أمة الصحراء
طلب إلي الأستاذ / زياد بن عبدالله بن إدريس أن أكتب لمجلته
عن التصحر الديني ... ولكني لم أشأ ذلك، وقلت أراجع محفوظاتي
أحسن!
كان الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي يقول في
نشيدته:
إنما
الإسلام في الصحراء امتهد *** ليــجــــــــيء كل
مسـلم أســــــد
ليس كالمسلم في الخلق أحـــــــــد *** ليس خلق اليوم، بل
خلق الأبد
معنى جميل بادي الرأي، لكن يحتاج إلى إعادة نظر " ثم ارجع البصر
كرتين"... وإذا كان خلق الرحمن لا تفاوت فيه، فخلق الإنسان ليس
كذلك.
ولأنت تغرس ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى.. كيف نشبه المسلم
بالحيوان المفترس؟ ولو كان الحديث عن فئة فحسب، أو عن حالة خاصة
كالحرب، لكان للأخر مساغ، لكن (كل مسلم!) و (خلق الأبد) ... الأخر
إذًا غير مسلّم.. فالأحوال شتى، والطبائع متنوعة، وثمت للكرم حال،
وللشجاعة حال، وللتسامح أحوال.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقد كان في وصف محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة : ليس بفظ ولا
غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزى السيئة بالسيئة، ولكن يعفو
ويصفح.
والإسلام امتهد بمكة ثم بالمدينة، ولم تكن صحراء، كانت مدنًا عامرة،
ومياه جارية، والناس يعيشونها من أنحاء الجزيرة، وأهلها آلفون مألوفون
" لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف" إلى الشام، وإلى
اليمن.
كانت مدينة " معولمة "، ثم جاء الإسلام، فصارت مركز الأرض تغشاها
الوفود من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم...
وانساح الإسلام في أرجاء الأرض، دين المدنية والحضارة، وتعامل مع
الأمم المختلفة بالشام ومصر والمغرب والأندلس وأوربا، واستوعب علوم
الأمم السابقة، وأنضجها وطورها، حتى صارت كتب المسلمين تدرس في جامعات
الدنيا، ومهدت لظهور الحضارة الحديثة العظيمة بتقنياتها ومادياتها،
الضامرة بروحها وقيمها...
ولعل آخر تطورات التقنية بعد التقنية الرقمية ما يسمى بالتقنية
الحيوية المتعلقة باكتشاف خارطة الجينات، والاكتشاف في معرفة الأمراض
المستقبلية وحلولها... وهو العلم الذي نبغ فيه المسلمون وأبدعوا...
فالعقل الإسلامي عقل حر قادر على الإبداع والتفوق... وخموله في هذه
الفترة جزء من السنة الإلهية، وعليه أن يتهيأ لاستعادة دوره المنشود،
بعيدًا عن التقليد، تقليد الماضي، أو تقليد الآخر...
والشاعر الهندي المسلم محمد إقبال فيلسوف عظيم، ومفكر ناقد، كان حي
القلب، فصيح اللسان حين قال:
أمة الصحـراء يا شعب الخلـود *** من سواكـم حل أغلال
الورى
أي داع قبلكم في ذا الوجـود *** صاح لا كسـرى هنا لا
قيـصرا
من سواكم في حديث أو قديم *** اطلع القرآن حـجًا
للـرشـاد
هاتفًا في مسمع الكـون العظيم *** ليس غـير الله ربـا
للعــباد
لا تقل أين ابتـكار المسلـمين *** واشهد الحمراء واسأل
حسن تاج
دولة ســار ملـوك العالمين *** نحوها طوعـا يـؤدون
الخـراج
دولــة تقــرأ في آياتـها *** مظـهر العـزة والملك
الحصين
وكنـوز الحـق في طــياتها *** دونها صـارت قلـوب
العارفين
وهنا
يكون إقبال قد تفوق على الرافعي، وقصيدة الملحمية ( شكوى وجواب شكوى)
تشهد بهذا...
فهو لم يختصر تاريخ المسلمين بالقوة العسكرية، بل توخي شمولية الرؤية
للإبداع الحضاري المتنوع في مجال العمارة والبناء، والقيم والمبادئ،
كالحرية والعدل وحفظ الحقوق، فضلاً عن القوة الحصينة...
لم تكن الصحراوية عند إقبال عيبًا أو مثلبًا، بل وظفها إيجابيًا ليكشف
عن عبقرية الخلاص من وطأة البينة ومحدوديتها، والانفتاح على
(العالمين)، والخروج من ظلمة الجهالة والتخلف عبر بوابة (أقرأ)، إلى
قمة تنقطع دونها (قلوب العارفين).
والحمد لله رب العالمين.
سلمان بن فهد العودة
الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-
- التصنيف: