بل إلحادٌ وكفرٌ: رداً على مقال الجفري
اعتبارُ الملحدين "دماء جديدة" تسري في عروق الأمة، والإلحادَ "حالة من حالات البحث عن الحقيقة" فكرةٌ ضالةٌ لها من الأخطار ما يفوق الفكرة الإلحادية ذاتها، ولا عجب فالملحد يدرك كفره وخروجه عن المألوف ومعارضته لفكرة الإله، فضلًا عن فكرة الدين، والمحيطون به يدركون ذات الأمر، ويعتبرونه -أي الملحد- حالة من حالات الضلال والكفر، التي تستوجب العقاب والردع، بل الطرد من محيطهم الاجتماعي.
-"تجمد الدماء في عروق المجتمع": وهنا لا أستطيع منع نفسي من الربط بين وصف الجفري للملحدين -المفكرين من وجهة نظره- بالدماء الجديدة، وبين وصفه لمجتمعنا المسلم بأن الدماء قد تجمدت في عروقه، فهل يطمع الجفري بهذه الإيحاءات اللغوية في تهيئة المجتمع (صاحب الدماء المتجمدة) لاستقبال هذه (الدماء الجديدة الباحثة عن الحقيقة) على عوجها وإلحادها وخروجاتها عن كل عرف ودين؟ وكيف تَأَتَّى له أن يصف المجتمع المسلم بالدماء المتجمدة، ويصف المنكرون لوجود الله بالدماء الجديدة!؟
- أما السبب الثاني فراجع عند الجفري إلى فوضى التنازع على الرغبات.
- والثالث "الركون غير المتبصر إلى الموروث": وهذا الموروث -ما يُفهم من كلام الجفري- يشمل شتى النواحي الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
- وهناك أسباب أخرى، عدَّدها الجفري، كلها عائدة إلى المجتمع أيضا، وهي: المَلَل القاتل من المعتاد، واللامبالاة المقلقة تجاه كل ما هو مهم، والتخبط في ترتيب الأولويات، والتهافت البغيض على التسلُّط بأنواعه: الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، والغضب المتفجر من الواقع.
فهذه هي الأسباب التي أدتْ إلى ظهور الإلحاد في مجتمعاتنا الإسلامية، بحسب مقال الجفري، وبهذه السطحية في تناول هذه الظاهرة الخطيرة سمح الجفري لنفسه أن يتفلسف في هذا المقال، ويعنِّف المتصدرين لظاهرة الإلحاد بكلماته، طالباً منهم التريث والتمهل والنظر إلى الجانب المشرق في هذه الظاهرة!! وأيّ إشراق فيها إلا أن يكون إشراقاً لرايات الكفر ومعاقل الانحلال والفساد؟
والأسباب التي ذكرها الجفري لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تصنع ملحداً، فغاية أمرها أن تصنع شخصاً مرتبكاً خائفاً أو مريضاً نفسياً، لا أن تصنع ملحداً (يفكر ويسأل ويناقش ولا يعترف برب) كما يزعم الجفري؛ فهي أسباب تؤدي إلى أي شيء غير الإلحاد. فالجفري نسيَ أو تناسى في مقاله أنَّ الإلحاد ما ظهر وما كان له أتباع إلا بسبب ما جاءنا من الغرب من مذاهب مادية وفلسفات إلحادية، وما بثه دعاة التغريب من المستشرقين والعلمانيين والليبراليين من أفكار متطرفة حول مفهوم الدين وطبيعة الإله ومسائل الحرية والإرادة وحقيقة الدنيا ومآل الإنسان وموقف الشرع من كل هذا.
فالمجتمع العربي بصفة عامة والإسلامي بصفة خاصة كان ولا يزال من أبعد المجتمعات عن الإلحاد، وتلك ظاهرة تاريخية قديمة معروفة للقاصي والداني، وكتب التاريخ شاهدة على ذلك، ففي حين تَرْوي لنا هذه الكتب عن الجماعات الملحدة في الغرب، يندُر أن نرى في المجتمع العربي والإسلامي من ينطبق عليه صفة الإلحاد (المنكر للإله)، فضلاً عن وجود جماعات ومذاهب مؤصلة لهذا المذهب كما نرى في الغرب.
وتناسى الجفري أيضًا؛ أن من أسباب بُعد الشباب المسلم في هذه الآونة عن طريق الهداية وجنوحهم نحو الإلحاد وإنكار الشرع؛ ما ابتلينا به من مذاهب ضالة، وأفكار منحرفة، كالتي نجدها عند غلاة الصوفية، وما يروج له دعاة الشيعة، وغيرهم من أتباع المذاهب المتطرفة، كالبابية، والبهائية، والقاديانية.
ومن النقاط الخطيرة التي عمل الجفري على تمريرها في مقاله، بقصد أو بغير قصد، إضافة إلى التسطيح العجيب لهذه القضية، حديثه بمثالية عن معتنقي هذا الفكر دون تحميلهم أية مسؤولية عما وصلوا إليه من إلحاد وكفر، فيصرح الجفري بأن: "كثيراً ممن يعتبرون أنفسهم ملحدين أو لا دينيين أو حتى متشككين ومستشكلين، هم في الحقيقة باحثون عن أجوبة لأسئلة تجيش بها صدورهم، ومن حقهم أن يأخذوا الفرصة والوقت الكافيين في البحث الجادّ عنه".
بل تعدى وتجاوز ليقارن عمل الملحدين وإلحادهم، بالحاكم المجتهد، مستشهدًا بما رواه البخاري في صحيحه مرفوعًا: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر» (صحيح البخاري: [6/2676/6919]). فلازم كلام الجفري، بل صريح كلامه، أن الملحدَ مأجورٌ في حال إلحاده، طالما أنه فكَّر وأعمل عقله، وأخذ بأدوات الاجتهاد الصادق في طلب الوصول إلى الحق!! فإنْ وصل فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، قياساً على حال الحاكم الوارد في حديث البخاري السابق ذكره.
فالإشكالية الكبرى هنا والتي أوقعت الجفري في هذا الخلط الكبير أنه لم يفرِّق في طرحه بين الخطأ في أمر فرعي من أمور الشريعة، وبين الكفر بالله وإنكار وجوده، فلسان مقاله يعتبرهما على درجة واحدة، وكان الأحْرى به والأعدل أن يُسمِّي مقاله (أهُوَ خطأ أم بحث عن الحقيقة)؛ ليدور حول أخطاء البعض في فهم جزئيات الدين، لا أن يُنشئ المقال ليبرر للملحدين إلحادهم، وللغاوين غوايتهم، ويقدم لهم الأعذار في مقابل تعنيفه الشديد للمجتمع الذي ابْتُلي بإلحادهم، وكأن المجتمع هو الذي ألحد، والملحدون هم المؤمنون!!
وفي حديثه عن حق الإنسان في أن يُخطئ يقول الجفري: "وحق الإنسان في أن يُخطئ هو حق أصيل في الشريعة؛ سواء كان هذا الخطأ نتاجاً لتجربة البحث الجاد أم كان صادراً عن طبيعة الضعف البشرى". ويضيف: "إنّ الخطأ الناتج عن الضعف البشرى مظهرٌ من مظاهر حكمة الله في خلقه ورحمته بهم".
والمشكلة هنا تكمن في اعتبار الجفري الخطأَ حقاً أصيلاً للإنسان، والحق أن الخطأ استثناءٌ لا يحبه الله، ولا يرضاه لعباده، ولذلك يُعاقب العبدُ عليه إنْ لم يتبْ عنه ويستغفر الله منه؛ فارتكابُ الإنسانِ للأخطاء من ذنوب ومعاصي خلاف للفطرة التي فُطِر الناسُ عليها، ولو كان الأمر كما يقول الجفري، لكان عقاب الله لعباده على أخطائهم ظلماً لهم، وتحميلاً لهم فوق طاقتهم، وحاشاه تعالى أن يَظْلِم، فهو الحقُ، وهو أعدلُ الحاكمين.
فالله تعالى فَطَر الإنسان على الخير والحق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» (متفق عليه، صحيح البخاري: [6/2434/6226]، وصحيح مسلم: [4/2047/2658])، فالكفر -وتبعًا له الخطأ- ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه، بل إنما حصل بسبب خارجي، فإنْ سلم من ذلك السبب استمر على الحق.
فالجفري يؤسس لفكرة "أصالة الخطأ"، وأحقية الإنسان في ارتكابه له؛ ليخلص في النهاية إلى نتيجة مفادها: أنَّه لا حقَّ للمجتمع في تعنيف المُخطئ -والمراد به هنا (المُلحد) تبعًا لمنهج الجفري في مقاله- حيث يقول الجفري: "فنحن بحاجة إلى الكفِّ عن لغة التعنيف والتهجّم والتهديد التي لا تُجدي نفعاً، لننتقل إلى مرحلة تحمّل المسئولية والاعتراف بالخطأ والعمل الجادّ على الإجابة عن أسئلة الشباب".
ويضيف الجفري في موضع آخر من مقاله: "وينبغي لنا ألا نقع في فخ الانفعال التلقائي الغاضب، أو الهجوم المتحامل على الشباب، أو التلويح الأحمق بالعقوبات، أو الدعوة الهمجيّة إلى البطش، فكل هذا يُوصل رسائل خاطئة مفادها عدم الثقة بقدرة الإسلام على البيان بالحُجّة والبرهان".
وهو كلام ملتوٍ شغَّبَ فيه الجفري وشوَّشَ، فوصف الهجوم -الذي لم يبين كنْهَه- على الملحدين، بالهجوم المتحامل، ووصف بيان عقوبة الملحدين وحدَّهم الشرعي، بالتلويح الأحمق، وزاد في غلطه بوصف غيرَةِ المسلمين على دين الله وشرع الله ودعوتهم للنيل من الملحدين، بالدعوة الهمجية!!
وبالعودة للأصول الفكرية التي يلتزمها الجفري والمنطلقات التي ينطلق منها يمكننا تفسير ما وقع فيه من أخطاء، وغرق فيه من جنوحٍ وبعدٍ عن الحق في حديثه عن الإلحاد والملاحدة؛ فالجفري صوفي جلد، وهو مُتلبس بما تلبَّست به الصوفية من خرافات وترَّهات وأفكار غالية بشأن مسائل الألوهية والربوبية، وسُبل تلقي مسائل الدين، ومعرفة الخالق.
حيث يرى جمْعٌ من المتصوفة أن الشك (وهو يقابل الإلحاد وتساؤلات الملحدين هنا) أول درجات اليقين والمعرفة، وإلى هذا المذهب ذهب الإمام الغزالي في خاتمة كتابه (ميزان العمل)، قال الغزالي: "الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى في العمى والضلالة" (ميزان العمل، للغزالي: ص:175).
فكلام الغزالي باطل لا شك فيه، ولو صح من وجهٍ، فيصح على غير المسلم، فكم من غير المسلمين من اتبع طريق الشك، فهُدِي لما في ملته في الأساس من اعوجاج ظاهرٍ وفسادٍ بيِّنٍ، أما الإسلام فهو الدين الحق، الذي لا ريب فيه.
فالجفري بهذا التأصيل يتسق مع مذهبه الصوفي، ومع ما أصله كثير من المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة الذين يرون أن أول واجب على العبيد هو القصد إلى النظر أو الشك، ولهذا قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله في شرحه على الطحاوية: "ولهذا كان الصحيح أن أول واجب على المكلف شهادة أن لا اله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال أرباب الكلام المذموم" (شرح الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي: ص:78).
ومن نظر في كتب الملل والفرق في القديم والحديث خبر أنَّ غالب من وصفوا بالزندقة والإلحاد في عصور الإسلام الأولى كانوا من ربائب التصوف، ومن سدنة أفكاره الشاذة، وما أخبار ابن الراوندي الذي بدأ متصوفًا، أو أخبار الحلاج الذي قتل على الزندقة، عنا ببعيدة.
وختامًا أود الإشارة إلى أن ما سبق من اعتراضات على مقال الجفري لا يعني أننا لا ندعوا إلى سلوك مسلك الرفق واللين في نصح من ضلَّ أو كفر أو ألحد، وبذل الوسع في توضيح ما أُشكل وغَمُض، فاللين في دعوة الآخرين معنى قرآني وصفة نبوية حميدة. فالله عز وجل قال لخير خلقه صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]. وقال أيضا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
غير أن الرخاوة الزائدة عن الحدِّ قد تضر، وتأتي بغير المراد، ولذلك جاء الأمر الإلهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة والغلظة على الكفار والمنافقين في مواطن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} [التوبة:73].
فالأمر يحتاج إلى حنكة من المتصدى لهذه الظاهرة، ومعرفة جيدة بأحوال الناس وطبائع النفس الإنسانية، ليتناسب رد فعله مع الحالة الماثلة أمامه، وصدق المتنبي إذ قال:
وَوَضعُ النَدى في مَوضِعِ السَيفِ بِالعُلا *** مُضِرٌّ كَوَضعِ السَيفِ في مَوضِعِ النَدى
رمضان الغنام
كاتب إسلامي مصري التحصيل العلمي: "باحث بالدكتوراه"، تخصص الدراسات الإسلامية، جامعة طنطا.
- التصنيف: