تمييع القضايا العقائدية فتنة دائمة وشر محدق

منذ 2013-08-31

الإسلام من الزاوية الفكرية لا يتبنى سوى الحسم الواضح في التفرقة بين الفكرة الإسلامية وبين ما سواها من الأفكار، فلم يترك مساحة ضبابية أو فارغة يعبث فيها العابثون ليلبسوا على الناس منهجهم أو نظرتهم للمخالفين، ولم يضطر الفكر الإسلامي يوما للتعلل بأسباب الضعف المادي لأفراده في المهادنة الفكرية مع خصومهم، بل أعلنت منذ اللحظة الأولى تباين الفكرة الإسلامية مع ما سواها من الأفكار حتى في أقصى وأقسى لحظات الضعف البشري للمسلمين.

 

واجه المسلمون مشكلات متعددة وتعرضوا لأزمات كثيرة، ولم يألموا بتحزب الأحزاب ولا باجتماع قوى الباطل عليهم مقدار ما أثر فيهم المساس بالفكر الإسلامي، وتضييع أو ميوعة فهمه في نفوس أتباعه، فالإسلام من الزاوية الفكرية لا يتبنى سوى الحسم الواضح في التفرقة بين الفكرة الإسلامية وبين ما سواها من الأفكار، فلم يترك مساحة ضبابية أو فارغة يعبث فيها العابثون ليلبسوا على الناس منهجهم أو نظرتهم للمخالفين، ولم يضطر الفكر الإسلامي يوما للتعلل بأسباب الضعف المادي لأفراده في المهادنة الفكرية مع خصومهم، بل أعلنت منذ اللحظة الأولى تباين الفكرة الإسلامية مع ما سواها من الأفكار حتى في أقصى وأقسى لحظات الضعف البشري للمسلمين.

ولقد جسد هذه المفاصلةَ العقائدية رفضُ النبي صلى الله عليه وسلم بحسم إلهي واضح للعرض الذي عرضه عليه أهل مكة وهم أهل القوة حينئذ وهو وحيد ليس معه إلا القلة من الضعفاء كما قال ابن عباس: "أَن قُريْشًا قَالَت: لَو استلمت آلِهَتنَا لعبدنا إلهك فَأنْزل الله: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} الكافرون كلهَا". وأثبتها النبي صلى الله عليه وسلم دوما أنه ليس بتارك هذا الأمر أبدا، ولن يتنازل عن قول الحق في المخالفين ولن يضطره ظرف طارئ ولا عذر قاهر على أن يخفي شيئا من عقيدته أو يسكت عن بيان مخالف، أو أن يظهر مهادنة في دينه، فقد جاءوه في مكة في أوائل البعثة كما جاء عن عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: «جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يُؤْذِينَا فِي نَادِينَا وَفِي مَجْلِسِنَا، فَانْهَهُ عَنْ أَذَانَا، فَقَالَ لِي: يَا عَقِيلُ ائْتِ مُحَمَّدًا، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَأَخْرَجْتُهُ مِنْ جِلْسٍ، قَالَ طَلْحَةُ: نَبْتٌ صَغِيرَةٌ فَجَاءَ فِي الظَّهْرِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، فَجَعَلَ يَطْلُبُ الْفَيْءَ يَمْشِي فِيهِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ الرَّمْضَاءِ فَأَتَيْنَاهُمْ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّ بَنِي عَمِّكَ زَعَمُوا إِنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَفِي مَجْلِسِهِمْ فَانْتَهِ عَنْ ذَلِكَ، فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ ؟، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تُشْغَلُوا مِنْهَا شُغْلَةً، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: مَا كَذَّبْنَا ابْنَ أَخِي قَطُّ فَارْجِعُوا» [1].

ألم تكن الظروف المحيطة بالنبي صلى الله عليه وسلم داعية إلى أن يترك تبيين الحق في آلهتهم ولو قليلا لينشغل بتربية أصحابه ليحافظ عليهم من خوف إفنائهم كما يزعم كثير ممن ينعتون أنفسهم بالعقلاء والمصلحين من المعاصرين ممن يصطلحون على مصطلحات بعيدة كثيرا عن الفهم الإسلامي الصحيح لقضية المفاصلة العقائدية؟ وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فعل ما هو أشد منه في المدينة عندما هاجر إليها، فماذا يفترض من مهاجر بنفسه وبثلة معه إلى المدينة في مشهد ضعف بشري مثلما يطلق عليه الآن باللجوء السياسي. فلقد ذهب إلى المدينة وفيها مشركوها الذين لم يدخلوا في الإسلام وفيها من أبناء العقائد الأخرى مثل اليهود، فجاء القرآن الكريم مبينا لهم في سور مدنية عقائد المشركين وفساد معبوداتهم أيضا، فلم يهادن مشركي المدينة ولم يترك تبيان العقيدة الصافية للإسلام، ونزل القرآن المدني أيضا مبينا فضائح اليهود مع أنبيائهم ومخازيهم في علاقتهم بربهم، وكتمانهم لشرائع ربهم وتحريفهم وتزييفهم للكتاب الذي أنزل عليه، رغم أنهم كانوا يمثلون قوة عسكرية لا يستهان بها وقتئذ مقسمة على ثلاثة قبائل.

وفعل النبي صلى الله عليه وسلم بعدئذ ما هو أكبر منها، حينما أرسل رسله إلى الملوك والحكام والسلاطين للدول المحيطة ممن يعرفها، فأرسل لهرقل الروم ولكسرى الفرس ولعظيم بصرى ولنجاشي الحبشة ولمقوقس مصر ولملك البحرين ولغيرهم وهو تصرف لا ينبع إلا من عقيدة صادقة نقية صافية لا تعرف التلون ولا المداهنة، فراسلهم بأن ما هم عليه من عقيدة باطل وأنه يدعوهم إلى الحق الذي بعثه الله به ولم يأبه باستعداء الدنيا عليه، فقد أراد أن يعلن لملوك الأرض جميعا نقاء هذه العقيدة وعدم النظر مطلقا لعوامل القوة والضعف في نشرها وتبيانها، فلم يراسلهم بالحرب ولا بإعلانها ولكن راسلهم بتبيان الحق ومفاصلته عن الباطل..

ومشكلة كثير من المسلمين الفكرية اليوم تنبع من ضعف داخلي لا من ضعف خارجي، ضعف يستحون فيه من نعت غير المسلمين بما وصفهم الله به. فيستحي بعض المسلمين ومنهم العلماء والدعاة والوعاظ من نعت النصارى العابدين لعيسى بن مريم بالكفر وهم الذين قال الله فيهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73]، وقال عن أهل الكتاب جميعا: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» [2].

وإن من أشد آثار هذه الأزمة الفاصلة في مصر نموذجا هو ما يحدث مع النصارى فيها، حيث يختلط البعد العقائدي مع البعد الاجتماعي، ويتحرج الكثيرون من إظهار المفاصلة العقائدية خشية من تبعاتها الاجتماعية وآثارها السياسية، وهناك من الجاهلين المتصدرين للمشهد الإسلامي هناك من يخلط بينهما فيضيع المفاصلة العقائدية إرضاء للاجتماعية أو السياسية، ووجدنا العلمانيين الذي لا يعلمون عن الإسلام إلا قليلا ويتصدون للحديث باسمه في المحافل يتحدثون عن بابا النصارى السابق عند موته أحاديث يضعونه فيها في جانب المرضي عنهم عند الله، ويدلسون على العامة لأنهم لا يعلمون شيئا عن آيات الله وأحاديث رسوله أو يكذبون عليهما. ومن آثارها اليوم ما نراه من موالاة الكثيرين للنصارى في أي شيء يتعرضون له ومن ادعائهم بأنهم يمثلون الإسلامي الحقيقي ويغترون بتصفيق وتهليل النصارى لهم ونسوا أو تناسوا قول الله سبحانه: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

ولا تمنع هذه المفاصلة العقائدية من حسن المعاملة السياسية والاجتماعية مع غير المسلمين من يهود أو نصارى أو حتى ملاحدة، ولكن حسن المعاملة هذا لابد وأن يحاط بسياج (لكم دينكم ولي دين)، فلا تمييع ولا مداراة، فالنبي قد عقد معهم -مشركين ويهود- الأحلاف السياسية والعقود الاجتماعية وراعاها والتزم بها وألزم أتباعه باحترامها ما داموا على وفائهم بها، ولم يحاربهم ويجليهم إلا عندما نقضوها كعادتهم. فليس معنى المفاصلة العقائدية أن يعيش المسلم معاديا ومحاربا لمن حوله، فمطلع سورة الممتحنة واضح جدا في ذلك في حادث حاطب رضي الله عنه، فلا حرب ولا خصومة إلا بأسبابها ما دام الجميع ملتزما بحدوده لا يتعداها إلى خارجها، أما التعامل الحسن وإكرام الجار والعدل مع الجميع من أساسيات أخلاقيات الإسلام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

أما الخائفون من المفاصلة والمرجفون يخلطون بينهما ويتحرجون من إبدائها، ولو كان بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل مثل ما يفعلون، ألسنا نقول جميعا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا وأسوتنا؟!

[1] مستدرك الحاكم وذكره الألباني في الأحاديث الصحيحة رقم 92.
[2] في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
 

 

يحيى البوليني