بين الشورى والديمقراطية
في بلدان الثورات العربية سعي حثيث لنقل المجتمع من التخلف إلى التقدم ومن الاستبداد إلى الحرية ومن الفساد إلى الصلاح ويقوم بهذا السعي كل محب لبلده من منظوره الشخصي، ونظرا للفوارق القوية بين الديمقراطية وبين الشورى فإن أتباع كل اتجاه يسعى لإزاحة الآخر -من الناحية النظرية- في محاولة الاستئثار لظنه هو الأحق بالتصدر.
يقارن كثيرون بين الشورى والديمقراطية ويحاولون إيجاد أرضية مشتركة كبيرة بين الأمرين، ظنا منهم أن في إثبات العلاقة بينهما مكسبًا للإسلام وهم لا يعتمدون في ذلك في حقيقة الأمر على أدلة يدعمون بها دعواهم، وجل ما لديهم في ذلك هو ذكر تشابه فرعي في مسألة جانبية ليست من صلب الديمقراطية، وهم في الحقيقة قد خانوا العلم بتصرفهم ذلك وأساءوا إلى الدين ولم ينصفوه، ولو أنصفوا وأعطوا العلم حقه لبينوا الخلاف الجوهري بين الشورى والديمقراطية التي تمنع من إيجاد لقاء أو تقارب بينهما.
فالشورى والديمقراطية مصطلحان يتشابهان في المدلول وربما يتماثلان عند طائفة من الناس، لكن عند آخرين يتعارضان بل يتناقضان، وهذا الأخير هو الواقع فعلًا، الشورى مفردة عربية وردت في الكتاب والسنة يتمسك بها الإسلاميون، ويرجع تمسكهم بها وعزوفهم عن الديمقراطية كون الشورى نابعة من شريعتهم والديمقراطية مستجلبة من خارج بيئتهم وثقافتهم وتخالف دينهم في قضية جوهرية.
والديمقراطية مفردة إغريقية نتيجة فكر إنساني وثني يتمسك بها العلمانيون والليبراليون وطوائف أخرى، ويرجع تمسك الديمقراطيين بالديمقراطية كونها في نظرهم تعلي من قيمة حرية الفرد في اختياراته، ومن خلال منشأ المفردتين يتبين أن هناك اختلافا بينا بين الأمرين، فالشورى تعني تداول الرأي والبحث في الأمور المشكلة من أهل الشورى للوصول في القضايا المعروضة لما يحقق مصلحة الناس والمجتمع من خلال النظر في الواقع في ضوء أدلة الشريعة والتقيد بها، في إطار قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7].
والديمقراطية تعني استقلال الإنسان في اختياراته الفردية والمجتمعية من غير تدخل من أية أطراف خارج الإنسان سواء كانت أعرافًا أو أيدلوجيات بما يعني حاكمية الشعب في ضوء المبدأ المشهور الذي مضمونه أن السيادة للشعب، ومن خلال الأسس التي ينطلق منها كل من الديمقراطية والشورى يتبين الفرق الواضح بينهما، وأن كلا منهما ينتمي لمجال فكري مفاهيمي مباين مباينة تامة للآخر، وإمكانية وجود اتفاق في بعض القضايا الإجرائية من ناحية الشكل بينهما لا يعارض تلك المباينة لأن هذه الإجراءات يتأثر مضمونها بالقاعدة المنطلقة منها، ومن ثم فالموافقة شكلية ليست حقيقية.
الديمقراطية في الفهم العامي أن يختار الشعب حكامهم بإرادتهم من غير أن يفرض عليهم من خارجهم وأن يحاسبوا حكامهم إذا تجاوزوا الحدود، رغم أن ذلك في أحايين كثيرة لا يخرج عن كونه مجرد دعاية للديمقراطية ليس لها نصيب من الواقع، وفي الفهم التأصيلي للديمقراطية عزل الدنيا عن الدين وهي بذلك تمثل الوجه السياسي للعلمانية، وفي الشورى يتشاور أهل الاختيار من المسلمين لاختيار حكامهم وفق الشروط والضوابط التي بينتها أحكام الشريعة، ولهم مراقبتهم وتقويمهم ومحاسبتهم ومن ثم عزلهم إذا خرجوا على الشريعة.
الصورتان متشابهتان عند النظرة السطحية لاعتماد كليهما على فكرة الاختيار، لكن عند النظرة المتعمقة التي تتجاوز المظهر أو الشكل إلى المخبر أو المضمون فالصورتان جد مختلفتان نظرا لاختلاف الجذور التي يرجع إليها كل منهما، وما يترتب على ذلك من أحكام وآليات في الديمقراطية التنافس والصراع من أجل امتلاك السلطة مشروع بل هو مضمونها، حتى إنهم ليسمون هذا التنافس بالمعركة -المعركة الانتخابية- وفي الإسلام التنافس في خدمة المجتمع وإيصال الخير للناس مشروع، بل ومطلوب من غير سعي لامتلاك السلطة، والسعي في ذلك مذموم، لأن السعي لإيصال الخير والنفع للناس يجب أن يكون خالصًا لله ابتغاء مرضاته ولا يصح أن يكون سلمًا لمغنم من مغانم الدنيا الحقيرة وإن عظمت.
في بلدان الثورات العربية سعي حثيث لنقل المجتمع من التخلف إلى التقدم ومن الاستبداد إلى الحرية ومن الفساد إلى الصلاح ويقوم بهذا السعي كل محب لبلده من منظوره الشخصي، ونظرا للفوارق القوية بين الديمقراطية وبين الشورى فإن أتباع كل اتجاه يسعى لإزاحة الآخر -من الناحية النظرية- في محاولة الاستئثار لظنه هو الأحق بالتصدر.
ومن الناحية العملية ومن خلال خبرة الشهور الماضية بعد قيام الثورات فإن الديمقراطيين يسعون لإزاحة الإسلاميين ولو عن طريق استعمال وسائل مناقضة للديمقراطية التي يعلنون إيمانهم بها، كدعوتهم العسكر للاستيلاء على السلطة رغم وصولها للرئيس المنتخب عن طريق ديمقراطي -مصر نموذجًا- وهو دليل واضح على عدم إيمانهم بالديمقراطية واستعدادهم للانقضاض عليها إذا لزم الأمر، والذي يظهر من تصرفات تيار عريض من الإسلاميين رغبتهم في التوافق والترافق مع الآخرين من العلمانيين والليبراليين وسعيهم لذلك سعيًا حثيثًا..
ومن أمثلة ذلك: إقامة تحالفات انتخابية بينهم وبين من يخالفونهم مخالفة كبيرة في الأصول والقواعد من أحزاب ديمقراطية (علمانية، وليبرالية، بل ونصارى)، وإن كنت أرى من وجهة نظري أن على الإسلاميين ألا يتحالفوا مع من يخالفهم في أصل التوجه، وأن يقتصر تحالفهم على من يوافقهم في أصل التوجه، وأن عليهم السعي لإزاحة غيرهم عبر المسلك السلمي لأنه لا ينقصهم شيء يحتاجون لاستكماله من غيرهم، وما عند غيرهم من الخير لا يحتاجون له لأن ما عندهم أفضل وأكمل مما لدى كل أحد غيرهم، ومن ثم فلا حاجة لمثل ذلك التحالف الذي يخصم من رصيد الإسلاميين لصالح مخالفيهم.
محمد بن شاكر الشريف
باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.
- التصنيف: