براثن العولمة الثقافية ومواجهتها
قوم العولمة Globalization على استعباد الأمم، واكتساح ثقافة الشعوب؛ ليصبح العالم كله خاضعًا للإرادة الغربية والأمريكية، وينقسم العالم في ظل العولمة إلى فسطاطتين: (دول منتجة اقتصاديًا وثقافيًا وفكريًا وإعلاميًّا، ودول أخرى مستهلكة لهذا الإنتاج)، وغير قادرة على المحافظة على هُويتها، وخصوصيتها.
تقوم العولمة Globalization على استعباد الأمم، واكتساح ثقافة الشعوب؛ ليصبح العالم كله خاضعًا للإرادة الغربية والأمريكية، وينقسم العالم في ظل العولمة إلى فسطاطتين: (دول منتجة اقتصاديًا وثقافيًا وفكريًا وإعلاميًّا، ودول أخرى مستهلكة لهذا الإنتاج)، وغير قادرة على المحافظة على هُويتها، وخصوصيتها.
وقد شهدت الشعوب الإسلامية تحولات حضارية وفكرية واجتماعية مذهلة في ظل هذه العولمة الجارفة، ولا يمكن أن يبتعد المسلمون عن تأثيرها؛ لذلك فلا بد من فَهْم ظاهرة العولمة فَهْمًا جيدًا حتى يمكن مواجهتها ومحاولة السيطرة عليها، ومبتدأ ظهور هذا المصطلح كان في أوائل التسعينيات، وقد استغلت أمريكا سقوط المعسكر الشرقي، وانتصارها العسكري في حرب الخليج الثانية عام 1991م لتحقيق سيادة عالمية، ذات قطب واحد. إنّ العولمة مرحلة من مراحل التطور الرأسمالي الغربي، وهي تُعْني بالغزو الثقافي، وتدمير الهُوية الوطنية، واحتقار الثقافات الأخرى، ومناصبة الإسلام العداء، ورَمْيه -زورًا وبهتانًا- بالإرهاب والرجعية، ومناوشة حقوق الإنسان (1).
إذًا العولمة تعني: (الهيمنة والعنصرية، وانصهار ثقافة الآخرين في بوتقة الثقافة الغربية بصفة عامة، وثقافة أمريكا بصفة خاصة) (2).
فالعولمة ليست نِتَاجًا لمعطيات العصر الحديث كما يدعي الغرب، بل هي سياسة غربية استعمارية جديدة للعالم الإسلامي، هي: (التطبيق العملي للماسونية التي تنفي كل الأديان إلا اليهودية، وتنفي الأخلاق كذلك) (3).
إن الأدوات التي تستعملها العولمة كثيرة ومتعددة، منها: وسائل الاتصال والمواصلات، وسائل الإعلام، الاستخبارات، القطاع الاجتماعي بما يشتمل عليه من جوانب الحياة المختلفة من مأكل ومشرب، وأزياء، وعطور، ومستحضرات تجميل... إلخ، وعمومًا فإنّ للعولمة وجوهًا متعددة، فهي عولمة سياسية، واقتصادية، وثقافية، وإعلامية، وعلمية، وتكنولوجية، وهي متشابكة المصالح؛ فلا توجد عولمة ثقافية من غير عولمة سياسية، واقتصادية تهيئ لها السبيل. العولمة نمط سلوك، ومنهج حياة يراد إكراه العالم عليه، والاندماج فيه، والعمل به، والعيش في إطاره (4).
وسيرتكز حديثنا على الجانب الثقافي من العولمة؛ لخطورته في تفتيت هُويّة الأمّة وحنينها إلى جلّاديها، ولا شكّ أن ثقافة كل أمة هي صنو حضارتها، ومرتكز نهضتها، والثقافة كما يُعرفها د. عبد الله عبد الدائم هي: "جملة السمات والملامح الخاصة التي تُميّز مجتمعًا معينًا في الجانب الروحي أو المادي، أو الفكري أو العاطفي" (5)، هذا وثمة وشائج قُرْبى تربط بين الحضارة والثقافة؛ فالحضارة مجموعة عقائد ومناهج فكرية، وفلسفات ونظم سياسية واقتصادية، وعلوم طبيعية وعمرانية واجتماعية، وتجارب خاصة مرت بها الشعوب، وهي بهذا المعنى أوسع من معنى الثقافة؛ لأن الثقافة لا تنشأ إلا بعد الاستقرار الذي يكون في سكنى المدن والأمصار، وفي هذا المعنى يقول عبد الرحمن بن خلدون: "إن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران، وتعظم الحضارات" (6).
وقد شهد العالم فيما مضى تبادل ثقافات عديدة أدى في النهاية إلى تطور العمران، وتراكم الحضارات، وفتح الباب أمام الثقافات الأخرى للأخذ والرد. أما ما نراه اليوم فهو عين العولمة الثقافية التي تسعى لجعل كل البشر يسيرون على صورة واحدة للنموذج الغربي الأمريكي، وظهور هذه العولمة الثقافية هو نتيجة فترات طويلة من الاستعمار الذي دأب على ربط الدول به لُغَوِيًّا واقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، وفي زمن الاستعمار سعى الغرب إلى تغريب الدول التي استعمرها، ومن أنواع التغريب التي مورست على تلك البلاد المستعمرة: (الاستشراق، والتنصير، ووسائل الإعلام، والبَعَثات الدراسية).
ويؤكد الكاتب البريطاني فرد هاليداي في كتابه (الإسلام وأسطورة المواجهة): "أن الاتجاه المعادي للإسلام والمسلمين ظهر جَلِيًّا بعد انتهاء الحرب الباردة مع الشيوعية، وصعود نَجْم التيار اليميني المتطرف في أوربا وأمريكا" (7). إذًا هدف العولمة الثقافي هو بَتّ الصلة بين الأمة وجذورها المجيدة، وتفريغ المجتمعات من رصيدها، وتراثها الفكري حتى تصبح هذه المجتمعات بلا جذور فيسهل اقتلاعها، بل إنّ المصطلحات والمبادئ الأساسية (الحرية والعدالة، والمساواة والسلام، وحقوق الإنسان) المتفق عليها عند الناس حورتها العولمة لما يخدم المصالح الغربية.
ومما يؤكد السعي الحثيث لاحتواء الأمم الضعيفة تحت مِظَلّة العولمة ما يؤكده فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ وخاتم البشر): "أن ثقافة أمريكا هي النموذج الأعلى الذي يجب أن يحتذى"، بل يراها النموذج الخاتم ونهاية الرقي الإنساني، ونهاية الثقافة والحضارة. وفي هذا المعنى كتب كتابه (8). وقد فَنّد صمويل هانتجتون (Huntigton) كلام فوكوياما السابق في كتابه (صدام الحضارات) مؤكدًا أن: "المستقبل سوف يشهد زوال الحضارة الغربية، وقيام تحالف بين حضارة الإسلام وحضارة الصين، وأن المسلمين يقدرون على مواجهة الغرب إذا امتلكوا الحداثة والثقافة" (9).
ويؤكد سمير الطرابلسي على خطورة العولمة التي تشكلها الولايات المتحدة بجميع جوانبها المهمة والتي تمثل الرؤية الإستراتيجية لقوى الرأسمالية العالمية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى إعادة شرق أوسط جديد (10). فالعولمة هجمة صهيونية شرسة لا تتقيد بالمبادئ، وفي أحسن أحوالها أمركة وتغريب ما لم نقم بدور فعال لتخفيف آثارها والتأثير فيها، وهي حتى لكثير من الغربيين ليست خير للعالم حتى في الجانب الاقتصادي الذي يبشر به البعض، حيث يؤكد هانس بيتر مارتين في كتابه الشهير (فخ العولمة): "أن العولمة فخّ كبير ملىء بالأكاذيب، وهي تؤدي إلى زيادة نسبة الفقر في العالم" (11). ومما يزيد من خطورة العولمة ضعف العالم الإسلامي وهزيمته أمام الغرب، وهذا ما يزيد اختراق العولمة الثقافية للهُوية، كما قال ابن خلدون: "المغلوب مُولعٌ بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه وسائر أحواله وعوائده" (12).
ورغم ما تتمتع به الثقافة الإسلامية من مزايا إلا أنّ الغرب ما زال يسعى إلى تشويه صورة الإسلام وثقافته، وقِيَمه الحضارية، لكن لا نعدم أصواتًا مُنصفة كصوت ولي العهد البريطاني تشارلز الذي عدّ الإسلام جزءًا من التراث المؤسس لأوربا المعاصرة (13).
ولمقاومة العولمة الثقافية يمكن مراعاة ما يلي:
1- تقديم صورة الإسلام الصحيحة إلى الغرب، ومحاصرة المواد الثقافية والإعلامية التي تسيء إلى الإسلام، وتقديم صورة مغايرة للإسلام تحل محل الصورة المشوهة عنه.
2- يجب الاستفادة من تقنيات الحضارة الحديثة في إعداد مشروع ثقافي إسلامي تشارك فيه كل الأقطار العربية والإسلامية.
3- القيام بإحياء كل مقومات التراث الإسلام الحضاري في مواجهة سموم العولمة.
4- تسخير مظاهر العولمة كالإنترنت والفضائيات لخدمة البشرية عبر نشر الحقائق الإسلامية فالأمة العربية والإسلامية تملك أعظم مشروع حضاري.
5- الدعوة إلى الفهم المتبادل للقيم الحضارية الشرقية والغربية من سمات الإسلام الرئيسة، فقد دعا إلى الحوار مع ديانات أخرى منذ نزول القرآن، ونادى بالحوار بين الأديان وأزاح الغبار عما طرأ على بعض الديانات من خرافات وتحريفات، ودعا إلى الأصل المشترك بينها جميعًا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
ــــــــــــــــــــــــ
1- د. زكريا بشير إمام: في مواجهة العولمة. ص 6. ط1، 2000م. مركز قاسم للمعلومات - الخرطوم.
2- د. عبد الله التركي: الحوار المبتغى في ظل العولمة ص12. العدد 425 ط2000 م. مجلة الرابطة- مكة المكرمة.
3- مصطفى أحمد الخليفة: العولمة محاولة غربية لاغتيال الحضارات والثقافات الإنسانية. ص10. العدد 435. ط 2001م. مجلة الرابطة - مكة المكرمة.
4- د. عبد العزيز التويجري: تأملات في قضايا العولمة. ص13. ط 2002م. دار الشروق – القاهرة.
5- د. عزمي طه السيد وآخرون: الثقافة الإسلامية " مفهومها، مصادرها، خصائصها ". ص 28. ط2. 1997م. دار المناهج – الأردن.
6- انظر: المقدمة. ص 777. ط1967م. دار الكتاب اللبناني – بيروت.
7- د. عبد القادر طاش: كيفية تحسين صورة الإسلام في الغرب. ص 105. 1995م. مكتبة العبيكان – السعودية.
8- د. زكريا بشير إمام: في مواجهة العولمة. ص 159. ط1. 2000م. مكتبة مجدلاوي – عمان.
9- نفس المرجع السابق.
10- انظر: نحن والعولمة. ص51. ط1420هـ / 1999م. سلسلة كتاب المعرفة.
11- انظر: فخّ العولمة. ص253.ترجمة د. عدنان عباس على. ط 1419هـ/ 1998م. سلسلة عالم المعرفة – الكويت.
12- انظر: المقدمة. ص 147.
13- د. زكريا بشير إمام: في مواجهة العولمة. ص 175.
ياسر منير
( باحث بالدكتوراه )"مقارنة أديان " - جامعة القاهرة
- التصنيف: