ومضات في تزكية النفس

منذ 2013-08-13

هذه التزكية التي أهملها كثير من الناس حتى بعض أهل الصلاح، وما ذاك إلا أنها تحتاج إلى جهاد كبير، ولا يتوصل إليها الإنسان إلا بعد تضحية عظيمة. وأما غيرها من أمور الدين، فإنها قد لا تحتاج إلى هذا الجهاد، ولذلك فإن كثيرًا من المسلمين يقصِّرون فيها، ليس زهدًا فيها بل تكاسلًا عن المجاهدة لبلوغها.

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:

فهذه محاضرة لموضوع مهم جدًا وهو موضوع التزكية التي امتدح الله تعالى صاحبها بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9]. وذم المعرض عنها بقوله: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 10]. هذه التزكية التي أهملها كثير من الناس حتى بعض أهل الصلاح، وما ذاك إلا أنها تحتاج إلى جهاد كبير، ولا يتوصل إليها الإنسان إلا بعد تضحية عظيمة. وأما غيرها من أمور الدين، فإنها قد لا تحتاج إلى هذا الجهاد، ولذلك فإن كثيرًا من المسلمين يقصِّرون فيها، ليس زهدًا فيها بل تكاسلًا عن المجاهدة لبلوغها، ولذلك أحببت أن أنشر هذه الرسالة، والتي كانت بالأصل محاضرة في مدينة جدة، لتكون تذكيرًا لي ولإخواني بأهمية هذا الموضوع الكبير، ومن أراد الاستزادة، فهناك العديد من الكتب والرسائل، ومن أوسعها كتاب (منهج الإسلام في تزكية النفس) للدكتور/ أنس كرزون، والذي استفدت منه في جمع مادة هذه الرسالة.

أهمية تزكية النفس وخطر إهمالها:
ممَّا يدل على أهميتها: أن الله تعالى نسب تزكية النفوس إلى نفسه؛ حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49]. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها» (صحيح مسلم). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة يقول: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا» (صحيح الألباني).

وممَّا يدل على أهميتها: أنَّ الله عز وجل نسبها تارةً أخرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من وظائفه الأولى، قال الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]. ومما يدل على أهميتها: أن الفلاح جزاء من زكَّى نفسه، وأن الخَيْبة جزاء من أهملها. قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا.وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7- 10].

ومما يدل على أهميتها: ما جاء في الحديث الصحيح على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من فعلهنَّ فقد ذاق طعم الإيمان: مَنْ عبدَ الله عز وجل وحده وأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة مالهِ طيبةً بها نفسه رافدةً عليه في كل عام وزكَّى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس فقال صلى الله عليه وسلم: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان". وهي بهذا المعنى أعلى مراتب الدين وهو الإحسان. ففي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاء جبريل عليه السلام وسأله عن الإسلام، ثم الإيمان، ثم قال: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (صحيح البخاري).

وصحَّ عن حصين بن عبيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا؟، قال: سبعةً، ستًا في الأرض، وواحدًا في السماء. قال: فأيُّهُم تُعِدُ لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: يا حصين، أما إنَّك لو أسلمت عَلَّمتك كلمتين تنفعانِك قالَ: فلمَّا أسلم حصينُ قال: يا رسول الله عَلِّمني الكلمتين اللتَين وعدتني، فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شرِّ نفسي» (قال عنه البخاري روي مرسلًا وضعفه الألباني في سنن الترمذي). وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: "اتَّفق السالكون إلى الله تعالى أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، ولا يوصل إليه إلا بعد تركها ومخالفتها والظفر بها".

التوازن والاعتدال في قيادة النفس:
فالناس في قيادة النفس على قسمين: قسم أرخى للنفس قيادتها، وتركها تسير على هواها وما تشتهيه، فأوردته المهالك والخسران في الدنيا والآخرة. قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: "الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه، فملكته وأهلكته، وصار طَوْعًا لها تحت أوامرها، وقسم ظفروا بنفوسهم، فقهروها، فصارت طوعًا لهم منقادة لأوامرهم. قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم، فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك. قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37- 41].

وأما من ملك نفسه وغلبها؛ فصارت منقادة له ومنهم من بالغ في قهرها حتى ظلمها، كمن يعاقب نفسه على المعاصي بإهلاك نفسه أو جزءً منها، فقد حدث أن رجلًا من بني إسرائيل حوَّل رحله لينزل إلى امرأة، ففكر وقال: ماذا أردت أن تصنع؟ فلما أراد أن يعيد رحله قال: هيهات! رحل خرجت إلى معصية الله لا ترجع معي، فتركها حتى تقطَّعت بالمطر والرياح، وآخر نظر إلى امرأة، فلطم عينه حتى بُقرت، فهذا كلُّه خطأ وجهل. وفي ذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "رُبّ شدٍّ أوجب استرخاءً، ورُبَّ مضيِّق على نفسه فرَّت منه، فصعب عليه تلافيها، وإنَّما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو من العافية، ويُذَوِّب في المرارة قليلًا من الحلاوة، فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها ولا يهمل مقودها، بل ليرخي لها في وقت، والطول بيده، فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها، فإذا رآها قد مالت ردّها باللطف، فإذا وَنتْ وأَبتْ فبالعنف".

وهنا لا بأس من الإشارة إلى المعاقبة المحمودة والمذمومة. فالعقوبة المذمومة هي: معاقبة النفس بما يؤدي إلى ضرر بالجسم أو إيذاء له، مثل الامتناع عن الطعام، وتعذيب عضو من الجسد كما ذكرنا. وأما العقوبة المحمودة: فهي إلزام النفس بشيء يشقُّ عليها فعله ويترتب على ذلك الفعل أجرٌ. كأن يكون عملًا صالحًا؛ مثل الصدقة والصيام أو قيام ساعات من الليل أو الذكر ونحو ذلك. ودليل ذلك ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج ذات يوم إلى بستان له وانشغل به ففاتته صلاة الجماعة عصرًا، فتصدَّق بذلك البستان كله. والمنهج القويم هو: الاعتدال والتوسط. وقد قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء رضي الله عنهما: "إنَّ لربك عليك حقًا، وإنَّ لأهلك عليك حقًا، وإنَّ لنفسك عليك حقًا، فأعْطِ كلَّ ذي حق حقَّه"، فقال صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان» (صحيح البخاري).

وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلُنا بالموعظة مخافة السآمة علينا". أي: أنه يراعي الأوقات في تذكيرهم وموعظتهم، ولا يفعل ذلك كل يوم لئلا يملوا، والضابط في ذلك الحاجة مع مراعاة وجود النشاط. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبِّي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الدِّين يُسْرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقَارِبُوا وأبْشروا واستعينوا بالَغدْوة والرَّوْحة وشيء من الدُلجة، والقصْدَ القصْدَ تبلغوا» (صحيح البخاري والقصْدَ القصْدَ تبلغوا وهذه زيادة). أي: استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون وتبلغون مقصودكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح في غيرها حتى يصل إلى مقصوده بغير تعب. وحديث الثلاثة الذين جاؤوا يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تَقَالّوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».

محاسبة النفس:
محاسبة النفس هي واحدة من الأساليب العملية في تزكية النفس، والتي منها: العلم النافع، والعمل الصالح، وصحبة الصالحين، والزواج، والتفكر في المخلوقات، وتذكر الموت وأهوال القيامة، والترغيب والترهيب. وهي النظر والتأمل فيما عمل المسلم من أعمال، وما قدم من خير أو شر مع النظر في النية والقصد وحساب الربح والخسائر. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]. قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: "هذه الآية تدل على وجوب محاسبة النفس". وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادِكُم وعرضِكُم على ربِّكُم".

وقد جاء في الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني» (حسنه الترمذي). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة: 18]". وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: "لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه، ماذا أردتِ تعملين؟ وماذا أردتِ تأكلين؟ وماذا أردتِ تشربين؟ والفاجر يمضي قُدُمًا قُدُمًا لا يحاسب نفسه". وعنه أيضًا: "أن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة همه".

وقال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون لنفسه محاسبًا محاسبة الشريك لشريكه"، ولهذا قيل: "النفس كالشريك الخوّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك". وروى أحمد عن وهب قال: "مكتوب في حكم داود عليه السلام: حقٌّ على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويَصْدُقُونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل، فإنَّ هذه الساعة عونًا على تلك الساعات وإجمامًا للقلوب". وقال مالك بن دينار: "رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمَّها، ثَّم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائدًا".

ومحاسبة النفس نوعان:
نوع قبل العمل: وهو أن يقف عند أوَّل هِّمه وإرادته، ولا يبادر العمل حتى يتبيَّن له رجحانه على تركه. قال الحسن: "رحم الله عبدًا وقف عند هِّمه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخَّر"، وله مراتب:

1- أن يسأل نفسه: هل هو مقدور عليه؟
2- أن يسأل نفسه: هل فعله خير أم شر له؟
3- أن يسأل نفسه: هل يريد به وجه الله عز وجل أولًا؟

والنوع الثاني محاسبة بعد العمل: ولها مراتب:
1- محاسبتها على فعل الفرائض.
2- محاسبتها على ترك المناهي.
3- محاسبتها على الغَفَلات.

فرأس المال لشركة النفس والتي تضم الروح والجسد والعقل والقلب رأس مالها الفرائض. وربحها الطاعات والقربات، وخسارتها الذنوب والمعاصي. وأفضل أوقات المحاسبة عندما يريد النوم يقوم بمحاسبتها؛ لأنه يحصي على نفسه أعمال يومه ليعرف الربح من الخسارة، فهذه محاسبة يومية. وهناك محاسبة أسبوعية في آخر الأسبوع، وقت الراحة والاستجمام. وهناك محاسبة سنوية عند نهاية العام يراجع فيها نفسه. قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن أنفعها أن يجلس الرجل عندما يريد النوم ساعة، يحاسب فيها نفسه على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدِّد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مُسْتَقْبلًا للعمل مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فات".

ومما يساعد على صفاء الذهن ساعة المحاسبة أن يخلو وحده. قال مسروق رحمه الله تعالى: "إن المرء لحقيقٌ أن يكون له مجالس يخلو فيها، يتذكر ذنوبه ويستغفر منها". ومما يرغب في محاسبة النفس: تذكر الحساب الأكبر. قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26]، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» (صححه الألباني).

والناس مع الحساب أصناف:
1- صنف يدخلون الجنة بغير حساب؛ ففي الصحيحين: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين لا يسترقون، ولا يتطيَّرون، ولا يكتوون، وعلى ربِّهم يتوكلون».

2- وصنف يحاسبون حسابًا عسيرًا؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 21]. وفي صحيح البخاري ومسلم: «من نُوقش الحساب عُذِّب».

مجاهدة النفس:
قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78]. قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: "قيل: عُني به جهاد الكفار. وقيل: هو إشارةٌ إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ أي: جاهدوا أنفسكم في طاعة الله، وردّوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في ردّ وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في ردّ كفرهم". وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العَنْكَبوتِ: 69]. قال الحافظ ابن القيم: "علَّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا. وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سُبُلَ رضاه الموصلة إلى الجنة".

وقال النبِّي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل» (صححه الألباني). قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: "النفس جَبَلٌ عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز وجل، وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل، فلا بَّد أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاق عليه، ومنهم من هو سهل عليه، وإنه ليسير على من يسَّره الله عليه، وفي ذلك الجبل أوديةٌ وشعاب ولصوصٌ يقطعون على السائرين، فإذا لم يكن معهم عُدَدَ الإيمان ومصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات، وإلا تعلَّقت بهم الموانع وتشبثت بهم تلك القواطع، وحالت بينهم وبين السير، فإنَّ أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته، والشيطان على قمة ذلك الجبل يحذِّر الناس من صعوده وارتفاعه ويخوِّفهم منه، وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتَّد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه، فإذا قطعه وبلغ قمته انقلبت تلك المخاوف كلهنَّ أمنًا، وحينئذ يسهل السير، وتزول عنه عوارض الطريق ومشقة عقباتها، ويرى طريقًا واسعًا آمنًا يفضي به إلى المنازل والمناهل، فبين العبد وبين السعادة والفلاح قوة عزيمة وصبر ساعة وشجاعة نفس وثبات قلب".

الحالات التي تنتهي إليها معركة المجاهدة مع النفس:
الحالة الأولى: تغلُّب داعي الدين على داعي الهوى.
الحالة الثانية: تغلُّب الهوى على داعي الدين.
الحالة الثالثة: أن تكون الحرب سِجَالًا، فتارةُ، يغلب هذا وتارة يغلب ذاك، وهذه حال أكثر المؤمنين الذين خَلَطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا.

طريق المجاهدة:
1. المداومة على العمل الصالح.
2. البعد عن مواطن المعاصي.
3. التدُّرج في مجاهدة النفس.
4. معاقبة النفس.
5. ترويح النفس.

أحوال النفوس:
1- النفس الأمارة بالسوء: وهي المذمومة؛ لأنها تأمر صاحبها بكل سوء إلا إنْ عصمه الله تعالى. قال الله عز وجل عنها: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يُوسُفَ: 53]. فالوصف الأول: أنها أمّارة، أي: كثيرة الأمر لا تمل ولا تتعب. والوصف الثاني: أنها أمّارة بكلِّ سوء من الأقوال والأفعال والنيات. والوصف الثالث: إلا ما رحم ربي؛ {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأَعْرَافِ: 156].

2- النفس اللوامة: ومن رحمة الله أن النفس ترتقي إلى حالة تعود فيها إلى فطرتها النقيَّة، وهي النفس اللوامة، ولذلك أقسم الله بها. قال عز وجل: {وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القِيامَةِ: 2]. قال سعيد بن جبير: "قلت لابن عباس: ما اللوامة قال: هي النفس اللؤم". وقال مجاهد: "هي التي تُندّم على ما فات وتلوم عليه".

3- النفس المطمئنة: وهي أعلى درجات النفس، فهي التي اطمأنت بطاعتها لله وسلَّمت بوعده، ورضيت بقضائه، وتوكَّلت عليه وذاقت حلاوة الإيمان. قال الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفَجْرِ: 27- 30]. والمطمئنة: المصدِّقة المطمئنة إلى ما وعد الله، الراضية بقضاء الله. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "المطمئنة: المصدقة". وعن قتادة قال: "هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله". وعن مجاهد قال: "هي النفس الراضية بقضاء الله التي علمت أنَّ ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وما أصابها لم يكن ليخطئها". قال الحافظ ابن القيم: "النفس قد تكون تارةً أمارة، وتارةً لوامة، وتارةً مطمئنة، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل فيها هذا، وإنَّ الحكم للغالب عليها من أحوالها". وقال الحافظ ابن القيم: "أما النفس الأمارة فالشيطان قرينها وصاحبها، فهو يَعدُها ويمنّيها ويقذف فيها الباطل، ويأمرها بالسوء، ويزيِّنه ويمدها بأنواع الإمداد والباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة، ويستعين عليها بهواها وإرادتها، فمنه يدخل عليها كل مكروه".

قال الله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البَقَرَةِ: 268]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ للشيطان لمَّةً بابن آدم وإن للملك لمَّة، فأما لمَّة الشيطان، فإيعادٌ بالشرِّ، وتكذيب بالحق، وأما لمّةُ الملك فإيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنَّه من الله، وليحمد الله، ومن وجد الآخر فليتعَّوذ بالله من الشيطان الرجيم» (صححه الألباني). وهكذا يتبين أهمية تزكية النفس ومجاهدتها حتى ينال العبد السعادة في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل.

اللَّهُمَّ آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خيرُ مَن زكّاها، أنت وليُّها ومولاها.. والحمد لله رب العالمين.

 

عبد الله بن علي بصفر

هو الدكتور والشيخ الورع القارئ المعروف للقرآن الكريم وإمام أحد المساجد في مدينة جدة