الانتفاضة فجر جديد !
21/3/1424هـ - 22/05/2003م
إن مما يوجب بيان حقيقة الانتفاضة وأهميّتها: أن كثيراً من المسلمين
يتعاطفون مع أهداف الانتفاضة عموماً، لكنهم لا يدركون حقيقة الانتفاضة
وأثرها العظيم وموقعها التاريخي. وكثير منهم ينخدعون بالإعلام اليومي
عربياً وغربياً، الذي يشدد دائما على العنف الصهيوني، والخسائر في
الجانب الفلسطيني، فيبدو إيقاف الانتفاضة وكأنه رحمة بإخواننا
الفلسطينيين، وفرصة لالتقاط النفس.وربما يتساءل كثيرون: ما جدوى
الاستمرار في دفع هذه التكاليف الباهظة؟
حتى حين تقع عملية ناجحة بكل المعايير يأتي التعليق عند هؤلاء "ولكن
هذا سيؤدي إلى انتقام شديد"!!
إن عرض التألّم والتكاليف من جانب واحد تفصيلاً، وإجمال القول عند
الحديث عن خسائر العدو، هو في الحقيقة حملة نفسية موجهة، يرتِّب لها
العدو، و يسايره مخدوعاً من لا يدرك الحقائق، أولا يملك الوقت وعدة
النظر للبحث عنها، وهذا يتفق مع اتجاه القيادات العربية الحكومية التي
رضخت منذ أمد بعيد للهزيمة والاستسلام؛ لكنها تغلف ذلك بإيقاف العنف،
والعودة للمفاوضات، ورفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني!
إن الانتفاضة فجر جديد يراه أهل البصيرة زاحفاً على ليل المعاناة
الطويل، أما الذين استمرأوا الذل فإن على أبصارهم غشاوة كتلك الغشاوة
التي كانت على أبصار سلفهم، الذين كانوا يظنون أن الإمبراطورية
البريطانية خالدة إلى الأبد، ومن قبلهم لم يصدق زعماء الكفر الجاهلي
ما تنبأ به "هرقل" نفسه، بل قال قائلهم:
"لقد أَمِـرَ أمْرُ محمد، حتى إنه ليخافه ملك بني الأصفر"
ولذلك يتعين على أهل الشأن، ومن يُهمّه تثبيتُ الأمة وطردُ الإحباط
واليأس عنها: أن يكشفَ وجه الحقيقة من خلال ربط الأحداث اليومية
بأصولها الكلية المطابقة لسنن الله في التمكين والعلو والإدالة
والاستدارج، وهذا ما سوف أحاول الإشارة إليه في هذه العجالة لعل الله
تعالى يجعلها تذكيراً للباحثين والمراقبين؛ لإظهار هذه الحقائق بشكل
دائم.
وقد جعلتها في شكل قواعد كلية، وأصول عامة مأخوذة من كتاب الله تعالى
وسننه الثابتة في الكون، وفصلتها بحيث يمكن للمتابع فيما بعد أن يضع
تحت كل أصل ما يرى من جزئيات وشواهد قد تقع لاحقاً؛ بل قد يفتح الله
عليه بقواعد وأصول أخرى، فالبحث مفتوح، والأحداث مستمرة، والواجب
علينا قائم دائم، والاجتهاد لفهم القضية وتوجيه المسار حتمٌ
لازم.
أول هذه القواعد والأصول:
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }
[الرعد:11]
وكلا طرفي المعركة غيَّر:
إخواننا الفلسطينيون غيَّروا من الخضوع إلى المقاومة، ومن الخوف إلى
الشجاعة، ومن الفرار إلى الثبات، ومن الاتكال على الحكومات إلى التوكل
على الله والثقة في الذات.
وأهم تغيير في الحقيقة هو أنهم غيروا من ضعف الإيمان وقلّة التديّن
والانخراط في المنظومات العقدية الوضعية - من اشتراكية وقومية وناصرية
ووطنية - إلى قوّة الإيمان، وانتشار التديّن، والانضواء تحت راية
الإسلام والجهاد، من مظاهر ذلك التغيير:
- الإقبال على الشهادة في سبيل الله بشكل لا نظير له من قبل؛ فكلمة
الشهادة هي الكلمة التي تردد على الشفاه كل لقاء مع الصغير والكبير
والذكر والأنثى، وبقدر ما يتخلصون من الوهن (حب الدنيا وكراهية الموت)
يقذفه الله في قلوب أعدائهم.
- الإقبال على كتاب الله؛ ففي كل حيٍّ أو قرية تقريباً أقيمت حلقة
لتحفيظ القرآن أو أكثر، وعددها الآن في الضفة والقطاع يقارب الألف
حلقة.. نعم، ألف حلقة قابلة للنمو بعد أن لم يكن شيء، ومن مظاهر ذلك:
الاهتمام بالعلم الشرعي، وانتشار حلقاته، ومحاربة الفساد، والقيام
بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقد صاحب قيام الانتفاضة حملة
انتفاضة على دور السينما والفساد، وكثير منها أغلق وضعفت مظاهر الضياع
بين الشباب بعد أن كان اليهود يعملون لتدمير أخلاقه.
- الإقبال على الحج والعمرة، وزيارة الحرمين الشريفين، ومتابعة إذاعات
القرآن الكريم، والبرامج الإعلامية الإسلامية في الإعلام الخارجي،
وإنشاء حلقات لتحفيظ القرآن بعد أن كاد ينسى، وقد بلغ عدد المنظمين
لها حوالي أربعة آلاف وخمسمائة طالب وطالبة من الكبار والصغار.
وفي الطرف الآخر حدث التغير عند اليهود؛ كانت الجماعات اليهودية
المؤسسة للكيان اليهودي كتائب حرب منظمة ومدربة، والمستوطنون كانوا
رجال عقيدة وإرادة، والدافع لهم ديني قبل كل شيء، وكانت الهجرة عبادة
وتضحية، وكان التوحد في الأهداف والمواقف ظاهراً، والفروق الاجتماعية
والعرقية تكاد تكون ملغاة.
أما الآن فقد ظهر جيل الترف والأمراض الاجتماعية، الجيل الذي يبحث عن
المتعة الرخيصة بأي ثمن، ولا يؤمن بأي مبدأ أو قيمة، وكثرت مظاهر
التراخي والتفرق، فالجنود يهربون من الخدمة، والمستوطنون يبحثون عن
الرفاهية، والسياسيون انتهازيون، والوعود التوراتية لم يعد لها بريق،
والشباب يدمنون المخدرات، والتمييز العنصري على أشده؛ الأمر الذي جعل
قادة الفكر اليهودي يشعرون بهذا التغير، ويتحدثون عنه قبل قيام
الانتفاضة.
القاعدة الثانية: { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } [الحشر:2]
لقد قلبت هذه الانتفاضة معايير الحروب، وغيَّرت منهج التفكير
الاستراتيجي العسكري الذي ظل العالم الحديث ينتهجه ويطبقه؛ حيث خرجت
بالحرب من مفهومها التقليدي - معركة بين جيشين - ووضعتها في قالب
جديد، ويمكن أن نعبر عن هذا في شكل نظرية تقول:
"حينما تنهار الجيوش النظامية أو لا توجد؛ فإن المقاومة تنتقل إلى
مجموعات تتشكل ذاتياً، وتؤمن بالقضية إلى حد التضحية المطلقة، وبذلك
يدخل العدو في مرحلة (الحرب غير المتوازية)"
و"الحرب غير المتوازية" مصطلح جديد، وضعته لجنة من الخبراء الأمريكيين
للتعبير عن النوع الآخر للحرب غير المتوازنة.
ومثال الحرب غير المتوازنة ما حدث بين التحالف الدولي والعراق. في حين
كانت الحرب بين حلفي (الناتو ووارسو) لو نشبت نوعاً من الحرب
المتوازية.
أما "الحرب غير المتوازية" فهي كما عرفتها اللجنة:
"التفاف قوة خفية على جيش تقليدي، وضربه في مقاتِله، وتحطيم روحه
المعنوية، وشل قدرته على المقاومة" وهذا هو أخطر أنواع الحروب!
هذا التعريف لم يستنتجوه عقلياً؛ بل هو وصف لما حدث في فلسطين، ولما
هو متوقع في أمريكا، لو تطورت الأعمال الإرهابية فيها على يد مواطنيها
أو غيرهم.
فالانتفاضة هي المثال الحي الشاهد على هذا النوع من الحرب، فقبل
قيامها تخلت الجيوش العربية النظامية عن واجبها، ووجد الجندي العربي
حاله كما قال الشاعر:
بل الواقع أن الحال أشد من ذلك! فزناده ناطق على من يعبر الحدود من
المجاهدين لقتال العدو.
والجيش اليهودي أقوى جيوش المنطقة، وخامس جيش في العالم - كما يقول
كثيرون -؛ بل إن الشعب اليهودي كله جيش، وقد عبر عن ذلك أحد المراقبين
اليهود قائلا: " كل شعوب العالم تملك جيشاً إلا في إسرائيل؛ فإنها جيش
يملك شعبا "!
وحينذاك رسخت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، والذي لم يعد يهدد الجيوش
العربية وحدها؛ بل بلغت غطرسته إلى حد التحرش بالجيوش الإسلامية
القوية كالجيش الباكستاني - مثلاً -؛ فقد جرى التفاهم بين اليهود
والهنود على ضرب المفاعلات النووية في هذا البلد، أما تهديد إيران
فتحول إلى ما يشبه اللازمة المتكررة !
لكن الانتفاضة المباركة أدخلت هذا الجيش في نفق "الحرب غير المتوازية"
وجعلته في أسوأ حالة له منذ نشوئه!
