الذوق في تطبيق السنة
ولا ريب أن تسوية الصفوف من تمام الصلاة، ولكن لا يحسن أن تتم الصلاة بتكدير النفوس، وتنافر القلوب. وإنما تكون بلطف، وأدب، وذوق، لا أن تكون بإلغاء مَقْصِدٍ من أعظم مقاصد أداء الصلاة جماعة، ألا وهو تقارب القلوب، وزيادة المودة. وكذلك الحال بالنسبة لبعض الأئمة الذين يرغبون في تسوية صفوف جماعة مساجدهم، فهم مشكورون مأجورون في ذلك...
قرأت كلمة في الشرح الممتع (3/90) لشيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين وهي قوله: "لا ينبغي للإنسان أن يفعل سُنَّة يؤذي بها غيره".
وهذه الكلمة الجميلة الرائعة من ذلك العالم الرباني تحمل في طياتها معانيَ تربويةً في تطبيق السنة النبوية. فالحرص على تطبيق السنة، والاقتداء بسيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم خصلةٌ عظيمةٌ، ومنقبةٌ جليلةٌ، تُنال بها الدرجات العلى، ويُتَقَرَّبُ بها إلى الله زلفى. وكلما زاد الحرص على تطبيق السنة كان ذلك أقرب إلى الكمال.
ولكن ثَمَّت مسألةٌ يحسن التنبه لها في ذلك الشأن، ألا وهي مسألة الذوق في تطبيق السنة، وذلك بأن تكون على بال الحريص على تطبيقها؛ حتى لا يَجْعَلَ من السنة ذريعةً لأذية الآخرين، أو تنفيرهم من الدين.
فمن الأمثلة على ذلك الحرصُ على السواك؛ ففي ذلك اقتداء، وحصول ثواب. ولكن لا ينبغي أن يترتب على ذلك أذية الآخرين بإصدار أصوات مزعجة، أو حركات مؤذية.
وكذلك الحال في عبادات الحج؛ كرمي الجمار، وتقبيل الحجر الأسود، وما جرى مجرى ذلك من العبادات التي يكثر عندها الزحام؛ فيحتاج المؤمن إلى استشعار روح العبادة، واستحضار روح الأُخُوَّة الإسلامية؛ فيحرص على تطبيق السنة، ويحرص -كذلك- على رعاية حقوق إخوانه، فيحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه؛ فإذا ترتب على فعل السنة المستحبة أذيةٌ فقد يكون تركها أولى.
وقل مثل ذلك في شأن تسوية الصفوف للصلاة، فتجد من الناس من يبالغ في ذلك، ويؤذي من بجانبه؛ بحجة الرغبة في تحاذي المناكب والأكعب، وربما عبس في وجه أخيه المسلم في الصلاة، وربما نهره إذا رأى منه توانياً في الاستجابة.
وكذلك الحال بالنسبة في سد الفُرج؛ فهو محمود؛ ولكن يتقدم إلى الصف الذي أمامه، وليس فيه فرجة، فيزاحم من أمامه، ويضيق عليهم حتى يوجدوا له فرجة.
ولا ريب أن تسوية الصفوف من تمام الصلاة، ولكن لا يحسن أن تتم الصلاة بتكدير النفوس، وتنافر القلوب. وإنما تكون بلطف، وأدب، وذوق، لا أن تكون بإلغاء مَقْصِدٍ من أعظم مقاصد أداء الصلاة جماعة، ألا وهو تقارب القلوب، وزيادة المودة. وكذلك الحال بالنسبة لبعض الأئمة الذين يرغبون في تسوية صفوف جماعة مساجدهم، فهم مشكورون مأجورون في ذلك.
ولكن يحسن بهم أن يتدرجوا في ذلك، وأن يراعوا حال الجماعة، وخصوصاً كبار السن، والغرباء، فيجمل بالأئمة أن يحرصوا على تقوية الروابط معهم، وعلى ترغيبهم في السنة، وعلى ملاقاتهم بوجه طلق، ولسان رطب، وراحة كريمة، وأمرٍ بلطف، ونهيٍ بلا عنف؛ فذلك مما يرغب الناس بالسنة، ويزيدهم إقبالاً عليها.
وقل مثل ذلك في السلام؛ فقد يبذل بعض الناس التحية، فيُلقي السلام على إخوانه المسلمين، ولكن قد يكون ذلك مصحوباً بشيء من العبوس، وتقطيب الجبين، وخشونة العبارة؛ فيتمنى المُسَلَّمُ عليه أنَّ صاحبه لم يبادرْهُ بالتحية. ولو كان السلام مصحوباً بابتسامةٍ مشرقة، وراحةٍ كريمة، وعبارة ليِّنة لكان ذلك أجدى نفعاً، وأعظمَ ثواباً.
وقل مثل ذلك في رد السلام، فقد يُسَلِّم إنسان على أخيه، فيردُّ المُسَلَّم عليه السلام، ويظن أنه قد قضى حق التحية بمجرد الرد دون النظر إلى طريقته وأسلوبه؛ فقد يكون الرد مصحوباً بشيء من الجفاء، والكزازة؛ فيتمنى المسلِّم أنه لم يبدأ بالسلام.
واللائق أن تُقابَلَ التحيةُ بأحسن منها أو مثلها، وذلك بمقابلة المسلِّم بمزيد بشاشةٍ وإقبال، أو أن يُقَابَلَ المُسَلِّمُ -في الأقل- بمثل ما جاد به.
وكذلك الحال بالنسبة لبذل النصيحة، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإكرام الضيف، ومعاملة الوالدين، وغير ذلك مما لا يمكن حصرُه مما يُحْتاج في القيام به إلى شيء من الذوق واللطافة.
محمد بن إبراهيم الحمد
دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم
- التصنيف:
- المصدر: