قصة الحياة والعبودية
والعباد جميعًا ضعفاء لاحيلة لهم، ولا قدرة تمنعهم من أمر الله، ولا طاقة لديهم إلا بمعونته سبحانه، فلو منع عنهم رعايته ارتكسوا وانتكسوا فلا شيء بيد أحد من الخلق إلا بأمر الله، والخلائق لا يملكون لأنفسهم حولا ولا قوة، فلا حيلة لهم إلا اللجوء إليه سبحانه هو ربهم فيكسوهم ويطعمهم، ويسقيهم ويحفظهم ويؤويهم، حتى في شأن الهداية فإننا فقراء إليه سبحانه أن يشرح صدورنا وييسر إلى الخير خطواتنا، وأن يوفقنا للهدى الصالح والنور المبين.
يظل المرء محتارًا باحثًا عن وصف يجمع حاله الظاهر والباطن، وحقيقته وآماله، ونواقصه وأحلامه، وسعيه وقدرته على الإنجاز والفعل، وحقيقة قوته التي يتصرف من خلالها، وسبيل تقوية علاقته بربه، وكيف الطريق للعودة بعد الانحراف، والهداية بعد التيه، ومن أين يبدأ، لكن تلك الحيرة سرعان ما تتبدد عندما يهديه ربه لتفهم وتشرب كلمات الوحي المشرف (قرآنا وسنة وأحاديث قدسية) فتبين مصابيح الهدى وتنبثق صيحات الأمل من أنفاق الظلام..
عن أبي ذرٍّ الغفاري رضيَ اللهُ عنه، عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يَرويه عن ربِّه تبارك وتَعالى، أنه قال: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» (أخرجه مسلم).
إنها كلمات كافية أن تبني منهج حياة، وصراطا للاستقامة، تبين الحجم الحقيقي للإنسان، وتصف داءه ودواءه، وتلخص دورة الحياة والموت في حروف قليلة، فالبناء الحقيقي للنفوس السليمة يقوم ابتداء على العدل، ويحرم الظلم، ويقيم القسط والميزان، فتبيت النفس سوية، وترى العالم بسواء، فلا جور ترجوه ولا ظلم يمكنها العيش في كنفه، بل هي ثائرة على الظلم بجميع أشكاله، رافعة لواء العدل بين الناس وتطبيقيًا على الأرض في شتى المجالات، ولئن كان الله تعالى قد حرّم الظلم على نفسه فقد حرّمه على عباده، وحذّرهم أن يقعوا فيه، وأعلمهم أنه خسران في الدنيا وظلمات يوم القيامة..
وما ظهر الظلم بين قوم إلا كان سببا في هلاكهم، وتعجيل العقوبة عليهم، كما قال سبحانه في كتابه العزيز: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ومن ثمّ كانت دعوة المظلوم عظيمة الشأن عند الله فإن أبواب السماء تفتح لها، ويرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة، بل إنه سبحانه وتعالى يقول لها: «وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» (كما صح بذلك الحديث)، وأظلم الظلم أن يجعل العبد لله ندا وقد خلقه، فالله سبحانه هو المستحق للعبادة بشتى أصنافها وأنواعها استجابة لأمره، وحبا له سبحانه وذلا بين يديه عز وجل.
والعباد جميعًا ضعفاء لاحيلة لهم، ولا قدرة تمنعهم من أمر الله، ولا طاقة لديهم إلا بمعونته سبحانه، فلو منع عنهم رعايته ارتكسوا وانتكسوا فلا شيء بيد أحد من الخلق إلا بأمر الله، والخلائق لا يملكون لأنفسهم حولا ولا قوة، فلا حيلة لهم إلا اللجوء إليه سبحانه هو ربهم فيكسوهم ويطعمهم، ويسقيهم ويحفظهم ويؤويهم، حتى في شأن الهداية فإننا فقراء إليه سبحانه أن يشرح صدورنا وييسر إلى الخير خطواتنا، وأن يوفقنا للهدى الصالح والنور المبين.
وإمعانا في بيان الضعف البشري يذكر الحديث البشر جميعا: أنهم مذنبون مخطئون، يعصون ربهم المنعم عليهم بالليل والنهار، ويجاهرونه بما يكره، ويصرون على ما حرم! لكنه عز وجل يفتح لهم الباب للندم والتوبة والعودة إلى طاعته سبحانه، والله تعالى غني حميد، لا تنفعه طاعة عباده، ولا تضره معصيتهم، بل لو آمن من في الأرض جميعًا وبلغوا أعلى مراتب الإيمان والتقوى، لم يزد ذلك في ملك الله شيئًا، ولو كفروا جميعًا ما نقص من ملكه شيئًا، لأن الله سبحانه وتعالى مستغن بذاته عن خلقه، وإنما يعود أثر الطاعة أو المعصية على العبد نفسه، قال الله عزوجل: {قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها} [الأنعام:104]، وهو عز وجل الجواد الكريم، الرحمن الرحيم، خزائنه ملأى، وعطاؤه لا ينفذ، ولو أن أهل السموات والأرضين سألوه فأعطاهم جميعًا ما يسألون ما نقص ذلك من خزائنه شيئا، وهو سبحانه دومًا يرزقهم برغم معصيتهم إياه ونسيانهم عهده، فياله من رب رحيم كريم، يعفو ويغفر، ويعطي وينعم، ويهدي وييسر، سبحانه وتعالى.
خالد رُوشه
- التصنيف:
- المصدر: