سر الصلاة
حينما ينادي للصلاة بآذان واحد، يدعو المسلمين جميعًا أن يتوجهوا لله وحده بالصلاة والعبادة إلى قبلة واحدة، رؤوسهم تتقابل في الصلاة، وتتراص أبدانهم في صف واحد، ويؤمهم إمام واحد، أليس في هذه دعوة للمسلمين بالوحدة والاجتماع على كلمة سواء، وتكون الصلاة بهذا منهج حياة ليس فقط هذا الإتحاد وهذه الوحدة وهذا الترابط وقت الصلاة، ولكن ليكن هذا سنة ودينا في حياتنا كلها..
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلقد تدبرت في أفعال الصلاة، فوقع التدبر مني على كنز من كنوز أسرار الصلاة، فيه ملامح تربوية للأمة كلها، وسنة دائمة ليست مخصوصة بوقت الصلاة وفقط وبعدها ينفض كل إلى إمامه، ويكاد ينحصر السر في أفعال الصلاة في الملامح التالية:
1- الوحدة الشعورية:
حينما ينادي للصلاة بآذان واحد، يدعو المسلمين جميعًا أن يتوجهوا لله وحده بالصلاة والعبادة إلى قبلة واحدة، رؤوسهم تتقابل في الصلاة، وتتراص أبدانهم في صف واحد، ويؤمهم إمام واحد، أليس في هذه دعوة للمسلمين بالوحدة والاجتماع على كلمة سواء، وتكون الصلاة بهذا منهج حياة ليس فقط هذا الإتحاد وهذه الوحدة وهذا الترابط وقت الصلاة، ولكن ليكن هذا سنة ودينا في حياتنا كلها، لا نتراص ونصطف وقلوبنا شتى كما هو الحال لمرتادي دار الخيالة (السينما)، عيونهم تتجه لمشاهدة عملاً سينمائياً واحداً وقلوبهم شتي، بالكاد يعرف بعضهم بعضاً، كيف نقف صفاً واحداً في الصلاة، لنا رب واحد وشريعة واحدة، ونبي واحد، وإمام واحد، ولا يحس بعضنا ببعض على المحيط الضيق في مرتادي المسجد، ولا نعود مرضانا ونتفقد أحوال إخواننا في المسجد الذي نصلي فيه، ولا نتفقد أحوال المعسرين، ثم لا نحس بإخواننا في المحيط الأرحب بالمسلمين جميعاً في جميع أنحاء البسيطة، كيف يموت أطفال الصومال جوعاً وعطشاً ولا نجزع لهم ولا نساعدهم، بل كيف يحاصر إخواننا في غزة ولا نهب لنجدتهم ولا نجزع لجزعهم، بل كيف يقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله في أرض، ولا نفرح لفرحهم ولا نحزن لمصابهم ولا نهتم لأمرهم، ورؤوسنا في الصلاة عند رؤوسهم وقلوبنا وقلوبهم تهلل باسم ربنا وربهم: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة)، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليؤكد على وحدة الشعور ووحدة العقيدة ووحدة الغاية، فمن لا يفرح لفرح المسلمين ويحزن لحزنهم فليس منهم، ودع قلبك يفقه النص النبي كيفما شاء.
كيف نكون هكذا في الصلاة، ونتشرذم ونتفرق ونقف في الصلاة صفاً واحداً، ونقف أمام عدونا متناحرين متشرذمين ليس لنا كلمة سواء، ولا نتفق على وجهة واحدة، كما أخبرنا الله عز وجل: {إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، هذه هي مقوم من مقومات النهضة والنصر والتمكين، أودع الله عز وجل ذلك السر وتلك السنة في الصلاة، فما بالنا لا ننتبه، وما بالنا لا نعي ويخبط بعضنا ببعض ويحطم بعضنا بعضاً، متى تكون الوحدة؟ إذا كان هذا السر للعيان خمس مرات في اليوم والليلة، فهو إذاً ليس بسر ولا يخفى على أحد، ولكننا نبخل على أنفسنا، ونؤثر الفرقة وحينها نواجه الفشل والتلاشي كما تلاشت أمم من قبلنا، وننزوي كما انزوت.
2- الاستقامة في الصلاة منهاج حياة:
طلب مكرر في باطنه الرحمة، ومن ظاهره الجد والقوة والاستقامة الدائمة على دين الله، "استقيموا يرحمكم الله... استووا... اعتدلوا"، كل يوم خمس مرات، الإمام الأول صلى الله عليه وسلم أطلقها منهجاً للحياة يستقيم عليه كل مخموم القلب صدون الجنان، فعن أبي بكرة سفيان بن عبد الله أنه قال: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» (رواه مسلم). الدين ليس هذه الحركات والأفعال الجوفاء المنزهة عن الغايات والمقاصد، ما الصلاة والصوم والحج والزكاة بلا هدف لتقويم النفوس، وإصلاح الدنيا وجعلها مهدا للآخرة، لم تقم الشريعة على غير ذلك، فلا يصح أن نقف جنباً إلى جنب في الصلاة، تتلاصق أجسادنا وقلوبنا تتجه إلى الله بالعبادة، ونخرج من مسجدنا تنشأ بيننا الأحقاد والضغائن والحسد، وتبدو بيننا العداوة والبغضاء، يحسبنا الجاهل جميعاً وقلوبنا شتي.
السر هو الاستقامة خلقاً وسلوكاً، فكراً وقولاً وعملاً، «إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق» (ورد في السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
كيف لا وفهمنا هو أن الاستقامة والفضيلة والعلم من أركان الإسلام، ويجب علينا أن نتعهد أنفسنا بأن يكون كل منا مستقيماً، يؤدي العبادات، ونبتعد عن المنكرات، ونتمسك بالفضيلة والأخلاق الحسنة، ونتخلى عن الأخلاق السيئة، ونتحرى العادات الإسلامية ما استطعنا سبيلا، وما كان قول السيدة عائشة أم المؤمنين وهي تصف حال النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه: " كان قرآناً يمشي على الأرض، أو كان خلقه القرآن"، بدعاً من القول، بل النبي قدوتنا، وما تحقق له من المحتمل أن نحققه نحن في أنفسنا ومجتمعاتنا إذا أحسنا التأسي والاقتداء، وكانت عزتنا بشعائر الإسلام، وعظمنا شعائر الدين، فإنها من تقوي القلوب وقوامة للسلوك وهدي ورحمة للمؤمنين.
أعتقد أن السر في تخلف المسلمين: ابتعادهم عن روح الدين الحقيقية في تناول شرائع الإسلام وتعاليمه، كيف تكون الاستقامة من أركان الإسلام ولا نستقيم؟ كيف يتكرر الأمر خمس مرات لنا بالاستقامة ولا نستقيم؟!
يقول الصحابي الجليل أبو عبيده بن الجراح: "ظللت مع نفسي أربعين سنة حتى استقامت على طاعة الله"، هكذا تلقوا العلم للعمل وقرءوا القرآن بقلوبهم، فكان فقه القلوب والعمل قبل المقال، وعلموا ذلك للدنيا، فكان الدين عندهم هو المعاملة وليس الحدود فقط كما يتوجس بعض المتوجسين الآن من تطبيق الشريعة، لجهلهم بالدين واعتقادهم الخاطئ بأن الدين هو الحدود، وقطع يد السارق، ورجم الزاني المحصن، وغفلوا عن روح الدين، وهي المعاملة وحسن الخلق والاستقامة على المنهج، عقيدة وعبادة خلقا ورحمة وعدالة، وهذه هي مقاصد الدين: إضفاء روح الحب والسلام والرحمة والعدل بين المسلمين، وأن الله عز وجل لم ينزل الشريعة؛ ليشقى بها الناس، ولكن رحمة وهدى وشفاء لما في القلوب: {طه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ . إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ} [طه: 1-3]، وهذا هو مقصد المنهج الإسلامي ذي الفهم الصحيح، سئل الإمام محمد بن الحسن رحمه الله: "لما لا تؤلف للناس في الرقائق والزهد، قال -رحمه الله-: قد ألفت لهم فقه المعاملات، هذا من فهمه العميق للدين؛ لأن المنهج الإسلامي زكاة للنفوس وتربية للقلوب وتقويم للسلوك في معاملاته وعقيدته وعباداته".
3- مساحة من الاتفاق:
نقف في الصلاة صفاً واحداً متراصين على أرض مشتركة، وعلى مسافة واحدة من بعضنا البعض، يتلو الإمام قولاً واحداً، يكبر نكبر في وقت واحد، ونركع ونسجد ونقوم في وقت واحد بحركات متناغمة متوافقة، كأننا فرقة واحدة، فلماذا لا نكون كذلك في حياتنا العملية والأيدلوجية، نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، كما يقول الإمام البنا -رحمه الله-، ونعطي لبعضنا مساحة من الحوار المشترك المثمر الحكيم كما في الصلاة، الحوار الرباني، كيف أننا إذا حزبنا أمر نهرع لمخاطبة الله عز وجل، من خلال الصلاة، ويسمح لنا الله عز وجل بأن نلقي بهمومنا وذنوبنا وأحوالنا في ساحته، وهو أعلم بنا وأقرب إلينا من حبل الوريد، وهو سبحانه القوي والغني عنا نحن الضعفاء الفقراء، بينما لا يسمح بعضنا لبعض بالاختلاف والحوار، ونصادر الآراء، ونهمش الآخر، ويجري هذا السلوك على الدول الإسلامية والعربية فيما بينهم، وأعتقد أن هذا هو سر تأخرنا، بينما سر تقدمنا أودعه الله في الصلاة، فلماذا لا نعمل به ونعي سنن الله في الرقي والحضارات؟
4- النظام وضبط النفس:
الصف المتراص لوقت معلوم في الصلاة، يوطن النفس ويدربها على النظام والجندية وضبط النفس، فهناك الإمام القائد الذي يؤم المصلين، وهم يقتدون به كالجنود في الميدان، ولا جرم في أناس هذا وصفهم أن ينطلقوا من هذا الميدان لميدان العلم والعمل معاً، يحمل في طيات نفسه الانضباط سلاحاً، فلا يتأخر على عمله، ولا يؤخر مصالح العباد بحجة العبادة، فالعبادة قد علمته الانضباط والنظام، وإذا كان حال الأمة كلها هكذا كانت في مقدمة الركب وقائدة الدنيا كلها، وكان كل أفرادها يستشعر المسؤولية المنوط بها، ويعي أنه المسؤول الأوحد عن الأمة، ويقف صفاً مرصوصاً في وجه الفتن يذود عن الوطن، وإذا كانت الصلاة ملآ بالأسرار، وتعلمه الانضباط والجندية والتميز، وهذا هو سر العبادة، بل سر الإسلام كله، فما أحوجنا للتميز والنظام والجندية في الميادين كلها العلمية منها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعملية، وتكون الصلاة منهاج حياتنا لصلاح دنيانا وآخرتنا، وكما يقول الشيخ الغزالي -رحمه الله-: "أجل لنقلها صريحة، فإن أمتنا محتاجة لإجادة فن الحياة".
وأختم هذه الأسرار من أسرار الصلاة بمقولة الإمام البنا رحمه الله عن الصلاة: "الإيمان الصادق بالله تبارك وتعالى يحدث ولا شك في النفس شوقاً ولوعة وتحرقاً وحنيناً وحباً يصل إلى الوله بمناجاته سبحانه وتعالى، وذكره والتبتل له والتذلل بين يديه، وليس لهذا كله من مظهر إلا الصلاة التي هي الصلة بين العبد وربه، والتي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» (رواه مسلم)، وإذا أكثر العبد من الصلاة مستصحباً هذا الشعور أحدثت الصلاة في نفسه أثراً عميقاً من التلذذ، ووجد حلاوة في قرارة فؤاده وإشراقاً في حنايا قلبه يجعلها ربيع صدره وقرة عينه ومن هنا كانت الصلاة، ولا شك خير مهذب للأرواح ومطهر للنفوس من أدران الإثم والفساد، ولا يقف أثر الصلاة عند هذا الحد الفردي، بل إن الصلاة كما وصفها الإسلام بأعمالها الظاهرة وحقيقتها الباطنة منهاج كامل لتربية الأمة الكاملة فهي بأعمالها البدنية وأوقاتها المنتظمة خير ما يفيد البدن، وهي بآثارها الروحية وأذكارها وتلاوتها وأدعيتها خير ما يهذب النفس ويرقق الوجدان، وتغذي العقل، وتمد الفكر بكثير من الحقائق والمعارف".
طارق محمد حامد
- التصنيف:
- المصدر: