السعي في فكاك الأسرى

منذ 2006-06-21

الحمد لله الذي بيده ملكوت كل شيء, يجير ولا يُجار عليه, وصلى الله علىمحمد خير خلق الله, وأكرم العباد لديه, وعلى آله وأصحابه الغرِّ الميامين, الذين أطاعوه وما قدموا بين يديه، أما بعد..


قال الله تعالى{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَالأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}, بمثلهذه الآية يتجلَّد المسلمون من الأسرى والمحبوسين في سجون الكافرينوأشياعهم, كما ويتصبّر بها أهلوهم وذووهم, وكلٌ منهم مبكي، فالمأسورونأسوتهم النبي الكريم يوسف سجين البغي والعدوان, والأهلون قدوتهم صاحبالصبر الجميل يعقوب عليهما السلام.


إنّ فاجعة الأسر شيء لا بدَّ منه فيكثير من ملاحم المسلمين مع الكافرين, وهو من جملة ما يمحِّص الله تعالى بهعباده المجاهدين, قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْلِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَوَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. والإثبات هو الحبسوالأسر, وهو أشد المصائب على النفوس الأبيَّة, التي لا تقبل ضيماً ولاذلة, بخلاف طرفي الأمر في جهاد الأعداء: النصر أو الشهادة فهما حُسنيان, كما قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَىالْحُسْنَيَيْنِ }. وذلك كله من قدر الله بعباده الدعاة والمجاهدين, كماكان علي رضي الله عنه ينشد وهو يخوض المعارك:

أيَّ يوميَّ من الموت أفر.......يـــوم لا يقــــدر أم يــوم قَدَر
يــــوم لا يقـــدر لا أحذره.......ومن المقدور لا ينجي الحَذر


إنّ الأسر إذا حاق بمسلم وجب على المسلمين السعي إلى تخليصه بكل سبيل شرعي, وشأنٌ كهذا أوضح من أن يحتاج إلى فتوى شرعية, أو يتوقف على دراسة فقهيَّة, ولكن لا بأس من التأكيد على هذه المسؤولية العظيمة, حتى ينهض جميعالمسلمين بأعبائها, ويقدروها حق قدرها.

أولاً: الأدلة القرآنية والحديثية العامة التي ترمي إلى نصرة المسلم لإخوانه:
كقوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}وما هذه النصرة إلا واجب من واجبات آصرة الديانة كما قال سبحانه: {إِنَّهَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون} فالمسلمون أمة واحدة دون الناس يسعى بذمتهم أدناهم, وتلك النصرة أيضاًمن واجبات الإخوة الإيمانية، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَإِخْوَةٌ }.

 

 ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما« أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخْذُلُه ولا يحقره»، قال أهل العلم: الخذل: ترك الإعانة والنصر, ومعناهإذا استنصر به في دفع السوء ونحوه لزمه إعانته إذا أمكن ولم يكن له عذرشرعي. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمطلق نصرة المسلم فقال: « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: يا رسول الله, أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه»


ثم الويل لمن تقاعس عن مدِّ يدالنصرة إلى مسلم وهو قادر, قال عليه الصلاة والسلام: «ما من امرئ مسلم يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه؛ إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته, وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه, وتنتهك فيه حرمته؛ إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته» رواه أبو داود من حديث جابر وأبي طلحة.

 

 وهل فينا من يملك الضمان -علىالدهر المتقلب المملوء بالفواجع- من أن تخطفه يدٌ غيلةً؟ أو تنزل بساحتهقارعة؟ إنّ المسلم إذا تخاذل عن نجدة إخوانه في الواقعة الواحدة, والحادثةالفذة فإنّ ربه له بالمرصاد ويخذله في أحلك ما سيلقى, ويدعه إلى نفسهالضعيفة تستغيث ولات حين مغيث. أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة عن سهيل عنأبيه  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أذل عنده مؤمن فلم ينصره, وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة»

ثانياً : ثمة أدلة تتعلق بهذا الحكم خصوصاً -وهو وجوب فك أسرى المسلمين- ومن ذلكأنّ الله تعالى أمر بالقتال لتخليص ضعفة المسلمين, وأسارى المسلمين لهم فيالحكم تبع، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِاللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِوَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِالْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَوَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً}, قال القرطبي: "وتخليص الأسارى واجب على جميع المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال, وذلكأوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها, قال مالك: واجب على الناس أنيُفْدوا الأسارى بجميع أموالهم, وهذا لا خلاف فيه".


 
وعن أبي موسىالأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكوا العاني ـ يعني الأسير ـ وأطعموا الجائع وعودوا المريض», وفي الصحيح أيضاً عن أبيحجيفة قال: قلت لعلي رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين, هل عنكم من الوحيشيء؟" قال: "لا والذي فلق الحية وبرأ النسمة, إلا فهماً يعطيه الله عز وجلرجلاً وما في هذه الصحيفة"، قلت: "وما في هذه الصحيفة؟" قال: "العقل،وفكاك الأسير, ولا يقتل مسلم بكافر".


وإنّ في السيرة العملية لعبراًتؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في فك الأسارى ومن ذلك القيام بالفداء،  عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم فدى رجلاًبرجلين، وكان من ديدنه عليه الصلاة والسلام نصرة الأسرى بسهام الدعاءالتي لا تخطئ أبداً, كما في الصحيح  عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيصلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة, اللهم أنج سلمة بن هشام, اللهم أنج الوليد بن الوليد, اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين, اللهم اشدد وطأتك على مضر, اللهم اجعلها سنين كسني يوسف»


قال ابن العربي المالكي: "إلا أن يكونواأسراء مستضعفين: فإنّ الولاية معهم قائمة, والنصرة لهم واجبة بالبدن بألاّيبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم. إن كان عدواناًَ يحتمل ذلك, أونبذل جميع أموالنا في استخراجهم, حتى لا يبقى لأحد درهم, كذلك قال مالكوجميع العلماء, فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حلَّ بالخلق في تركهمإخوانهم في أمر العدو, وبأيديهم خزائن الأموال, وفضول الأحوال, والعدةوالعدد, والقوة والجلد" [أحكام القرآن:440/2]


قال شيخ الإسلام ابنتيمية رحمه الله: "فكاك الأسارى من أعظم الواجبات, وبذل المال الموقوفوغيره في ذلك من أعظم القربات" [الفتاوى 635/28]

إنّ قضية أسارىالمسلمين اليوم لدى الدولة الصليبية الأولى, وما في سجون اليهود فيفلسطين, ومن في غيابات الجب من الدعاة في سجون الطغاة الجاثمين على صدورالمسلمين أمر يؤرق كل مسلم أبيٍّ غيور, ويقضُّ مضجعه, ولكن الحزن وحده لايجدي، وإظهار الأسى لحالهم فحسب لا يكفي.

 

بل لا بدّ من تحرك عملي لنجدتهم, وتخليصهم من أسر عدوهم, فعلى التجار والميسورين أن يبذلوا أموالهم, ولايجوز لهم أن يضنوا بها عليهم, وعلى ذوي الجاه والمناصب أن يسعوا بسلطانهم. وعلى أهل العلم والدعوة القيام تحريضاً وتبصيراً بحقوق الأسرى بلسانهم،وعلى أهل الإعلام والصحافة أن يناضلوا بمدادهم وأقلامهم, وأقترح عليهمإنشاء موقع يخصُّ هؤلاء الأسرى على شبكة المعلومات الإلكترونية, يتناولأحوالهم وما آلت إليه أمورهم في كل مكان, على أن يكون هذا الموقع "ربطاًدائماً" يلتحق بكل موضوع إسلامي.

فاللهم فك أسر إخواننا منالمجاهدين والدعاة في كل أرضك, وردهم إلينا سالمين, غير خزايا ولا ندامىولا مكلومين, وابطش اللهم بأعدائنا, وخالف بين كلمتهم، واكسر غرورهم, واجعل ما يمكرون به في الليل والنهار مرتداً إلى نحورهم. آمين

محمد عبد الكريم

قارئ متقن و ذو صوت عذب، من أصل سوداني