وصية غريب

منذ 2006-06-08

يتناول الدرس وصية تحتوى زاداً في طريق الحياة، فهي في غاية من الأهمية لما فيها من الفوائد التي تجعل الإنسان المؤمن يسعى إلى الدار الأخروية بالكلية، فاحرص على قراءتها بتفهم، وكرر القراءة، وليكن همك العلم والعمل بإخلاص، ومتابعة لنبي الغرباء صلى الله عليه وسلم وبلغها لعلك تفوز بطوبى.

أخي في الله..
هذه وصية غريب أهديها لك لعلك أن تكون من الغرباء الذين لا يستغنون عن هذه الوصية التي تحتوي زاداً لك في طريق الحياة، فهي في غاية من الأهمية لما فيها من الفوائد التي تجعل الإنسان المؤمن يسعى إلى الدار الأخروية بالكلية، فاحرص على قراءتها بتفهم وكرر القراءة، وليكن همك العلم والعمل بإخلاص، ومتابعة لنبي الغرباء وبلغها لعلك تفوز بطوبى.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» رواه مسلم وابن ماجة وأحمد.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:«كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» رواه البخاري والترمذي وابن ماجة وأحمد .


من الغريب؟


الغريب، هو الذي تمسك بما كان عليه صلى الله عليه وسلم عقيدة وشريعة, أخلاقاً وسلوكاً، وعبادة شاملة بكل ما أمر الله به، وصبر على ذلك «فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ، قَالَ: «بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة وهو في السلسلة الصحيحة للألباني 1/812 .

فهؤلاء الغرباء الممدوحون، ولقلتهم في الناس سُمُّوا غرباء، فإن الأكثر على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع غرباء، والداعون إليها الصابرون علي أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًا فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين، الذي قال الله فيهم: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]. فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، غربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليه.

من صفات الغرباء :


-التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم.

- وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس.

-وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بل هؤلاء هم الغرباء المنتسبون إلى الله بالعبودية وحده، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًا.


الإسلام الحقيقي غريب وأهله غرباء بين الناس، وكيف لا تكون فرقة واحدة غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع، ورئاسات، ومناصب، وولايات؟! لا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم ومناصبهم، وما هم عليه من الشهوات والشبهات.

فكيف لا يكون المؤمن الطاهر غريباً بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شحهم، وأعجب كل منهم برأيه؟!

فإذا أراد المؤمن -الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وأراه ما الناس فيه من الأهواء- أن يسلك هذا الطريق المستقيم؛ فليوطّن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعة وإمامه صلى الله عليه وسلم.

فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم؛ لأنه لا يعاشرهم على ما تهوى أنفسهم.

وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قومٍ المعروف لديهم منكر، والمنكر لديهم معروف.

وكيف لا يكون العبد في هذه الدار غريباً، وهو على جناح سفر، لا يحل عن راحلته إلا بين أهل القبور؟ فهو مسافر في صورة قاعد، وكما قيل:

                     وما هـذه الأيام إلا مــــــــــراحل      يحث بها داع إلى الموت قاصد
                     وأعجب شيء -لو تأملت- أنهـا       منازل تطوي والمسافر قــاعـد


ذُكر أن قوماً من الصالحين جلسوا في مجلس، وكان بينهم رجل من أهل الإيمان، وأراد أن يجعلهم يحتقرون الدنيا، ويتذكرون الآخرة، ماذا فعل؟ أتى بورقة، وجعل فيها شيئاً حقيراً، وأخذ هذا الشيء يدور على جميع من كان في المجلس، وكلما نظر إنسان من الجالسين إلى الورقة يضحك ويتعجب، ولم يلقوا لها بالاً، ولم يفهموا شيئاً أبداً، ثم قال لهم: إن هذا الشيء الحقير الصغير الذي رأيتموه هو جناح بعوضة قذرة، وإن الدنيا بأموالها وأهلها وشهواتها، وجوها وبحرها، وأرضها وسمائها، وليلها ونهارها؛ هي أحقر عند الله من هذا الجناح القذر.

ويقول الصالحون الذين كانوا في المجلس: بعد ذلك صحون من غفلتنا، وأحسسنا بضربة في القلب هزت كياننا، وعرفنا أنه أراد أن يذكرنا بحديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» رواه الترمذي وابن ماجة.

