صراع الهوية (1)

منذ 2013-10-05

لا نُبالِغ إذا قلنا أن أحد أسباب ضعف الأمة في العصور الأخيرة هو هذا الصراع الخفي والمعلن الدائب الذي لم ينقطع بين تيارين رئيسيين، تيار التغريب والعلمانية والليبرالية وتيار التشبث بالهوية العربية الإسلامية وبالحضارة الإسلامية ليكون للأمة انتماءٌ، ووجهة تُولِّيها، وبوصلة تُرشِدها، فالفضاءات العربية اليوم ليست خالصة لثقافة موحّدة، فالقيم متضاربة والمرجعيات الفكرية ليست هي ذاتها في كل المناطق، وثقافة غير متجانسة.


لا نُبالِغ إذا قلنا أن أحد أسباب ضعف الأمة في العصور الأخيرة هو هذا الصراع الخفي والمعلن الدائب الذي لم ينقطع بين تيارين رئيسيين، تيار التغريب والعلمانية والليبرالية وتيار التشبث بالهوية العربية الإسلامية وبالحضارة الإسلامية ليكون للأمة انتماءٌ، ووجهة تُولِّيها، وبوصلة تُرشِدها، فالفضاءات العربية اليوم ليست خالصة لثقافة موحّدة، فالقيم متضاربة والمرجعيات الفكرية ليست هي ذاتها في كل المناطق، وثقافة غير متجانسة.

إن محاولة إبراز وتضخيم المشكلات التي يُسمّونها الأقليات والانتماءات والهويات الصغيرة هل هذا يؤدي إلى مجتمع متماسك يقوى على الاستمرار والبناء، لقد وجدت الانتماءات العرقية والدينية والقبلية في الحضارة اللاسلامية ولكن هذا التعدد المجتمعي كان مسوقاً لخدمة هدف أكبر وهو الأمة، نحن لا نتحدث عن الانتماء الطبيعي (مصري، عراقي)؛ ولكن عن الانتماء الحضاري الثقافي، يكون أو لايكون، المشكلة أعمق من مشكلة سياسية -وإن كانت قريبة منها- أو من مشكلة اقتصادية، إنها مشكلة أناسٌ يرفضون الهوية الحقيقية، ويبحثون عن مثل يقتدون به عند أمم أخرى يجعلون التقليد مبتغاهم، والحقيقة أنهم يجرون وراء أشياء قد تركها (المقلَّد) لأن من طبيعة التقليد هي البطء في التحرك.

هل تعيش أمة دون هوية، وهل يمكن أن تتجرّد الأمة عن الدين عقيدة ونظام حياة؟

وهل تتجاهل قضايا مثل المنشأ والمصير والغايات والأهداف؟

إن تجاهل الدين لا يفرز إلا رؤوساً فارغة، ليس لها هم إلا الاستهلاك والحرص على أي حياة، لقد فشلت كل المشاريع التغريبية والشعوبية في إنجاز أي مهمةٍ كبيرة؛ لأنها كانت تستبطن (وتظهر) العداوة للدين، يكتب (جون لوك) وهو سياسي وفيلسوف بريطاني في القرن السابع عشر: "ينبغي على الحاكم ألا يتساهل مع الملحدين لأنه لا أمان لمن لا يؤمن بالله".

وإذا كان تجمُّع بعض الأمم على أساس جغرافي أو سياسي؛ فإن التجمُّع على أساس الدين هو أولى بالاعتبار، لأنه تجمُّع على الجانب الذي به كان الإنسان إنساناً، وليس على أساس مادي، وإذا كانت الثورة في سوريا تطالب بالحرية فلا يمكن أن يكون الثمن هو التخلي عن الهوية وقد منَّ الله سبحانه وتعالى على العرب بهذا الدين وهذا الكتاب: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]؛ أي: "فيه شرفكم وذكركم إلى آخر الدهر"، كما يقول المفسِّر ابن عطية.

نتحدّث عن الإسلام الصحيح "ونرفض التفريط والتبسيط تحت شعار ما يُسمّونه التسامح الذي يعني عند بعض النخب الإسلامية المستلبة التنازل عن الأصول والتخلي عن المعقول في سبيل إرضاء الأطراف التي تجس نبض المسلمين برفع شعار التسامح إلى درجة قبول الأذية في الدين"، وما يقال عن إصلاح (الخطاب الديني) يعني أن يكون هذا الخطاب مسالِماً لا مقاوماً يريدون "إسلام (سياحي) براجماتي" بتعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري.