كيف حدث ذلك؟
حدث من خلال:
- تحويل التفوق النوعي له (بالقنابل والصواريخ المتطورة وغيرها) إلى
قوة محايدة! وتهشيم بنية الردع العسكري، وإحباط نظرية المجتمع الآمن و
إحلال مفهوم المجتمع المذعور محلّها، فقد انتهجت الانتفاضة أسلوب ضرب
كل هدف في كل مكان بأي شيء ممكن، وهكذا فقدت الأسلحة التقليدية من
وسائل الهجوم أو الردع قيمتها أو كادت، فالصاروخ المطور بمعونة
أمريكية يمكنه تهديد عاصمة عربية أو تدمير قاعدة عسكرية عربية، لكنه
لا يستطيع التقاط استشهادي من مستوطنة أو حافلة! والمفاعلات النووية
تتحول من مركز القوة الأعظم إلى هدف مفضل للمهاجمين الاستشهاديين،
وإلى مصدر خطر هائل على الدولة، وهلم جرا، وهكذا يصدق على الدولة
اليهودية قوله تعالى عن أسلافهم: { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ }
[الحشر:2]
القاعدة الثالثة: { إِن تَكُونُواْ
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ }
[النساء:104]
ما أكثر آلام إخواننا في الأرض المحتلة وما أشد معاناتهم، لكننا لن
نتحدث عن هذا الجانب فالإعلام اليومي كفانا هذا العناء، والإعلام
العربي - كما أشرنا - يحاول أن يجعل المعاناة هي المشكلة، ربما لكي
يكون إيقاف الانتفاضة هو الحل!
أما الإيلام الواقع باليهود فهو مما لم يشهدوه في تاريخهم كله:
وسوف نعرض ذلك مع الاهتمام بالجانب الأبلغ منه، وهو الألم بالقتل الذي
هو أشد شيء على قوم هم أحرص الناس على حياة، وهنا نجد الخط البياني
شاهداً بوضوح على أن الانتفاضة في تقدّم وعلوّ، وأن العدو في انحطاط
ودنوّ:
عند قيام الانتفاضة كانت نسبة القتلى من العدو 1 إلى 50 من
الفلسطينيين، ومع ذلك فقد كان اندلاعها والإخفاق في إيقافها سبباً في
إسقاط (باراك) وترشيح (شارون)، وهو أشقى المغضوب عليهم، وأشدهم وحشية
وهمجية، وقد علق اليهود آمالهم عليه لذلك، وصدقوه حين وعد بالقضاء على
الانتفاضة خلال مئة يوم.
فما الذي حدث؟
استمرت الانتفاضة وتضاعفت آثارها، وارتفع معدل عدد القتلى من
المستوطنين من 3 قتلى شهريا أيام (باراك)، إلى 17 قتيلا بعد مجيء
السفاح المخلِّص (شارون).
وبعد 400 يوم من الإفراط في العنف؛ وجد شارون أن القتلى من اليهود
بلغوا في شهر واحد (إبريل 2002) أكثر من 140 قتيلا! وهو ما يعادل
خسائر العشرة شهور الأولى من الانتفاضة كاملة، وهنا جُنَّ جنونه أو
كما عبر عن ذلك رئيس الموساد: "اضطربت قواه العقلية " فجاء بمشروع
الجدار الواقي، واجتياح المدن الفلسطينية.
كما جاء في شهادة وزير المالية اليهودي التي أوردها في خطابه أثناء
مناقشة ميزانية هذا العام، حيث قال: " كنا نحارب ونحارب على الحدود،
أما في هاتين السنتين فإننا نحارب ونحارب في كل مكان: في الشوارع،
والفنادق، والمطاعم، والمستوطنات، في البر وفي البحر" وصدق الله
تعالى: { وَلاَ تَهِنُواْ فِي
ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ
يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }
[النساء:104]
القاعدة الرابعة: { وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } [الأحزاب:26]
(الهزيمة تمر بثلاث مراحل: مرحلة القلق والخوف والحيرة، ثم مرحلة
اليأس وفقد الثقة، ثم مرحلة الاستسلام أو الموت"، وقد تأتي مرحلتان
منهما معاً كما هو حال اليهود)
بعد خمسة شهور فقط من اشتعال الانتفاضة؛ ظهرت العلامة الكبرى على
الانهيار المعنوي للعدو، متمثلة في البيان الذي أعلنه الرافضون للخدمة
العسكرية، وهم مجموعة من 50 ضابطاً وجندياً قد أعلنوا إنشاء حركة"
الشجاعة في الرفض"، وعللوا موقفهم بأمرين:
- أن الضفة والقطاع أرض محتلة؛ فالقتال فيها غير شرعي.
- أن الانتفاضة أدت إلى فيضان الدم!
وظلّ المنضمّون إلى الحركة يتكاثرون بالمئات حتى بلغوا الألف - كما
ذكرت بعض المصادر الغربية -. أما الجدل بشأنهم فقد تحول إلى مشكلة
خطيرة لدى القيادات، وكشف ذلك عن هزيمة نفسية أخذت عدواها تتفاقم في
الأمة كلها، وظهرت له أصداء في الإعلام المحلي والعالمي، حتى وصفت بعض
التحليلات الرفض بأنه ثورة متنامية، وعلق آخرون بأنه بداية التمرد
المدني والدخول في مرحلة الفوضى، ومما يؤكد هذه المخاوف أن 180 منهم
قد سجنوا ومع ذلك لم يتراجعوا عن موقفهم! (البيان الإماراتية
10/11/2002)
ومن أقرب المظاهر إلى رفض الخدمة: مظهر التهرب منها بالتمارض، أو
التأجيل، أو غيرها من الحيل التي يجيدها اليهود، وكذلك قلة الإقبال
على الدخول في الأكاديميات العسكرية؛ حتى إن بعضها قد أقفل، ولم تجد
العقوبات العسكرية شيئا؛ بل ارتفع عدد المُوقَّفين المتهربين من
الخدمة من 600 في أول عام 2002 إلى ألف بعد عشرة شهور.
لقد حاول الإعلام اليهودي تعليل هذه الظاهرة الغريبة، فقالت جريدة
"معاريف": "إن حياة الجنود في الدبابات جحيم لا يُطاق، فالأوامر
الصادرة لهم تتضمن البقاء داخل الدبابة طوال الفترة المحددة لهم دون
الخروج منها، بل إنه صدرت أوامر لهم تحظر عليهم حتى النظر من فوهات
الدبابة؛ خوفاً من تعرضهم لرصاصات طائشة تأتيهم من المناطق المحاصرة،
كما لا يستطيع الجنود الخروج من الدبابة لقضاء حاجتهم كالذهاب إلى
مرحاض أو إلى حمام، وذلك خوفاً من تعرضهم لقناص فلسطيني ينتظر خروجهم
من الدبابة. وأوضح التقرير أن الجلوس لفترة طويلة داخل دبابة - مع
الشعور بالخوف من المحيط الذي توجد فيه الدبابة - يجعل الجنود في قلق
دائم بحيث ينتظر الجندي بفارغ الصبر انتهاء ورديته للخلاص من هذا
الجحيم الذي لا يُطاق. وأضاف التقرير أن وجود الجنود داخل الدبابة
واحتكاكهم طوال الوقت بعضهم مع البعض يسبِّب مضايقات لهم، حتى إن
نفسية الجنود أصبحت منهارة، وأصبحت العلاقة بينهم تتسم بالمشاحنات
والمشاجرات، هذا إلى جانب الملل والضجر الشديدين".
والأمر الذي يجب قوله هنا: إن يقظة عقل المؤمن؛ بل مبادرته جعلت الرعب
مستمراً، وهيأت له الدوافع التي لا تنقطع، ومن ذلك تفجير الدبابة
"مركبا 3" التي تعد أكثر الدبابات متانة في العالم وقد أحدث هذا العمل
آثاراً مادية ومعنوية كبيرة، فالتقارير المنقولة آنفاً مكتوبة قبل
حدوث هذه المفاجأة، وعليه نقول:
ما الظن بالجندي اليهودي الذي كان يرى الحياة في الدبابة جحيما لا
يطاق حين يراها فعلاً تنفلق وتشتعل في جحيم حقيقي؟!
وقد دلّت البيانات اليهودية على هذا الرعب بدقة الأرقام فنشرت جريدة
"إيديعوت إحرونوت": أن معدلات الخوف بين المستوطنين كانت 57% في مطلع
شهر أكتوبر 2001 ، ثم بلغت 68% في منتصف الشهر، ثم بلغت 78% في مطلع
الشهر التالي!
والأمثلة كثيرة جداً والتساؤل الذي قد ينشأ هنا وهو إذا كان اليهود
يعيشون هذه الحالة فلماذا يزدادون عنفاً وشراسةً، ويفرطون في الانتقام
والتشفي يوما بعد يوم؟! هل لهذا من تعليل أو قاعدة؟
ونجيب: نعم إن القاعدة التي يدل عليها كتاب الله، وواقع الكائنات
الحية، فضلاً عن تاريخ اليهود هي "أن الوحشية في الانتقام، والعنف
المفرط؛ هما دليل واضح على بلوغ مرحلة اليأس التي تسبق - عادة - مرحلة
الاستسلام أو الموت لدى الكائنات الحية".
والطواغيت حين يتصرفون بغريزة حب البقاء، ويتعامون عن الإقرار
بالهزيمة، يلجؤون في مرحلة اليأس إلى استنفار كل الطاقة، والضرب بها
في كل اتجاه بلا تفكير ولا هوادة، كما تفعل الوحوش أو الطيور إذا حشرت
في زاوية، لكن ذلك يعقبه عادة النهاية المحتومة.
القاعدة الخامسة: { وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } [البقرة:61]
يضرب بعض الرواة مثلاً للوهن الذي أصاب المسلمين، حين قدوم التتار في
القرن السابع الهجري؛ بأن التتاري الأعزل كان يمر ببعضهم، فيقول:
انتظروا هنا حتى آتي، ثم يذهب فيأتي بالسيف فيضرب أعناقهم...
وقد توصل العلماء إلى أن ظاهرة العجز المكتسب في المجتمع الإسرائيلي
تنطوي على أخطار كثيرة، مثل: الشلل من جهة، والتطلع من جهة أخرى إلى
حلول سحرية قد تحل كل المشاكل بضربة واحدة، وهذا الاتجاه الأخير أرض
خصبة لتطور توق قوي إلى ظهور مسيح دجال، والاستعداد لقبول من يقدم
نفسه "كقائد قوي" يمكنه حل المشكلات كافة. (وهذا يفسر ظهور شارون الذي
وعدهم بإعادة الأمور إلى نصابها).
ومن أطرف المؤشرات على حالة الذعر التي انتابت التجمُّع الصهيوني أنه
مع تصاعد الانتفاضة بدأت حالة الذعر تنتاب الكلاب والقطط في المنازل
الإسرائيلية، ولذا اقتضى الأمر تقديم المهدئات لها "الفاليم"، وقال
أطباء بيطريون: إن الكلاب تبدأ في النباح، وتصبح أكثر عدوانية، وترتجف
لا إرادياً، أو تفقد التحكّم في مثانتها عندما تصل أصداء دوي إطلاق
النار في الضفة الغربية إلى مباني القدس.
ومن أصدق ما يعبر عن هذه الحالة ما كتبه (إيتان هابر) وهو معلق سياسي
بارز، وكان أميناً خاصاً لمكتب إسحاق شامير، حين كتب مقالاً في شكل
سؤال "ما الوضع؟"
ووصف الوضع في إسرائيل بأنه: "مثل بطل تلك الميثولوجيا(سيزيف)، الذي
كان يدحرج -بعناء شديد - صخرة نحو قمة الجبل، فتعود لتتدحرج مرة بعد
أخرى على المنحدر. هكذا هو الجيش الإسرائيلي، الذي خرج هذا الأسبوع في
(حملة متدحرجة)، والجميع يعرف أنه بعد يوم، أسبوع، شهر، أو سنة - من
تدمير وسحق (قواعد الإرهاب) - سيعود الإرهاب الفلسطيني إلى المقاهي
ومحطات الباصات"! (يديعوت أحرونوت 2/4/2002).
ولا يتردد الكاتب نفسه في وصف إسرائيل بأنها (دولة مجذومة)، يمقتها
العالم كله ما عدا أمريكا، ويؤكد أنه حتى أمريكا لابد أن تغير موقفها
يوماً ما. (16/1/2002)
وليس هناك ما يفسر هذا العجز والهوان بأصدق من قوله تعالى: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } [آل
عمران:112].
وهنا - أيضاً - لابد أن نجيب عن إشكال قد ينشأ، وهو أننا نشاهد العدو
يطوِّر خططه، ويغير في أساليبه (من الحواجز وفتح الطرق الالتفافية حول
المستوطنات، إلى بناء الجدار الواقي، إلى الاجتياح، وأخيراً إلى
التهجير)، فكيف يتفق هذا مع ما تقدم من دلائل العجز والإحباط ؟ هل
لذلك من قاعدة أو تعليل؟
ونجيب - أيضاً -: نعم، هناك قاعدة يدل عليها كتاب الله، وواقع الأمم
الطاغية قديماً وحديثاً، وهي: "أن القوى الطاغية حين تصدمها قوة الحق
ترفض الاعتراف بالضعف، لكن هذا الاعتراف يأتي ضمناً في إعلانها عن
البدائل التي تلجأ إليها؛ للخداع النفسي والهروب من الحقيقة".
هكذا فعل فرعون حين أسقط في يده، فقد لجأ إلى الإيهام ببناء غير
معقول، فقال { يا أَيُّهَا الْملأُ مَا
عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يهَامَانُ
عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى
إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ }
[القصص:38].
وهذا منهج مراوغ للتعبير عن الحالة التي قد تكون وهماً، كما هو حال
ابن نوح - عليه السلام - حين قال { سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ
الْمَآءِ } [هود:43]، وقد تكون في حيز الإمكان، كما قال قوم
إبراهيم عليه السلام حين أفحمهم بالحجة: { قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً
فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ } [الصافات:97]، وفي هذه الحالة
يشتغل الرأي العام بالمشروع وإمكانية تنفيذه عن القضية الأصلية، مما
يجعل الطاغوت يبحث في الوقت الضائع عن مشروع آخر..
القاعدة السادسة: { وَلَوْلاَ أَن
كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ } [الحشر:3]
"عندما يرتد العدو عن عقيدته التي من أجلها جاء وقاتل، فإن ذلك يعني
أن الهزيمة النفسية لديه قد بلغت النهاية"، والردة هنا ليست تعبيراً
مجازياً، بل هي حقيقة دينية عند الصهاينة، فهم يسمون العودة من أرض
الميعاد ردة، وهي كذلك، إذا علمنا أن الهجرة إلى أرض الميعاد هي
الأُسطورة التي بنيت عليها العقيدة الصهيونية كلها، واليهودي يعبر عن
إيمانه بقدر حبه لهذه الأرض، وحنينه الدائم إليها، ليس لمجرد أنها
الأرض المباركة التي اختصهم الله بها -كما يدعون-، بل لأنها أيضاً
تفيض لبناً وعسلاً، كما جاء في التوراة.
ومن هنا لاحظ المراقبون أن الدولة اليهودية -بكل فئاتها- تحاول
التعمية أو التحفظ على أرقام المهاجرين منها، مثلما تفعل بالنسبة
لأرقام القتلى والجرحى أو أكثر !
لقد كان الخوف من تكاثر العرب - الذي يقلب ميزان التوازن السكاني فيها
- هو أكبر المشكلات، وقديما قالت (جولدا مائير): "إن الفلسطينيين
يتكاثرون كما تتكاثر الأرانب"، حتى جاءت الانتفاضة المباركة، فأصبحت
تلك المشكلة بمثابة الطامة الكبرى!
كان اليهود يتوقعون - وفقاً لمعدلات النمو السكاني - أن يصبحوا عام
2020 أقلية بين العرب، وكان ذلك يفزعهم، وينذر بمصير مشؤوم لدولتهم،
حين نشروا ذلك قبيل اشتعال الانتفاضة، وهذا التشاؤم في محله؛ لأن
عشرين سنة في عمر الأمم ليست شيئاً مذكوراً، أما الآن فالوضع لم يعد
يحتمل، بل هو مخيف للغاية، فالانتفاضة أوجبت خفض الأرقام والتقديرات؛
لكي تكون النهاية أقرب بكثير، قد يكون عام 2010مثلاً، وهذا كابوس مرعب
لا يطيقون مجرد التفكير فيه، فماذا تقول لغة الأرقام ؟
يبلغ عدد العرب داخل الأرض المحتلة مليوناً وثلاثمائة ألف أول عام
2002، وسيبلغون عام 2020 مليونين ومائة ألف، أما سكان الضفة والقطاع
فإن عددهم يزيد سنوياً بمقدار 180 ألف نسمة، أي ما يقارب عدد
المستوطنين الذين تجمعوا فيها من اليهود في مدة 34 عاماً، فهم يقدرون
بحوالي 200,000 مستوطن، أنفقت الدولة عليهم مليارات الدولارات، غير
الخسائر البشرية !
وبعد اشتعال الانتفاضة انتشر الرعب في المستوطنات، وبدأت الهجرة إلى
داخل ما يسمى بـ(الخط الأخضر)، وأطلقت الصحافة اليهودية لقب (مستوطنات
الأشباح) على ذلك العدد الكبير الذي أخلي منها أو كاد، وأورد بعضها أن
نسبة المهاجرين منها بلغت40%، أي أن إسرائيل تحتفظ باحتلال الضفة
والقطاع، وتتكلف الخسائر الهائلة مادياً وبشرياً ومعنوياً من أجل
120,000 يهودي فقط، هم سكان المستوطنات!!
وهذا ما عبر عنه - حرفياً - أكثر من ناطق من مؤيدي الانسحاب من طرف
واحد، والعودة إلى حدود ما قبل الاحتلال، ومنهم اليسار كله والمنظمات
المؤيدة للسلام.
لكن رافضي الانسحاب يردون على ذلك بأن الانتفاضة شملت كل المناطق داخل
الخط الأخضر أيضاً، وأن الهجرة إلى داخل الخط ما هي إلا تمهيد للرحيل
نهائياً عن البلاد، أي الردة.
ومن هنا نفقه الظاهرة التي تتعاظم بشكل واضح، وهي ظاهرة عبر عنها بعض
الإعلاميين العرب خطأ بأنها (يقظة ضمير)، ونعني بها المطالبة
بالانسحاب إلى داخل الخط الأخضر، والاعتراف للفلسطينيين بما هو خارجه
على تعديلات أو اختلافات في التنفيذ، وأهم من ذلك الاعتراف بوحشية
الجيش اليهودي، والمطالبة بأن يكون متحلياً بالرحمة والانضباط !
فمثلاً قاد (إيهود باراك) نفسه حملة الألف ضابط المتقاعدين؛ للمطالبة
بالانسحاب من طرف واحد، وجاء في استطلاع (معاريف) أن 70% من
المستوطنين يؤيدون ذلك الانسحاب ! فهل هذه حقاً يقظة ضمير؟
أم أن هناك قاعدة أو سنّة اجتماعية تعلل ذلك؟ والجواب - كما رأينا في
كل مرة - موجود في كتاب الله، بيَّنه الله من حال اليهود أنفسهم،
فإنهم لما أبلغهم نبي الله موسى عليه السلام - بأمر الله - أن يذبحوا
بقرة، كانوا يعلمون أنه جاءهم بالحق وأمرهم به، ولكنهم لم يقولوا: {
الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ }
[البقرة:71]، إلا عندما ضاقت بهم الحيل عن الاستمرار في
المماطلة.
وهكذا نستخرج القاعدة التالية: عندما يعيد العدو -وهو معروف دائما
ببعده عن العدل والمنطق- النظر في عدالة القضية، ويبدأ في التفكير
المنطقي، فإن ذلك لم يحدث نتيجة خوف الله أو يقظة ضمير، بل نتيجة ضغوط
الواقع وتأثير المقاومة !
القاعدة السابعة { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي
الأَرْضِ أُمَماً } [الأعراف:168].
"في كيان غريب ومحفوف بالأعداء، ودولة عنصرية لا هوية لها ولا دستور
ولا حدود، تكون علاقة الأمن الشخصي بالأمن القومي قوية إلى درجة
عالية".
في الحالات العادية حين يقاتل الإنسان على أرضه عن دينه، أو ماله أو
أي قيمة يراها يكون أمنه الشخصي أقل ارتباطا بالأمن القومي أو الأممي؛
لأن الجذور عميقة والكيان قائم، مهما بلغت التضحيات، وهكذا بقي الوطن
في حالات مثل فيتنام واليابان وألمانيا ودول كثيرة منيت بخسائر بشرية
فادحة.
وأعظم من ذلك بقاء المجاهد الجزائري والأفغاني والشيشاني وغيرهم
ثابتين متشبثين بتحرير بلادهم من العدو، ورغم كل التضحيات والفوارق في
القوة.
أما في الحالة اليهودية فالأمر يختلف جداً، حيث لا وجود في الأصل
لكيان باقٍ أو وطن ثابت؛ وذلك أن الكيان نفسه إنما تركب عضوياً من
آحاد المهاجرين الذين تجمّعوا في بيئة غريبة يجهلون عنها كل شيء
تقريباً بدوافع عاطفية، وهذا التجمع لا هوية له، فحتى الآن لم يتفقوا
على تعريف (اليهودي)، بل إن عدداً غير معلوم - من فقراء الهند والحبشة
وروسيا - دسّوا أنفسهم بين اليهود المهاجرين رغبة في حياة أفضل.
وكذلك لا دستور له، فإسرائيل ليس لها دستور ولا حدود رسمية حتى الآن!!
وهؤلاء الغرباء المهاجرون لا يزالون يحملون ذكريات بلادهم الأصلية،
ولغتها وملامحها، وبالتالي يستيقظ هاجس العودة إليها كل حين، لا سيما
حين الإحباط والذعر - كما في حالة ما بعد الانتفاضة - كما أن جنسيتهم
تؤهلهم للعيش في بلاد كثيرة غنية وآمنة. وهكذا يؤدي تناقص عددهم -
بالهجرة خاصة، وبعوامل أخرى كالتكاثر السكاني لخصمهم - إلى أن يتقطَّع
الكيان في النهاية، ويتناثر مثلما تتناثر الأشلاء في عملية تفجير
قوية، وفي هذا إعادة للشتات الأول، الذي قال الله تعالى عنه { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ }، بل
هو في هذه المرة أولى؛ فالعمر الزمني للمعركة لا يزال قصيراً جداً،
ووسائل العودة متوفرة بما لم يكن يخطر على بال أحد من البشر قديماً،
وعوامل التآكل الذاتي قائمة، فكيف والهدم يزداد والضربات تتوالى ؟!
ومن هنا يظهر أثر (الردة) كما تقدم، والتأكيد على هذا مهم؛ لأن بعض
الناعقين من العرب - ومنهم منتمون إلى السلطة - يفصلون في أحاديثهم
وتحليلاتهم بين الأمن القومي والأمن الشخصي، والفكرة أصلاً منقولة من
التحليلات الأمريكية عن ضعف أثر الإرهاب على الأمن القومي الأمريكي،
ونحن نقول: هبوا أن الأمر كذلك، لكن القياس خطأ، فأمريكا كيان كبير
قائم لا يتأثر بتأثر آحاد قليلة منه، أما في إسرائيل فالفرد الواحد له
أهميته، والأسرة الواحدة في المستوطنات لها أهمية استراتيجية.
ولذلك فإن ما يجتاح الكيان اليهودي هو تهديد مباشر لوجود الدولة ذاته
وبداية زوالها، وهل هناك دليل أكبر من هجرة ربع سكانها تقريباً، وهي
أصلاً كيان استيطاني لا جذور له؟!!
ولإيضاح ذلك نقول:
إن ربع سكان الدولة العبرية تقريباً هم من العرب، والربع الثاني - وهو
الأغنى والأرقى تعليماً وخبرة - قد هاجر، فلم يبق من اليهود إلا النصف
المذعور والأفقر! وهذا النصف إن بقي كله أو بعضه سيصبح أقلية في محيط
من العداء المتلاطم والمتزايد يومياً، ولن يستطيع الصمود في حرب
الاستنـزاف التي فرضتها عليه الانتفاضة المباركة.
هكذا إذاً يصبح الحديث عن أمن الدولة لا معنى له؛ لأن القضية هي قضية
بقاء الكيان أو زواله، وهذا ما عبَّر عنه أكثر من مفكر سياسي
يهودي!
إن موضوع نهاية إسرائيل مطروح الآن على قائمة الاهتمامات الفكرية
والوجدانية الصهيونية. انظر على سبيل المثال إلى (يديعوت أحرونوت)
(بتاريخ 27/1/2002)، والتي ظهر فيها مقال بعنوان (يشترون شققاً في
الخارج تحسباً لليوم الأسود)، واليوم الأسود هو اليوم الذي لا يحب
الإسرائيليون أن يفكروا فيه. ونفس الموضوع يظهر في مقال (ياعيل باز
ميلماد) - معاريف 27/12/2001، والذي يبدأ بالعبارة التالية: "أحاول
دائماً أبعد عنّي هذه الفكرة المزعجة، ولكنها تطل في كل مرة وتظهر من
جديد: هل يمكن أن تكون نهاية الدولة كنهاية الحركة الكيبوتسية؟ من
نقطة الزمن الحالية ما زالت هذه الفكرة مدحوضة، ولكن ثمة الكثير جداً
من أوجه الشبه بين المجريات التي مرت على (الكيبوتسات) قبل أن تحتضر
أو تموت، وبين ما يجري في الآونة الأخيرة مع الدولة".
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "ولكنكم تستعجلون"
!
القاعدة الثامنة: { وَانظُرْ إِلَى
إِلَـهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ
لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } [طه:97].
"إن الأمة التي هي أكثر الخلق طمعاً وجشعاً وعبودية للمال، لابد أن
تتمزق وتنهار حين ترى صنمها من الذهب يحترق".
قبل اشتعال الانتفاضة المباركة كانت الدولة اليهودية تعيش عصرها
الذهبي، لا سيما في الاقتصاد، فقد أصبحت تطمع لتكون إحدى الدول العشر
الأولى في العالم من حيث مستوى دخل الفرد، أما التقنية المتقدمة -لا
سيما في مجال الاتصالات- فقد بلغت الذروة، وأصبحت تتهيأ لاقتحام
الأسواق العربية الواسعة، بعد أن ألغى العرب برامج المقاطعة، وبدأوا
يستسلمون لأغلال العولمة، ومشروع الولايات الشرق أوسطية، بل وصلت
الأموال العربية في بورصة تل أبيب إلى عشرة مليارات دولار سنة 1998م
وأصبح المهاجر اليهودي من روسيا وغيرها يحترق شوقاً لرؤية معبد العجل
الذهبي الجديد، والأرض التي تفيض لبناً وعسلاً... كما تقول
أسفارهم.