فيا أخي إذا كنا نحتقر جناح البعوضة، فمن باب أولى أن لا نهتم بهذه الدنيا؛ لأنها أحقر عند الله من جناح البعوضة القذر، فلنجعل الدنيا تحت تصرفنا وتحكمنا ولنجعلها مزرعة للآخرة.


أخي في الله..
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114]. وتذكر جيدًا قوله تعالي:{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].

فليكن لسانك عامراً بالذكر والنصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجعله كالمشلول عند مواطن الغيبة والنميمة، والسب والاستهزاء والغناء، وليكن بصرك متجهاً دائماً وأبداً إلى الخير من قراءة القرآن، أو الكتب المفيدة، أو إلى النظر إلى عظمة السماء والأرض وما فيهما من المخلوقات، فتعرف من خلال إطالة، وتعمق الفكرة عظمة الله المطلقة، فتكف بصرك عن جميع ما حرم الله من النظر إلى النساء، وغيرها من الفتن، والنظر إلي ما لا فائدة فيه؛ فيعطيك الله ثلاث خصال: حلاوة إيمان، وخشوعاً في القلب، وفراسة.

وإذا حدث منك زلل، فبادر إلى استغفار الله بقلبك ولسانك، وأتبع هذه الزلل حسنة بفعل الخير، تجد الله غفوراً رحيماً. وحافظ علي قول كفارة المجلس عند نهاية كل جلسة وهي: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» رواه أبوداود والدارمي وأحمد.

أخي في الله..
لا بد أن تكثر من الأعمال الخيرية في كل مكان وزمان، ولا تحقر أبداً أي عمل ما دام خيراً، وبإذن الله لن تتعب من القيام بهذه الأعمال؛ ما دمت تشرب من الشراب اللذيذ الذي يزيدك محبة لهذه الأعمال، ألا وهو شراب الإخلاص، والاحتساب لله سبحانه، واحذر كل سبب يقربك إلى النار، وسارع إلى كل سبب يؤدي بكل إلى بوابة الجنة.

ولا بد يا أخي أن تستدرك ما فات مادام في العمر بقية، وتعرف أن هذه الدنيا خداعة براقة، وأنه لا لذة ولا نعيم، ولا راحة ولا سعادة إلا بطاعة الله، ومتابعته صلى الله عليه وسلم في كل شئ،وسوف تحب الخير وأهله، وتحرص عليه، وتكره الشر وأهله، وتحرص على البعد عنه.

أخي في الله، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة، واجتهد واستيقظ، وإياك والنوم والكسل، والتسويف والتململ.

أخي في الله، استدرك ما فات، فما زلت شاباً، فماذا تنتظر بعد ذلك؟ أتنتظر الأشغال التي تشغلك؟ أتنتظر الشيخوخة؟ أتنتظر الموت الذي هو قريب، ولكنك في غفلة منه؟ وسوف يهجم عليك في ساعة من ليل أو نهار، ولا تدري كيف الانتقال، أيكون بأعمال صالحة وحسن ختام؟ أم يكون بأعمال سيئة وسوء ختام؟ إن الشيخوخة تكون عليك حسرة، وتقول ياليتني حينما كنت شاباً أكثرت من صوم التطوع، وقيام الليل، وتعلم العلم والدعوة إليه، وفعل كل ما يحبه الله.

أخي، لا تغفل عن الموت، إن الموت لا ينفع معه ندم، لا كثير ولا قليل، فهو بوابة لأهل الإيمان والتقوى إلى الجنة، وبوابة لأهل الكفر والعصيان إلى النيران، وسوف تنتقل بخرقة بيضاء، ولا يقال إلا غسلوا الجنازة، وطيبوا الجنازة، وصلوا على الجنازة.
أقرب الناس إليك لا يريدونك، بل يسارعون بك إلى حفرة عرضها أشبار وطولها أمتار، إما أن تكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وبعد ذلك ينساك الحبيب والقريب، ولا ينفعك إلا ما قدمت من الأعمال الصالحة الخالصة كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي والدارمي وأحمد.