يقول اللورد (ماكولي) عام 1835م: "لقد سافرتُ في الهند طولاً وعرضاً، لم أر شخصاً يتسوّل أو يسرِق، يتمتع أهل هذا البلد بقيم أخلاقية عالية. إنني أرى أننا لن نهزم هذا الأمة إلا بكسر عمودها الفقري، وهو تراثها الروحي والثقافي، لذا اقترح أن يأتي نظام تعليمي جديد يحل محل القديم، وعندما يبدأ الهنود يعتقدون أن كل ماهو أجنبي وإنكليزي هو أحسن مما هو محلي فإنهم سيفقدون احترامهم لأنفسهم".

وقد جاء في صحيح البخاري عن طارق بن شهاب أن اليهود قالت لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنكم تقرأون آيةً لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً"، يعنون قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة من الآية:3]، فإذا كانت أمة من المناوئين للإسلام والحاسدين لأهله قالوا في آية واحدة أنها لو نزلت فيهم لاتخذوها عيداً فكيف يكون الأمر إذا نظرنا إلى القرآن العظيم بجملته؟!

والعروبة كجزء من الهوية هي اللغة، ليست عنصرية قومية، هي حاملة ميراثناً ومن ثقافة الأمة الإسلامية وحضارتها، هي الأصل الذي لا يمكن أن ينفصل عن ديننا وهي لغة القرآن الكريم المستودع لسرّ الثقافة الإسلامية وأنها ليست عربية الإقليم ولكنها عربية الشخصية المعنوية، والتغيير يكون بالتجديد والإصلاح والاجتهاد وليس بالتنازل عن الهوية، فحبة القمح قد تُنْتِج قمحاً أجود وأفضل ولكنه يبقى قمحاً، ونواة التمر تُنْتِج شجرة التمر ولا تُنْتِج شيئاً آخر (تفاح مثلاً) هذه الهوية وهذا الكيان لا يعدل عنه، ولا عن جزء فيه لأنه يؤدي إلى خلخلة الهوية، فالإسلام هو المعيار للحكم وليس هو المحكوم.

العربية هي اللسان كما جاء في الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي" (الحديث حكم عليه المُحِّدث الألباني بأنه ضعيف جداً، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، حديث رقم: [926]).

وهذه اللغة الشريفة تعلمها واجب على كل مسلم قادر على ذلك، مادام فهم الكتاب والسنة متوقفاً عليها، والرد على القومية العربية المتعالية لا يكون بإنشاء قوميات شعوبية، بل بالرجوع إلى الأصل، والركن الركين هو الإسلام، والأسماء اللامعة في التاريخ الإسلامي مثل طارق بن زياد، ونور الدين، وصلاح الدين، والظاهر بيبرس، إنما برزوا بالإسلام وباحتضان الشعوب العربية الإسلامية لهم ولم يتميزوا عن جمهور الأمة بلغة أو ثقافة، فالإنتماء عقدي حضاري، كانت الهوية واضحة عند علماء الجزائر فالشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله أعلنها صريحة أن الجزائر عربية إسلامية، مع أن الشيخ ينحدر من أعرق الأسر الأمازيغية في الشمال الأفريقي.

ألم يقل (جيسكار ديستان) رئيس فرنسا السابق: "إن أوروبا مسيحية" رداً على من يريد إدخال تركيا في الاتحاد الأوروبي، فهل نُتّهم بالتعصُّب إذا قلنا أن هوية الأمة هي الإسلام، وقد عاشت كل الأعراق في ظله وتعلّمت اللغة العربية.

نحن بحاجة في هذا الظروف أن نتحصن بقوة اليقين فيما نحن مقبلون عليه، نحن بحاجة لأن ندرس بصدقٍ وإخلاصٍ وتجرُّدٍ ودون تعالُمٍ وتشامخ كيف تبنى الأمم، وسنن الله في ذلك، وندرس كل خطوة والتي تليها، لا أن نبقى متنابذين مختلفين لا نستقر على قرار.


 

محمد العبدة

رئيس تحرير مجلة البيان الإسلامية سابقًا وله العديد من الدراسات الشرعية والتاريخية.