
أكرمك الله، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : "ومن أدراك أن الله
قد أكرمه؟"
فأخذت تصفه بمكارم الأخلاق، فقال لها النبي: "لا تقولي ذلك ولكن
استغفري له، فوالله وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي". ذلك هو رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو كلامه بالنسبة للحكم على الناس بتقوى
أو بصلاح أو بعاقبة طيبة، ولكن الصوفية دائمًا يسرفون في الحكم على
الناس، ويسرفون في الحكم على أنفسهم فيزعمون أنهم أهل الله، وأنهم
أصحاب جنته، وأنهم يرون الله، وأنهم يجتمعون في الدنيا برسول الله
جهارًا نهارًا، وأنهم يتلقون الحديث من رسول الله، وأن لهم رواية
وسندًا في الحديث عن رسول الله مباشرة، وأن محيي الدين بن عربي قال:
إن هذا السند أقوى سند كتب الحديث؛ لأن الولي منهم يلتقي برسول الله
صلى الله عليه وسلم فيقول له: هل قلت كذا يا رسول الله؟ فيقول: لا لم
أقله..
ثم يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم بأحاديث جديدة، بل إن الصوفية
يذهبون إلى أبعد من هذا؛ فهم يرفضون سند رجال الحديث مطلقًا ويقولون
بمباهاة وفخر: "أخذتم علمكم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي
لا يموت"، ويقولون أيضًا كلمتهم المعروفة أو سندهم المعروف في الرواية
"حدثني قلبي عن ربي"؛ فقلوبهم تحدثهم عن ربهم بدون واسطة الموتى في
أخذ العلم وفي تلقي العلم، لكنهم يقبلون واسطة الموتى في العمل وفي
الجنة وفي الحصول على رضا الله سبحانه وتعالى.
محمد جميل غازي
مؤسس المركز الإسلامي لدعاة التوحيد والسنة
- التصنيف: