المحتل.... المختل

منذ 2006-07-17

 

قصة البريئة المغتصبة "عبير" جمدت الدموع في المآقي، فالأمر ليس مصيبة عابرة، ولكنه إعلان دائم بالنواح على مصير أمة تم اغتصابها، وآية النهاية لهذه الأمة أن تعجز عن الفعل الصحيح، فإما ألا تفعل شيئاً أو تفعل الخطأ، وقد عصم الله أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من الاجتماع على الخطأ، سواء كان توقفاً عن العمل أو كان فعلاً لما لا تقتضيه الشريعة. وإذا وصلت الأمة إلى قاع الفشل والخيبة، فهذا مؤذن بإذن الله ببداية جديدة.

 

لا أقول هذا تعزية لنفوس آلمتها الجراح، ولكني أقرؤه سنة إلهية، وناموساً جارياً، وأرى مبادئه في الأرواح المؤمنة التي التهبت مشاعرها، والعقول الحية التي تتفتح للحياة، وتتطلع للإبداع، والألسنة الصادقة التي تتلو أعذب المواعيد، وإن كان صخب الباطل يحاول إفسادها أو تأجيلها، بيد أن قوارع الوعد الرباني تزجره {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18]، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81]، {قل جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سـبأ:49].. إنها السنن!

 

ونحن وإن كنا نشهد في مجريات الأحداث المتعلقة بالاستحواذ الأمريكي على العالم الإسلامي، والتحالف العقدي بين الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني، نشهد بوادر وعد الله بكشف زيفهم ومخادعاتهم، وتعرية شعاراتهم بحرب الإرهاب، ونشر الحرية والديمقراطية والعدالة من خلال ما نطقت به ألسنتهم وأجهزة تصويرهم وهو لا يعدو أن يكون قمة الجبل الجليدي لسلسة من جرائم العنف والسطو والاغتصاب والسرقة، وإهانة المقدسات، والإطاحة بالقيم والأخلاق الإنسانية..

 

وما خفي أعظم..

والتاريخ لا يرحم..

 

وسيأتي اليوم الذي يحاكم فيه زعماء الإجرام في هذه الحلبة ويدانون، وأقول: "إن شاء الله" تحقيقاً لا تعليقاً، فهو آت لا محالة في هذه الدنيا، أما محاكم الآخرة فشيء مختلف، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. وإن ميوعة القضاء الأمريكي أمام أحداث جسام كهذه الجرائم البشعة المتكررة في العراق، والتي لم تحاكمها الإدارة، وإنما حاكمتها أجهزة الإعلام الحرة الموفقة التي فضحتها، وأحرجت تجار الحرب الأمريكيين في تسترهم وصمتهم..

 

إن هذه الميوعة في مواجهة جرائم موثقة في العراق و غوانتانامو وأفغانستان، يقابلها قهر وإسراف في محاكمة مسلمين بتهم ملفقة أو زائفة أو ضعيفة، كما حدث للكثير من الطلبة السعوديين الذين حوكموا ويحاكمون هذه الأيام بغير عدالة، ومنهم أخونا الأستاذ حميدان التركي -فكّ الله أسره- والمسلمون قالوا ولازالوا: على الاحتلال الغاشم أن يرحل بغير انتظار، وإلا فليتحمل المزيد من الخسائر والفضائح، وقالوا ولازالوا: القصة لا تتعلق برحيل المحتل فحسب، بل بانكماش القبضة الأمريكية وتراجعها وانكفائها لصالح قوى جديدة!

 

وها هنا موطن العبرة...

فما هذه القوى الجديدة التي سنشهد حضورها؟

 

يتحدث العالم عن "التصيّن" كظاهرة اقتصادية أولاً، وسياسية ثانياً، وهو حديث له اعتباره، فالمسلمون مطالبون بتنويع العلاقة والانفتاح الجاد مع هذه القوى المؤثرة وفق مصالحهم الخاصة، فليس مطلوباً منا أن نتواصل مع الصين حتى نعوق تحالفها مع إيران؛ لأن هذا ما تريده أمريكا، بل نتواصل معها لننتفع بقدراتها التصنيعية والاقتصادية والعسكرية.

 

إن استفراد الأمريكان بالدور العالمي كان وبالاً على العالم، وعلى المسلمين خاصة، وهو لم يكن استفراداً تاماً، بقدر ما كان تهيئة وتحضيراً لبروز قوى جديدة تحفظ التوازن وهذه سنة الله، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251]، { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40].

 

وعلينا معشر المسلمين أن نستعد لمرحلة قادمة من التدافع بين قوى عالمية، وأن نحفظ للأمريكان مواقفهم من قضايانا العادلة، وعلى رأسها القضية الأم "فلسطين"، والانحياز السافر للإرهاب الإسرائيلي ضد الحق الإسلامي..

يجب أن تكون هذه إحدى المحددات الأساسية للسياسة الإسلامية القادمة.. ولا مناص لنا من ضرورة السعي الدائم في بناء الذات.. فليس صدفة أن نكون دائماً في موقع المظلوم المعتدى عليه، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود:101].

 

لن يكون العالم الإسلامي معذوراً أمام محكمة التاريخ، ثم أمام محكمة الآخرة حين يظل متخلفاً لا يملك إلا البكاء والعويل والصياح على حالات اغتصاب للأرض، وانتهاك للعرض، وسرقة مفضوحة للثروات باسم أنظمة التجارة العالمية..

 

لن يكون المسلمون معذورين؛ لأنهم يملكون أن يكونوا أفضل مما هم عليه بكثير، فلديهم الثروات الضخمة، والعقول المبدعة، والتجربة التاريخية، وكل شيء يمكن أن يباع ويشترى، الأسلحة، والأسرار العلمية، والخبرات البشرية، بل والمواقف..

فهل نردد مع المتشائمين:

 

لَقَد أَسمَعت لَو نادَيت حَيــــاً            وَلَكن لا حَياةَ لِمَــن تُنادي

وَلَو ناراً نفخت بِها أَضاءَت            وَلَكن أَنتَ تَنفخ في رَماد!

 

أو نلتقط خيط التفاؤل من لجة اليأس ونحدو:

 

سنصدع هذا الليل يوماً ونلتقــي            مع الفجر يمحو كلّ داجٍ وغاسـق

ونمضي على الأيام عزما مجدداً            ونبـلغ ما نرجوه رغم العوائـــــق

فيعلو بنا حق علونا بفضـلـــــــه            على باطل رغم الظواهر زاهــــق

ونصنع بالإسلام دنيا كريمـــــــةً            وننشر نور الله في كل شــــــارق

 

إن صرخات المعذبين في فلسطين، وأنين المقهورين في العراق هي دمدمة العقاب الرباني على الفاعلين المجرمين، ولن ينجو من هذا العقاب من يقدرون ويسمعون ثم يسكتون، وكأن الأمر لا يعنيهم، أو كأنهم لا يقدرون أن يصنعوا شيئاً!

 

لسنا نطلب المحال، ولا ننتظر المفاجآت بغير سياقها، بل نطلب الممكن المقدور عليه، وهو تكليف رباني، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].

 

نطلب تدخلاً عربياً جريئاً في العراق وفي فلسطين، وإن سخطت الإدارة الأمريكية والإدارة الإسرائيلية فهما في حالة احتلال، واختلال، ومصيرهم بإذن الله إلى زوال وإن كانوا لا يفقهون الأمثال، يقول الله جل جلاله: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ . وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ . وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ . فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم:44-47].

سلمان بن فهد العودة

الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-