الأخوة الغائبة

منذ 2013-06-25

مفهوم الأخوة الإيمانية مفهوم عميق في الرؤية الإسلامية، فهو يتعدى مفاهيم الصداقة والمعرفة والزمالة والصحبة، وغيرها من التعريفات الاجتماعية للأفراد مع بعض..

 

عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤسس مجتمعا راسخا في الإيمان، مطبقا لسلوكياته على الأرض، منفذا لتعاليم التشريع في معاملات الناس وأخلاقهم وآمالهم وأحلامهم، وضع الأسس الأولى لذلك المجتمع بناء على أمرين أساسيين، المسجد كمؤسسة مركزية نورانية والأخوة نموذج تطبيقي دافعي ملهم .

ومفهوم الأخوة الإيمانية مفهوم عميق في الرؤية الإسلامية، فهو يتعدى مفاهيم الصداقة والمعرفة والزمالة والصحبة، وغيرها من التعريفات الاجتماعية للأفراد مع بعض.. فلكأنه استعار لفظ الأخوة التي اختصت دوما بالأشقاء من دم ولحم ومن صلب واحد إلى نوع آخر! ميثاقه الإيمان وعموده المحبة ودافعه الثواب والأجر، يحيطه الصدق ويؤمنه الإخلاص، فنزلت آيات القرآن الكريم تضبط الميثاق وتبين السبيل، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فجعلت الإيمان دليل الأخوة، وفي آية أخرى: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، فجعل النعمة كأنها قد جسمت فصارت أخوة متحركة .

وأخوة أخرى منبثقة عن الأخوة الإيمانية العامة، سعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بثها بين ثنايا المجتمع الناشئ في المدينة، وكأنه يطرح بين خيوط الثوب المنسوج الجديد خيوطا أكثر قوة، وأشد متانة، تميز الثوب وتشده وترفع قيمته.. تلكم هي الأخوة الخاصة التي تنشأ بين اثنين أو اكثر، تلاقوا في طاعة الله لم يجمع بينهم دنيا ولم تغوهم مصلحة، ولم يغرهم زخرف، بل كان لقاؤهم في الله طلبا للثواب، وكانت علاقاتهم في الله تزيد الإيمان يوما بعد يوم .

فكلما زادت أخوتهم زاد إيمانهم، فهي أخوة لا تزيد بالعطاء ولا تنقص بالمنع، إذ قيمتها الأساسية لا تتعلق بالمنافع الدنيوية، وهي أخوة تضع الإيثار خلقا لها، فليست الأزمة في السير أبدا تحدث بين اثنين يسيران في الطريق مادام الطريق متسعا لهما، إنما تبين الحقائق عندما يضيق الطريق فلا يصبح ممكنا أن يمر فيه إلا واحد فقط، فعندئذ من يمر.. أنت أو صاحبك؟! والإيثار الأخوي هنا يدفعك أن تقدم صاحبك في الخيرات كلها إيثارا على نفسك مهما كان بك حاجة، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُ‌ونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

ولا يزال الموقف الرباني الإيماني المعجز الذي كان في أحد الغزوات، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض أصحابه فقيل له أنهم مجروحون أو شهداء، فأمر بتفقدهم، فذهبوا إليهم فوجدوا أربعة لم يقضوا نحبهم بعد، فسألوهم هل لكم من حاجة، فقال الأول: شربة ماء، فجئ له بالماء فإذا بأخيه المجروح بجواره يطلب الماء، فقال أعطوه قبلي، وفعل الثاني ذلك مع الثالت و الثالث مع الرابع، كلهم يطلب أن يسقى أخوه قبله وهو في آخر رمق من الحياة، فلما عاد من الرابع إلى الأول فكان قد مات إلى الثاني إلى الثالث إلى الرابع حتى ماتوا جميعا، وقد آثروا على أنفسهم شربة الماء في آخر رمق من الحياة .

وخلق آخر يحوي الأخوة فيلفها بحزام عفيف فيربطها برباط فروسي علوي سامق وهو (خلق المروءة)، فالأخوة والمروءة صنوان يكادان أن يجتمعا في معظم الماهية، فالأخوة تعني النجدة والمسارعة في الخيارات، والمدافعة عن الأخ إن ظلم، وتقويمه إن انحرف، وتصويبه إن تردد، ونصحه إن جهل، والمسابقة إليه في الفضائل، وتكاد تلك المعاني أن تجمع في معنى المروءة، فلكأنما صارت الأخوة في ميثاق الإسلام مروءة متحركة وإيثارا معجزا، فما أروعها من مبادرة تجمع النفوس وتربي القلوب على طريق واحد، بينما الكفوف في الكفوف والقلوب تدعم القلوب .

أوضح نموذجها الأمثل النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إذ يخشى صاحبه عليه بينما هم في الغار في رحلة المدينة، فيقول لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا يا رسول الله، ويخلد القرآن الموقف الصادق من الصاحب الصدوق الصديق، قال تعالى: {يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

وأخوة تجعل أحدهما -المهاجري- وقد آخاه النبي صلى الله عليه وسلم بـ(أنصاري) كريم قد عرض عليه شطر ماله وإحدى زوجاته، يقول له: "بارك الله لك في زوجك وأهلك دلني على السوق"، فينتج الصدق خيرا وتنتج المروءة بركة فيصير نتاج غني مبارك .

قال بن اسحاق: "وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال «تآخوا في الله أخويين أخوين ثم أخذ بيد علي بن ابي طالب فقال: هذا أخي» (البداية والنهاية: 3/225)، وكان حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة أخوين وإليه أوصى حمزة يوم أحد، وكان جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين، وكان أبو بكر الصديق وخارجة بن زهير أخوين، وكان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وكان أبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين، وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين وهما صاحبا قصة السوق السابقة، وكان الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة أخوين، وكان الزبير وعبد الله بن مسعود أخوين، إلى غير ذلك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين خلدوا على صفحات التاريخ نماذج معجزة من تطبيقات الأخوة معنى ومبنى" .

فتجد الأخوة التي قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم تجمع الأغنياء بالفقراء، والأحرار بالموالي، وإنما تقربهم الأخوة وتحببهم، أخرج الطبراني قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من رجلين تحابا في الله بظهر الغيب إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حبا لصاحبه»، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلا زار أخ له في قرية أخرى فأرسل الله تعالى على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال: من تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها عليه، قال لا غير أني أحببته في الله تعالى، قال إني رسول الله إليك فإن الله قد أحبك كما أحببته فيه»، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم، يضع القيمة الكبرى الجاذبة للأخوة في الله والمحبة فيه بقوله عن الله عز وجل في الحديث القدسي: «قد حقت محبتى للذين يتحابون من أجلي» (أخرجه أحمد).

إن الناظر في حال الأخوة في الله في هذه الأزمان، لينكسر قلبه لما يرى من أخوة ظاهرية بلا عمق، ومن علاقات قائمة على المصلحة الشخصية، ومن تقارب وصحبة في السراء دون الضراء، ومن أخوة قائمة على التحزب لجماعة أو حزب، أو تبعية لشخص ما، أو من أخوة مؤقتة غير مستمرة تتغير بتغير الأحوال، قال الشافعي:

 

فما أكثر الإخوان حين تعدهم *** ولكنهم في النائبات قليل


وقال أيضا: "من صدق في أخوة أخيه، قتل علله، وسد خلله، وعفا عن زلله" .
وقال أبو الدرداء: "إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم مرة".



خالد رُوشه