أخـي :


تزوّد مـن التقوى فإنك لا تــــــــدري        إذا جَنَّ ليلٌ هـل تعيش إلى الفجرِ
فكم من فتى أضحى وأمسى ضاحكاً        وقـد نسجت أكفانه وهـو لا يدري
وكم من صغار يرتجى طول عمرهمُ        وقـد أُدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكـم مـن عروسٍ زينوها لزوجهـــا        وقـد قبضت أرواحهم ليلة العرس



أخـي في الله..
كل معصية سوف تجازى بها لا شك في ذلك، ولكن يُعفى عنك لأسباب منها: التوبة والاستغفار، وفعل الحسنات، وما يقدر عليك من المصائب، ودعاء الأخيار لك، واهدائم الأعمال التي ورد فيها النص بعد مماتك، أو بعذاب القبر، أو بأهوال يوم القيامة، أو عذاب جهنم، أو بغير ذلك من الأسباب.

فأسألك بالله ما هو أسهل عليك من هذه الأمور؟ أليست التوبة؟



إذًا: لماذا لا تتوب، وتفتح صفحة جديدة بيضاء، تصدق مع الله؛ واحذر التسويف.. سوف أتوب وأترك المعاصي الظاهرة والباطنة، وسوف أدعو إلى الله، بل سارع إلى الله، وتب التوبة النصوح، وانكسر بين يدي ربك، واسكب الدموع بين يدي مولاك في جوف الليل، واعترف بذنوبك، واسأله أن يعينك فيما بقي من عمرك.

يا مسكين،الأجل بيد الله، ولا حول ولا قوة لك، فمتى كان وقت رحيلك؛ أتاك ملك الموت، وخطف روحك، رضيت بذلك أم لم ترض، فأيهما أحسن أن تخرج روحك من جسدك، وهي طاهرة مطمئنة أو تخرج وهي خبيثة؟!

وتذكر أهل القبور، وكيف غير الموت أحوالهم، تعفّنت بطونهم، وغيّر محاسن وجوههم، وتساقطت أسنانهم على الأرض، وأكل الدود خدودهم وأجسادهم، أصبحوا جثثًا هامدةً، وجيفًا منتنة!

وأكثر من الدعاء لنفسك بصلاح قلبك والتوفيق والهداية والسداد، وادع لوالديك، وأكثر من الدعاء للعلماء، ولإخوانك الأفغان، فإن النصر بيد الله، وكذلك إخوانك المسلمين في كل مكان، فإن الملائكة تقول: آمين ولك بمثل، فأنت الرابح.

يا أخي، عليك بمخالطة الغرباء من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقراءة سيرة الغرباء الأوائل والأواخر، وانطرح بين يدي رب الغرباء في السحر بعين باكية، وقلب خاشع، ولسان ذاكر، خصوصاً في سكون الليل الآخر، ولا تغفل عن السير إلى دار الغرباء بزاد العلم والعمل الخالص إلى بلاد الأفراح.

أخي الحبيب، اجتهد دائماً أن تتذكر بلاد الأفراح بنقل قلبك إليها، ففيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

يا أخي، ألا تريد التمتع بالنظر لوجه الله الكريم؟ ألا تريد التمتع برؤية الصالحين من الأنبياء والصدّيقين؟ ألا تريد التمتع بالحور العين؟ ألا تريد أن تأكل لحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون، وأنواع الشراب من الخمر، والعسل، وغير ذلك؟ ألا تريد قصور الذهب والفضة، والبساتين العظيمة في دار السلام؟

أخي..


ما ضر من كان في الفردوس مسكنه        ما مسه قبل مــــــــــن خير وإقتار


أخي: انظر إلى الآخرة دائماً، وتذكرها في الليل والنهار ما فيها من نعيم، وما فيها من أهوال وشدائد، فإذا أكلت فاسأل نفسك: هل تريد أن تأكل مما أعد الله لأوليائه في جنات نعيم من فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، أم تريد أن تأكل من الزقوم، وتشرب من ماء تتقطع له الأمعاء؟!

أخي، إذا مررت على جسر، فاسأل نفسك: هل تكون يوم القيامة ممن يمرون علي الصراط كأجاويد الخيل، أو كالرياح، أم أنك تحبو على الصراط حبواً، أم أنك تلقفك الكلاليب؟

أخي، كن على حذر من الشيطان، فالشيطان ملحاح بطيء، لا ييأس منك بل يحاول أن يوقعك في الآثام والمعاصي من هذه العقبات:عقبة الكفر، والشرك الأصغر، أو الأكبر، احذر البدع وابتعد عنها، وحذر الآخرين منها، احذر الكبائر فالشيطان يدعوك إلى كبائر الذنوب والآثام، والظاهرة والباطنة، واجعل بينك وبينها وقاية من خوف الله، ورجاء ثوابه ومحبته، وتعظيمه في الليل والنهار، فإذا ما سلمت من ذلك جاءك الشيطان من مدخل الصغائر كي يوقعك في حباله، فإذا سلمت من ذلك جاءك من باب المباحات والانشغال عن الطاعات، فإذا سلمت من ذلك جاءك من باب الانشغال بالأعمال المرجوحة عن الأعمال الراجحة، فاحذر ذلك كأن يشغلك عن العلم، ويشغلك عن بر الوالدين، أو غير ذلك.

واعلم بأن الشيطان لن يتركك، فاجتهد أن تشغل نفسك بالطاعات، ومن ذلك الصدقة فإن الله يحبها، واحرص على أن تشارك بجزء من مالك في الجهاد في سبيل الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ:« مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» رواه البخاري ومسلم. ويقول صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَومَ الْقِيَامَةِ» رواه أحمد، وابن خزيمة وصححه الألباني في الترغيب والترهيب.

أخي، احرص أن تتابع بين نوافل الطاعات، ومن ذلك الحج خلال السنوات، والإكثار من العمرة خلال السنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ» رواه البخاري ومسلم .


أخي، اسعَ في قضاء حوائج الآخرين -وخصوصاً الأرملة والمسكين- وأكثر من تلاوة كتاب الله بتدبر وفهم وعمل بالآيات، وأكثر من ذكر الله، واسأله لنفسك ولأقاربك وإخوانك في الله وللمسلمين أن يدخلك الجنة، وأن يبعدك عن النار، وأكثر من الاستغفار، والصلاة والسلام على المصطفى المختار. وكن ممن يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على قدر طاقتك.

احرص على مجالس العلماء وحلق الذكر، ففي ذلك حياة لقلبك، وكن ممن يحيون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شئ، ومن ذلك الجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد حتي تطلع الشمس وتصلي ركعتين لعل الله يعطيك أجر حجة وعمرة تامة تامة، تامة؛ فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ» رواه الترمذي.

وخير ما أوصيك به: الإكثار من الدعاء في السجود، فإنك قريب من الله، فسله أن يصلح قلبك، وأن يثبتك علي طريق الإيمان، فكم من إنسان سار على هذا الطريق وأضلّه الشيطان بسبب ذنوب باطنة أو ظاهرة -نسأل الله العافية والسلامة من الوقوع في خطواته-. وليكن عندك يقين بأنك تدعو مَنْ بيده خزائن السماوات والأرض، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون، فهو يحب السائلين، ويفرح بالتائبين، وأنين المذنبين أحب إليه من زجل المسبحين المعجبين بأعمالهم.

واحذر يا أخي الحسد؛ فهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. واحذر من احتقار الناس، فالناس ليسوا مظاهر فقط، وإنما بواطن كذلك، فربَّ أشعت أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، خير منك عند الله؛ لصلاح قلبه باليقين والتوكل، والإنابة، والرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، والمحبة والإخلاص، والتعلق بالله والإخبات والخشوع، وغير ذلك من أعمال القلوب التي هي من أفضل الأعمال عند الله عز وجل.

واجتهد في إصلاح قلبك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ» رواه البخاري ومسلم.



اجتهد دائمًا في فعل الطاعات لعل الله يتوفاك عليها، ويبعثك عليها، فلا تضيع الأوقات فالفرصة ما زالت بيدك، لا يضحك عليك الشيطان كما ضحك على كثير من الناس بانشغالهم عن الله بأموال، ومناصب، وأزواج، وأولاد، وشهادات، وأصدقاء من أهل السوء، وهو حريص أن تكون من حزبه في النار، فإن كنت صاحب همة؛ فإنك سوف تنقاد لأمر الله ورسوله بالليل والنهار، فتكن من أصحاب الهمم العالية، وإياك أن تكون من أصحاب الهمم الحيوانية، فما أكثرهم في هذا الزمان.

وسارع إلى الله ما زال في العمر بقية، سافر بقلبك وجوارحك إلى الله والدار الآخرة قبل أن يدركك هادم اللذات، ومفرق الجماعات. وإياك أن تكثر من المباحات التي تؤدي إلى المكروهات، ثم إلى المحرمات، وعصيان الرحمن.

واجتنب كثرة الضحك؛ فإن الضحك يميت القلب، واحذر كثرة الخلطة؛ فإن كثرتها تضيع عليك الأوقات التي هي رأس مالك في هذه الدار التي يجب أن تعمر أوقاتك فيها بكل ما ينفعك عند الله. وأمسك لسانك عن الآفات اللسانية التي وقع فيها أكثر الناس، فإذا مات القلب فما فائدة الطاعة؟


كن دائمًا محافظاً على ما افترض الله عليك من الطاعات، وخصوصاً الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، وبر الوالدين، وليكن شعارك دائماً: فعل الطاعات، والبعد عن المنكرات، والصبر على أقدار الله؛ تكن من أهل النعيم الدنيوي، الذي يجعلك تسارع إلى النعيم الأخروي.

واحرص علي زيارة المقابر كي تتذكر ساعة الرحيل، وصلِّ على جنائز المسلمين، وشارك في دفنهم، فلك من الأجر قيراطان كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث:«مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ» رواه البخاري ومسلم.



احرص أن لا يفوتك شئ من الخير؛ فأيامك معدودة، وأنفاسك محدودة، ولا تدري متى الرحيل إلى الآخرة.


أخي في الله اسأل الله القبول وحسن الختام، فالأعمال بالخواتيم، ولا يدري العبد كيف تكون خاتمته، وإنما الأعمال بالقبول، فالله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين} [المائدة:27]. فهل أنت من المتقين؟

كن دائمًا قدوة للآخرين، وذلك لا يكون إلا بإقتدائك بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومتابعتك له، لكي يقتدي بك الآخرون، وإياك والتعصب لأحد سواه، واعلم أنك علي طريق الأنبياء والمرسلين، فكن عزيز النفس، فأنت الأعلى بإيمانك.

أخي..
هل تريد أن يحبك الله، فيحبك بعد ذلك جبريل والملائكة، ويوضع لك القبول في الأرض، فتكون محبوباً عند الناس؟ أخي في الله، هذه أسباب جالبة لمحبة الله لك، فاحرص عليها؛ لعله يحبك، فتكون من المنعمين في الدنيا والآخرة:

-قراءة القرآن بتدبر وتفهم لمعانيه، وما أريد منها، ولا يكن همك نهاية الآية.

-التقرب إلى الله بالنوافل في الليل والنهار بعد الفرائض، فيقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» رواه البخاري .

-دوام ذكره على كل حال: باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبك من المحبة على قدر نصيبك من هذا الذكر.

-إيثار محابه جلا وعلا على محابك عند غلبات الهوى، والمسارعة إلى محابه وإن صعب المرتقى.

-مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ أحبه لا محالة، فتتأمل في أسمائه، وتؤمن بآثارها وأركانها، واقتبس النور منها في حياتك.

-مشاهدة بره وإحسانه، ونعمه الباطنة والظاهرة؛ فإنها داعية إلى محبته، فكلما تذكرت بره وإحسانه بك وبخلقه وتفكرت في آياته ونعمه؛ تزداد محبة له جل وعلا.

-انكسار قلبك بكليته بين يدي الله تعالى.

-الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم اختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

-مجالسة المحبين الصادقين، وتنتقي أطيب ثمرات كلامهم كما تنتقي أطيب الفواكه والطعام، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك، ومنفعة لغيرك.

-مباعدة كل سبب يحول بين قلبك وبين الله، وملاك ذلك كله أمران: استعداد روحك لهذا الشأن، وانفتاح عين بصيرتك.


أسأل الله لي وللمسلمين العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص لله في ذلك، وصلى الله وسلم علي نبي الغرباء محمد، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

المصدر: من رسالة: "وصية غريب" للشيخ/ عبد الواحد بن عبد الله المهيدب.