أما المستوطنون فقد بلغوا غاية الرفاهية، وكانوا يسمون - قبل
الانتفاضة - أصحاب الفاءات الثلاث: أي ( الفيلا والفولفو والفيديو)،
فلما قامت الانتفاضة المباركة هبطت بالاقتصاد اليهودي إلى أسوأ حالاته
منذ قيام الدولة، وذلك بإجماع الخبراء والمراقبين في إسرائيل،
والهيئات الدولية المختصة، ودخلت الدولة الصهيونية في دوامة لا قرار
لها في كل المجالات، ومنها المجال السياسي الأعلى في الدولة، فقد رأى
العالم كيف أن معركة الميزانية الحالية فككت التحالف الحكومي اليهودي،
وباعدت الخلاف بين أطرافه، بحيث يمكن القول: إن الصراع بين الحزبين
الكبيرين أدى إلى موت حزب (العمل) دماغياً، وإصابة حزب (الليكود)
بجراح خطيرة !!
إن ركود الاقتصاد - أو انهياره - مشكلة خطيرة في أي بلد في العالم،
لكنه بالنسبة للدولة اليهودية كارثة محققة، وقد عبر أحد المحللين عن
هذه الحال قائلاً: "بالنسبة لنا - معشر اليهود - الاقتصاد أهم من
الأمن".
عند البحث في الإعلام اليهودي عن حالة الاقتصاد يجد الباحث إجماعا
ثابتاً، وخلافاً شديداً في آن واحد.
أما محل الإجماع فهو أن ما يحدث هو أسوأ ما مرَّ على الدولة اليهودية
منذ قيامها، وأما الخلاف فهو في الأرقام الدالة على ذلك.
فالإعلام الرسمي يذكر أرقاماً لا يقره عليها المعلقون في الصحف، ثم إن
هؤلاء المعلقين يختلفون فيما بينهم كثيراً، بين المتشائم جداً والأقل
تشاؤما، ولهذا الاختلاف أسباب - مع اعتبار أن الخلاف عادي في هذه
الأمور - أهمها الميول الحزبية، كما أن بعض التقديرات تتحدث عن
الخسائر المباشرة، والبعض يتحدث عن جملة الخسائر، وهكذا.
وتصديقاً لذلك جاء تقرير (صندوق النقد الدولي)؛ ليؤكد أن العجز سيفوق
المخطط له، وأوردت الصحيفة نفسها - بتاريخ (4/2/2003) - ذلك ضمن مقال
بعنوان: "رقم قياسي في العجز الحكومي في يناير بلغ 2,66 مليار شيقل".
واستهلته بالقول:
"حكومة إسرائيل تستهل العام بعجز ضخم يفوق ما هو مخطط له بمليار
ونيف"! فإذا كان هذا في أول شهر من السنة، فكيف يكون سائرها؟
وقد أظهرت التقارير الاقتصادية للصحيفة أن السنة الجديدة شهدت تدهوراً
في مجالات كثيرة منها:
1. هبوط بنسبة 37% في نسبة دخول السياح في شهر فبراير إلى
إسرائيل.
2. انخفاض بنسبة 13% في حركة المسافرين في مطار جوريون الدولي.
3. انخفاض نسبة زوار المجمعات التجارية في إسرائيل بنسبة 30-50 % في
عيد الفصح !
وفي موقع (بي بي سي) في 18/2/2003 يرد إعلان رئيس اتحاد المصانع
الإسرائيلية عن إغلاق 60 مصنعاً في إسرائيل سنة 2002، بالإضافة إلى
إغلاق 150 مصنعاً للتقنية المتقدمة، وأنذر المجتمعين في مؤتمر الاتحاد
بأن عام 2003 قد يشهد إغلاق 90 مصنعاً للأثاث، وكذلك 150 مصنعاً
للتقنية، ولأن هذه المعلومات وأمثالها تفوق التوقعات، ولأن الفساد
استشرى في زعماء الدولة الصهيونية بشكل فاضح، لم يجد البيت الأبيض
مناصاً من رد شارون خائباً في زيارته الأخيرة لأمريكا، مع المطالبة
بالأرقام التفصيلية للميزانية الإسرائيلية، وهو طلب غير معهود في
التعامل السياسي بين الدول، لكن (هآرتس) في (26/2/2003) نقلت عن
الوزير الإسرائيلي المسئول أن إجابة الطلب لابد منها، وأن شارون أعطاه
الموافقة على ذلك.
لقد انهارت الأسطورة -أسطورة العجل الذهبي- وأحرقته الانتفاضة
المباركة، وسوف تنسفه في اليم نسفاً بإذن الله، أما حلم الأرض التي
تفيض لبناً وعسلاً، فقد أفاق منه الصهاينة على أرض تفيض دماً وأشلاء
!!
سفر بن عبد الرحمن الحوالي
رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى سابقا
- التصنيف: