عالمية الإسلام وعمومه
ويشترط في عالمية الدين أن يكون صالحًا لكل جنس، وبدون ذلك لا يتحقق معنى العالمية في أي دين
لا شكّ أنّ الاعتقاد الديني، والميل الديني حاجة روحية، ضرورية لصلاح البشر، فلا يختص بها فريق من الناس، دون باقي البشر؛ لذلك كانت الحاجة ماسة إلى دين عالمي، يكون دعوة إلى جميع البشر.
(أ. محمد عزت الطهطاوي: النصرانية والإسلام. [ص:308]، ط2، 1407هـ/1987م، مكتبة النور - القاهرة).
ويشترط في عالمية الدين أن يكون صالحًا لكل جنس، وبدون ذلك لا يتحقق معنى العالمية في أي دين.
(د. أحمد عبده عوض: الإسلام والبعث الحضاري، [ص:42-43]).
وقد ذكر العلماء والمفكرون أن للدين العالمي الصالح لكل زمان ومكان خصائص أربع، نُجمِلُها في الآتي:
1- تحقيقه للأمن الذي يكفل وَحْدة الإنسانية، وحماية أفرادها.
2- قيام شريعته على نَبْذ عصبية الجنس واللون.
3- ألا يتنافر مع حقائق العلم، ومقتضيات العقل السليم، والفكر القويم.
(أ. أحمد عبد الغفور عطار: أصلح الأديان للإنسانية "عقيدة وشريعة"، [ص:20-21]، ط 1400هـ/1980م، مكة المكرّمة).
4- الثبات والاستقرار، بحيث يكون كاملاً، كلٌّ لا يتجزّأ، لا يحتاج إلى تطوير بل إلى اجتهاد، لا تؤثر فيه الأحداث والتطورات الحضارية، موفيًا بجميع مطالب الإنسان المتنوعة المتجددة في كل ميادين الحياة (د. أحمد عبده عوض: الإسلام والبعث الحضاري، [ص:39]).
"والحق الحقيق بالقبول أنَّ هذه الشروط تتمثل -واقعًا وتطبيقًا- في الإسلام، فمجتمع الإسلام هو مجتمع البشرية كلها. فالدين الذي يصلح للبشرية كلها يجب أن يحوي الشريعة والعقيدة معًا، ويجب أن تكون العقيدة صحيحة وسليمة، والشريعة خيِّرة وصالحة"
(أ. أحمد عبد الغفور عطار: أصلح الأديان للإنسانية عقيدة وشريعة [ص:23]).
فقد جاءت الشريعة الإسلامية خالدة على الدهر، باقية على الزمن، وافية بحاجات الأمة في نظامها العبادي، والفردي، والخُلُقي، والاجتماعي.
(الشيخ السيد سابق: خصائص الشريعة الإسلامية ومميزاتها. المقدمة "ج"، ط 1، 1409هـ/1988م، الفتح للإعلام العربي - القاهرة. وأيضًا: أ. أحمد عبد الغفور عطار: أصلح الأديان للإنسانية "عقيدة وشريعة"، [ص:108]).
وقد جاء الإسلام لرسم إطار المنهاج الإلهي لحياة البشر في كل زمان ومكان، بحيث يقدم للإنسان العقيدة التي تستجيب لكافة تطلعاته.
وقد توافرت في عالمية الإسلام العناصر المتكاملة المتمثلة في:
1- وحدانية الإله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21].
2- الإيمان بكتب الله المنزلة على أنبيائه، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
3- الإيمان بجميع الرّسل الذين أرسلهم الله إلى عباده؛ لأن الله تعالى اصطفاهم من عباده، وحملهم رسالته عن طريق ملائكته الكرام، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] (أ. محمد عزت الطهطاوي: النصرانية والإسلام، [ص:318]، وقارن: أ. أنور الجندي: التوحيد "مقال بمجلة منبر الإسلام" 1392هـ/1973م، القاهرة).
ومما يدلُّ على عالمية الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بُعِثَ للبشر عامة، بدليل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28].
وأيضًا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «... وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصَّة، وبُعثت إلى الناس كافَّة» (البخاري: الجامع الصحيح. كتاب الصلاة. باب: «جٌعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، [ص:105]، رقم: [438]، من حديث جابر بن عبد الله).
بخلاف كل رسول أتى قبله، فنوح عليه السلام جاء خاصًا بقومه، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ} [نوح من الآية:1].
وكذلك موسى وعيسى عليهما السلام قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ....} [الصف من الآية:5]. وقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ...} [الصف من الآية:6]. وورد منسوبًا للمسيح: "لَمْ أُرْسَلْ إِلا إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إسرائيلَ الضالَّةِ" (متّى 15: 24).
وقد ردّ ابن تيمية على النصارى الذين يدّعون أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، يقتضي العرب وحدهم، بأن صيغة مَنْ تقتضي العموم، وليس العرب وحدهم، وذكر دليلًا على ذلك، وهو أن الآية نزلت لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران يختصمون إليه، فناظرهم؛ نزلت هذه الآية المباركة. ومما يدل على عموم الآية للجميع، وليس للعرب ذمَّه سبحانه للنصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. فهذه الآية تثبت إلزامهم بعبادة الله وحده.
(انظر: الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، جـ2، [ص:117-120]، تحقيق: د. علي حسن ناصر وآخرين، ط2، 1419هـ/1999م. دار العاصمة - الرياض، وقارن: عبد الكريم الخطيب: التعريف بالإسلام، [ص:8]، ط1، د. ت. دار الفكر العربي - القاهرة).
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله عدة أدلة تثبت عموم الإسلام وعالميته، وهي:
1- إسلام النجاشي، ونصارى العرب.
2- إرسال الرُّسُل إلى جميع الطوائف الموجودة في عهده.
3- قتاله صلى الله عليه وسلم النَّصارى.
4- إرسال الكتب والرُّسُل إلى ملوك الفرس.
5- ضَرْبُه الجزية على المجوس (انظر: الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، جـ1، بصفة عامة من: [ص:247–328]).
ويقول رحمه الله: "وكان دينه الذي ارتضاه الله لنفسه هو دين الإسلام الذي بعث به الله الأولين والآخرين من الرسل، ولا يقبل من أحد دينًا غيره: لا من الأولين ولا من الآخرين" (انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح. جـ1، [ص:81]).
ومما يؤكد -أيضًا- عموم الإسلام وعالميته أنَّ الله تعالى دعا المسلمين لإعلان الوَحْدة الكبرى للدين من لدن أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام إلى دعوة الإسلام الأخيرة، ويدعو أهل الكتاب إلى الإيمان بهذا الدين الواحد: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة دين الأنبياء عليهم السلام وأنه الإسلام، فأعلن بذلك الوَحْدة الكبرى، فقال: «أنَا أَوْلَى النَّاسِ بابنِ مريمَ، الأنبياء أبناء عَلاتٍ، وليسَ بَيني وبينه نبيٌّ» (مسلم: صحيحه. كتاب الفضائل. باب "فضائل عيسى"، [ص:962]، رقم [2365]، من حديث أبي هريرة).
"تلك الوَحْدة الكبرى بين الرسالات، والرسل جميعًا هي قاعدة التصور الإسلامي، وهي التي تجعل الأمة المسلمة الأمة الوارثة لتراث العقيدة القائمة على دين الله في الأرض، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في الدرب على هدى ونور، والتي تجعل من النظام الإسلامي النظام العالمي الذي يملك الجميعُ الحياةَ في ظله، دون تعصب ولا اضطهاد، والتي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعًا مفتوحًا للناس جميعًا في مودة وسلام".
(أ. جمعة عثمان ضميرية: "الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى"، [ص:17]، ط1، 1410هـ/1990م، دار الفاروق - السعودية. وقارن: الشيخ علي الطنطاوي: تعريف عام بدين الإسلام، [ص:192]. ط14. 1412هـ/1992م. دار الوفاء - المنصورة).
وخلاصة القول:
إن جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام جاءوا بكلمة واحدة هي كلمة التوحيد، ودعوة واحدة هي دعوة التوحيد، فالتوحيد هو قاعدة كل ديانة جاء بها من عند الله رسول ومما يدل على أن جميع الأنبياء دينهم الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثلُ الأنبياء كمثل رجل بن بنيانًا فأحسنه وأجمله، فجعل الناس يُطِيفون به، يقولون: ما رأينا بنيانًا أحسن من هذا، إلا هذه اللَّبِنة. فكنتُ أنا تلك اللَّبِنة» (صحيح مسلم كتاب الفضائل باب: "ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين"، [ص:938-939]، رقم [2286]، من حديث أبي هريرة).وقد نوه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا المعنى.
(انظر له: مجموعة الفتاوى. جـ19. [ص:98]، تحقيق: أ. أنور الباز، عامر الجزار، ط3. 1426هـ/2005م. دار الوفاء - المنصورة).
(السُّدي: أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن [ت128هـ]: تفسيره، [ص:129]، جمع ودراسة: د. محمد عطا يوسف. ط1. 1414هـ/ 1993م. دار الوفاء – المنصورة. وأيضًا: الطبري "أبو جعفر محمد بن جرير [ت 310هـ]، جامع البيان: جـ2، [ص:432-433]، تحقيق: د. عبد الله عبد المحسن التركي. ط1. 1422هـ/2001م. دار هجر - القاهرة).
ومن ثَمّ كان الإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله من الناس غيره؛ لأنه هو الذي يتفق مع وحدانية الله، ومقتضيات هذه الوحدانية (القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، المجلد الثاني، جـ4، [ص:29]. وكذلك نظام الدين الحسن بن محمد القمي النيسابوري: غرائب القرآن. المجلد الثاني، جـ3، ص:127]. وأيضًا: أ. سيد قطب: في ظلال القرآن، جـ1، [ص:380]. وكذلك: جمعة عثمان ضميرية: الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى، [ص:27]. وانظر أيضًا: د. جمال عبد الهادي، د. وفاء محمد رفعت: الإسلام دين الله في الأرض وفي السماء، [ص:29]. ط1، 1406هـ. دار الوفاء - المنصورة).
حيث يُقرّر الباحثان أن الإسلام ليس -فحسب- دين الأنبياء، بل هو دين الكون كله. ومن الأدلة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]، وقوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]، وقوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]. وهذا المعنى يتفق مع ما قرره أبو الأعلى المودودي، حيث يُقرّر أن الإسلام هو: "الخضـوع والاستسلام والطاعة لله، وأنه دين الله تعالى، وعبارته:
"Islam is an Arabic word connoting submission, surrender, and obedience"
ويؤكد ما ذكره د. جمال عبد الهادي من أن كل شيء في الكون مسلم مطيع لله تعالى وذلك بالاستسلام لقوانينه تعالى. والعبارة يحسن أن أذكرها:
"Everything in the universe is 'Muslim' obeying God by submission to His Laws"
Abul A'la Maududi: Comprehensive background on Islam. pp. 2-3. revised andٍ[ ]edited by Dr. Muhammed Higab. 1418 / 1997. El-Falah for translation - Cairo.
وقد وقع النِّزاع في اختصاص اسم الإسلام بهذه -أي أمة الرسول صلى الله عليه وسلم-، أم يوصف به من سبقها من الأمم، ويطلق على من آمن بنبيه من أمة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام؟
وللعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران، حكاهما غير واحد من الأئمة:
القول الأول: إن الإسلام يُطلق على كل دين حق، ولا يختص بهذه الملة -أي ملة رسولنا صلى الله عليه وسلم-، بل يطلق اسم الإسلام على الجميع، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعًا، فقد ورد ذلك بألفاظ راجعة إلى هذا في كتاب الله تعالى واستدل لهذا الرأي بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . وَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36].
(أ. جمعة عثمان ضميرية: الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى، [ص:42]، وقارن: الشيخ عبد الوهاب طويلة، د. محمد أمين حلواني: عالمية الإسلام، [ص:5–7]، د. ت. دار القلم - دمشق. وأيضًا: د. محمود بن الشريف، الأديان في القرآن، [ص:31]. وانظر: أبو الأعلى المودودي: مبادئ الإسلام، [ص:3-4]. د. ت. المكتب الإسلامي - بيروت. وكذلك: أ. محمد الراوي: الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، [ص:75]، د. ت. دار المعرفة - بيروت).
القول الثاني: أن الإسلام خاص بهذه الملة الشريفة، ووصف المسلمين خاص بهذه الأمة المحمدية، ولم يوصف به أحد من الأمم السابقة سوى الأنبياء فقط، وقد خصت هذه الأمة من بين سائر الأمم بخصائص لم تكن لأحد سواها، إلا للأنبياء فقط.
ومن الأدلة التي ترجّح هذا القول:
- قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78].
فلو لم يكن قوله سبحانه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} خاصًا بهذه الأمة، كالذي ذكر قبله من الهداية ورفع الحرج، لم يكن لتخصيصه بالذكر ولاقترانه بما قبله معنى، ولم يذكر الله تعالى بالإسلام غير هذه الأمة، ولم نسمع بأمة ذكرت بالإسلام غيرها (شهاب الدين محمود البغدادي [ت 1270هـ]، روح المعاني: جـ17، [ص:210]. د.ت. دار إحياء التراث العربي - بيروت. وكذلك: د. عبد الله علي الزيد، مختصر تفسير البغوي "الحسين بن مسعود الفرّاء البغوي الشافعي [ت516هـ]"، [ص:1671]. ط2. 1422هـ. الرياض. وكذلك: د. وهبة الزحيلي، التفسير الوجيز، [ص:342]، ط2. 1416هـ/1996م. دار الفكر - دمشق).
- وقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة من الآية:3]، "وهذه الآية ظاهرة في الاختصاص، فإن تقديم {لَكُمُ} يستلزم الاختصاص، ويفيد أنه لم يرضه لغيرهم، فقد اختاره الله لنفسه ولهذه الأمة" (د. حكمت بشير ياسين، التفسير الصحيح، جـ2. [ص:154]، ط1. 1419هـ. دار المآثر - المدينة المنورة. كذلك: ابن عطية "أبو محمد عبد الحق [ت 546هـ]": المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، جـ2، [ص:155]، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، ط1. 1422هـ/2001م، دار الكتب العلمية - بيروت. وقارن: أ. جمعة عثمان ضميرية، الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى، [ص:44]).
ونضع هنا كلمة قيمة لابن تيمية رحمه الله يُحرّر فيها محل النزاع، قال: "وقد تنازع الناس فيمن تقدَّم من أمة موسى وعيسى، هل هم مسلمون أم لا؟ وهو نزاع لفظي، فإن الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن -ليس عليه إلا أمة محمد- صلى الله عليه وسلم والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيًا من الأنبياء فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء" [1].
وإذا كان الدين واحدًا؛ فإن الشرائع مختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حرامًا، ثم يحُلُّ في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وقد يكون خفيفًا في شريعة فيزداد بالشدة في الشريعة الأخرى، وقد تختلف طرق العبادة؛ نظرًا لاختلاف الناس وطرق تعليمهم باختلاف استعداداتهم، وظروف بيئتهم في مختلف العصور والأزمان؛ إذ أن الشريعة تأتي لتلبية حاجات الناس، وهذه قد تختلف من أمة لأخرى، ومن زمن لآخر.
كما تختلف الشرائع في شمولها لبعض الأحكام، مما لم يكن منصوصًا عليه في شريعة سابقة خاصة؛ لأن كل شريعة لاحقة إنما جاءت مُكملة أو موضحة لشريعة سابقة أو مصححة لما وقع فيها من انحراف.
"ومن أوضح ذلك ما جاءت به شريعتنا الإسلامية من تعاليم، مما لم يكن في الشرائع السابقة، مما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية، وفي روابطهم الشخصية ومعاملاتهم لبعضهم البعض. وهذا الاختلاف -بشتى صوره- إنما يقتضيه ما لله تعالى من الحكمة البالغة والحجة الدامغة في اختلاف صور العبادات والشرائع، باختلاف استعداد الأقوام ومقتضيات الزمان والمكان"(أحمد شاه الدهلوي [ت 1176هـ]، حجة الله البالغة، جـ1، [ص:86]، تحقيق: أ. جمعة عثمان ضميرية، ط1، 1999م، مكتبة الكوثر- الرياض. وأيضًا: د. محمد عبد الله دراز، حول الأديان، [ص:52]، د. ت. مجمع البحوث الإسلامية - القاهرة).
"وقد أشار الله تعالى إلى كثير من هذه المعاني، فقال عن عيسى عليه السلام: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران من الآية:50]. وقال عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِـمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]. ثم وضع قاعدة عامة، فقال سبحانه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148]، أي لكل أهل دين -سواء كان بحق أو بباطل- جهة وقبلة يستقبلها، أي أنهم لا يتبعون قبلتهم، وأنت لا تتبع قبلتهم" (انظر: الشيخ محمد الأمين الهرري الشافعي، تفسير حدائق الروح والريحان، جـ3، [ص:30]، مراجعة: د. هاشم حسين مهدي. ط1، 1421هـ/2001م، دار طوق النجاة - بيروت).
"وهذا شبيه بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} -أي سبيلاً وسنة-" (انظر: ابن حجر "شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد العسقلاني [ت 852هـ]"، فتح الباري، جـ1، [ص:46]، تصحيح الشيخ محب الدين الخطيب، د. ت. دار المعرفة - بيروت).{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة من الآية:48]. يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور [ت 1393هـ]: "قد أشارت الآية إلى حالَتَي القرآن، بالنسبة لما قبله من الكتب، فهو مُؤَيّد لبعض الشرائع، مقرّر له من كل حكم كانت مصلحته كلية، لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان، وهو بهذا الوصف مصدّق، أي محقق ومقرر. وهو -أيضًا- مُبْطِل لبعض ما في الشرائع السالفة، وناسخ لأحكام كثيرة، من كل ما كانت مصالحه جزئية مؤقتة، مُرَاعي فيها أحكام أقوام خاصة" (انظر: تفسير التحرير والتنوير، جـ6، [ص:221]، ط 1984م، الدار التونسية للنشر - تونس).
وقد ذكر أهل التفسير أن المَعْنِيّ بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً}؛ "هم أهل الملل المختلفة، فقد جعل الله لأهل كل ملة شريعة ومِنهاجًا. فالتوراة لها شريعة، والإنجيل له شريعة، والقرآن له شريعة يحلّ الله فيها ما يشاء، ويُحرّم ما يشاء، على سبيل الابتلاء، ليعلم من يُطيعه ممن يَعصيه. أما الدين فواحد، وهو التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل" (أ. جمعة عثمان ضميرية، الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى، [ص:37]).
يقول الدهلوي: "إنّ أصل الدين واحد اتّفق عليه الأنبياء عليهم السلام وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج" (انظر: حجة الله البالغة. جـ1. [ص:86]). ويقول: "فالأوضاع الخاصة التي مهّدت وبينت بها أنواع البِرّ هي الشرعة والمنهاج" (انظر: حجة الله البالغة، جـ1، [ص:87]، والملاحظ أنه باستقراء آيات القرآن الكريم نجد كلمة دين وردت في القرآن الكريم قرابة تسعين مرّة مفردة، ولم ترد -قط- جمعًا، مما يدل على أنّ الدين عند الله واحد، وهو الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران من الآية:19]. أما الشرائع فقد تختلف: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة من الآية:48]).
"ونفهم من ذلك أن دين الله تعالى يتضمن جانبين اثنين: العقيدة والشريعة، أي العقيدة ومنهج الحياة" (أ. جمعة عثمان ضميرية، الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى، [ص:41]).
وأَختِمُ قولي في الفرق بين الشريعة والدين بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: "فدين الْأَنْبِيَاء وَاحِد وَهُوَ دين الْإِسْلَام؛ لِأَن بعض الشَّرَائِع تتنوّع، فقد يشرع فِي وَقت أمرًا لحكمة، ثمَّ يشرع فِي وَقت آخر أمرًا آخر لحكمةٍ، كَمَا شَرَعَ فِي أول الْإِسْلَام الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس، ثمَّ نسخ ذَلِك وَأمر بِالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَة؛ فتنوّعت الشَّرِيعَة وَالدّين وَاحِد، وَكَانَ اسْتِقْبَال الشَّام من ذَلِك الْوَقْت من دين الْإِسْلَام... فَمن تمَسّك بالمنسوخ فَلَيْسَ على دين الْإِسْلَام وَلَا هُوَ من الْأَنْبِيَاء. وَمن ترك شرع الْأَنْبِيَاء وابتدع شرعًا فشرعُه بَاطِل لَا يجوز اتِّبَاعه، كَمَا قَالَ: {أم لَهُم شُرَكَاء شرعوا لَهُم من الدَّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله} [الشورى من الآية:21].
وَلِهَذَا كفرت الْيَهُود وَالنَّصَارَى؛ لأَنهم تمسكوا بشرع مَنْسُوخ. وَالله أوجب على جَمِيع الْخلق أَن يُؤمنُوا بِجَمِيعِ كتبه وَرُسُله وَمُحَمّد خَاتم الرُّسُل فعلى جَمِيع الْخلق اتِّبَاعه، وَاتِّبَاع مَا شَرعه من الدَّين هُوَ مَا أَتَى بِهِ من الْكتاب وَالسّنة" (انظر: جامع الرسائل، جـ1، [ص:283-284]، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، ط1، 1422هـ/2001م، دار العطاء - الرياض).
الهامش:
[1]
- (شيخ الإسلام ابن تيمية: (التدمرية [ص:173-174]).
- تحقيق: د. محمد عودة السعوي، ط3، 1416هـ. مكتبة العبيكان، الرياض، وله: (مجموعة الفتاوى، جـ7. [ص:386]). وله: كتاب (النبوات، جـ1، [ص:416]).
- تحقيق: د. عبد العزيز الطويان، ط1. 1420هـ/2000م. مكتبة أضواء السلف - الرياض. وله: (كتاب الإيمان، [ص:226]).
- د. ت. دار ابن خلدون - الإسكندرية. وقارن: الأزهري "أبو منصور محمد بن أحمد [ت 370هـ]: (تهذيب اللغة، جـ12، [ص:451-452]).
- تحقيق: أ. أحمد عبد العليم البردوني، ومراجعة: أ. علي محمد البجاوي، د. ت. الدار المصرية للتأليف والترجمة - القاهرة. وكذلك: الجوهري "إسماعيل بن حمَّاد [ت 393هـ]"، الصحاح، مادة "سلم"، جـ5، 1950م-1952م.
- تحقيق أحمد عبد الغفور عطَّار، ط4، 1990م. دار العلم للملايين- بيروت. وأيضًا: ابن فارس "أبوالحسين أحمد بن زكريا [ت 395هـ]": (معجم مقـاييس اللغة، مادة "سلم"، جـ3، [ص:90]).
- تحقيق: أ. عبد السلام هارون، ط2، 1399هـ/1979م، دار الفكر- القاهرة. وكذلك: الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، كتاب (السين [ص:240-241])،.
- وانظر: ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثالث، جـ23، [ص:2080]، وأيضًا: ابن قيم الجوزية، التفسير القيم، [ص:201-202].
- تحقيق: الشيخ محمد حامد الفقي. د. ت. دار الكتب العلمية - بيروت. وقارن: ابن أبي العز الحنفي [ت 792هـ].
- (شرح العقيدة الطحاوية، جـ1، [ص:19-20]).
- تحقيق: الألباني، ط2، 1421هـ/2000م/ دار البصيرة - الإسكندرية. وأيضًا: ابن رجب الحنبلي "زين الدين عبد الرحمن [795هـ]"، رسائله، جـ2، [ص:555-556].
- دراسة وتحقيق: أبي مصعب طلعت فؤاد الحلواني، ط2، 1424هـ/2003م، دار الفاروق للطباعة والنشر - القاهرة.
- وكذلك: أ. سيد قطب، في ظلال القرآن، جـ4، [ص:1882-1883].
- وأيضًا: أ. أحمد عبد الغفور عطار: (الديانات والعقائد في مختلف العصور، جـ4، [ص:116 -128])، - وكذلك: د. بكر عبد الله أبوزيد: (الإبطال لنظرية الخلط بين الأديان، [ص:34_35]، ط1، 1427هـ/2006م).
- دار ابن الجوزي - القاهرة. وانظر: د. محمد سيد طنطاوي: (هذا هو الإسلام، جـ1، [ص:19]).
ياسر منير
( باحث بالدكتوراه )"مقارنة أديان " - جامعة القاهرة
- التصنيف: