مشروع العمر
قارن معي بين هاتين الصورتين: ولد زيد وعاش ستين سنة ثم مات، وولد همام وعاش ستين سنة وترك خيرًا كثيرًا، ترك علماً ينتفع به، ترك صدقة جارية، ترك أولاداً صالحين مصلحين، ترك مشاريع نافعة، وأعمالاً مفيدة. فأي الصورتين أحب إليك؟
أيها الأخ الفاضل: قارن معي بين هاتين الصورتين:
ولد زيد وعاش ستين سنة ثم مات، وولد همام وعاش ستين سنة وترك خيرًا كثيرًا، ترك علماً ينتفع به، ترك صدقة جارية، ترك أولاداً صالحين مصلحين، ترك مشاريع نافعة، وأعمالاً مفيدة.
فأي الصورتين أحب إليك؟
وأي الرجلين تريد أن تكون؟
لقد عاشا عمرًا واحدًا، ولكن الأعمال فرّقت بينهما، كما بين الأرض والسماء، هذا دخل في الدنيا وخرج كما يدخل ويخرج الملايين من البشر، وهو صفر على الشمال، لا أثر له في مجتمعه، فهَمُّه الأكبر، وشغله الشاغل كانت مصالح نفسه، شرابه وطعامه، ولباسه ومركبه، ورواحه وغدوه في هذه الحياة الفاتنة الساحرة.
ما كان يفكر في هدف أسمى، وغاية عظمى، وأما همام فهو على اسمه أبت نفسه الكريمة، ألا أن يضع لمساته على هذه الحياة، ويكون له أثره الكبير في واقع الأمة، فهو يعمل جاهدًا لتحقيق هدفه في الحياة، فقد كان له مشروع سمّاه مشروع العمر يسعى بحسب طاقته ليحققه على أرض الواقع، يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى ومرضاته، ولعله أن يكون سببًا لإصلاح أوضاع الأمة، ولو في جانب من جوانب حياتها.
أيها الأخوة الأكارم:
إن من المفترض على كل مسلم أن يكون له مشروع أو مشاريع يحققها، ويسعى لإيجادها على أرض الواقع حتى تكتب في صحائف أعماله يوم يلقى الله تعالى بأن فلان ابن فلان قام بهذه الأعمال العظيمة، والمشاريع الكبيرة، ولعلي أعرض لكم نماذج من القدوات التي أبت ألا أن تحقق في واقع الأمة شيئاً، وألا يكونوا كغيرهم من الناس فإذا بهم يصممون على أهداف معينة، ويخططون لتحقيق مآرب عظيمة، فدعونا أيها الأحبة في الله نحلق في سماء تاريخنا العظيم لنطالع على طرف من هؤلاء العظماء الذين ما ولدوا عظماء، ولم يمتازوا عن غيرهم بذكاء أو دهاء، ولكن هي الهمم والأهداف الشماء، ووضوح الرؤيا لديهم، والتصميم على العمل، جعلتهم يحلقون في سماء العظماء، فيا ترى مع من تكون أول رحلتنا؟
إنها مع البطل المغوار، والفارس الضرغام، الذي أخذ على نفسه العهد والميثاق ألا يقر له قرار ولا يهدأ له بال، حتى تتم غايته، ويحقق هدفه، إنه الأسد صلاح الدين الأيوبي، الذي جعل هدفه الذي جنَّد له كافة طاقته، وجمع له كامل أفكاره، كيف يُحرِّر الأقصى من النصارى الغاصبين؟
كيف يخلص أرض الإسراء من عصبة الصليبيين؟
كيف يُطهِّر مسرى الأنبياء من النصارى المعتدين؟ الذين ارتكبوا مجازر شتى، وفتكوا بالمسلمين، لقد فكر صلاح الدين وخطط، ثم نفّذ ما كان يخطط، فجمع شمل الأمة، ووحّد صفها، وقضى على النحل الباطلة، والدول المشبوهة، حتى إذا تمكن من هذه الخطوة العظيمة.
طار في الناس أن صلاح الدين عازم على فتح بيت المقدس، فقصده العلماء والصالحون تطوعاً، فاجتمع له من عباد الله ومن الجيوش الشيء الكثير، فاستعان بالله تعالى فحاصر بيت المقدس حصاراً شديداً حتى فتحها الله تعالى له، ويسّر الله تعالى على يده هذا الفتح العظيم الذي جعل اسم صلاح الدين على كل لسان، ويدعو له كل إنسان، ويترحّم عليه أهل الإسلام والإيمان.
أيها المسلمون:
ومن صلاح الدين وفتح بيت المقدس، إلى القرن التاسع لننظر إلى شخصية من شخصياته البارزة إنه فاتح القسطنطينية، الذي لم يتجاوز عمره الرابعةَ والعشرين، لقد استطاع هذا الشاب أن يحقق ما لم يحققه من قبله، فقد حاول المسلمون فتحها إحدى عشرة مرة، ولم يحصل لهم شرف فتح هذه المدينة، فقام محمد الفاتح بعمل الترتيبات،وأحضر كل ما يلزم لهدم الأسوار الشاهقة، فصنع المدافع الكبيرة، وحاصر المدينة برًا وبحرًا، حتى تمكن من فتحها والدخول فيها، فرحمه الله، لقد حقق مشروع العمر، وأي مشروع أعظم من هذا المشروع؟
وبعد أن عرضت لكم نموذجين من نماذج الجهاد وفتح الآفاق، ننتقل لنعرض لكم نموذجاً آخر في مجال الدعاة إلى الله تعالى، وهو الداعية المبارك الذي شاء الله أن يطيب له المقام في منطقة جازان، فيحط هناك رحله ثم لا يرفعه إلا بعد ثلاثين أو ما يقارب ذلك من السنوات السِّمان.
إنه الشيخ المبارك عبدالله القرعاوي رحمه الله، الذي رأى في تلك المنطقة من رواسب الجاهلية، وعالم الشعوذة والخرافة، ما أقض مضجعه، فرأى أن من الواجب إصلاح أوضاع هؤلاء المساكين، فاستقر في صامطة وفتح فيها حانوتاً ليتمكن من خلاله تحقيق أفكاره، ويوثق الصلة بأهل تلك البلدة، فكان ما أراد.
فكان يستقبل الناس ببشاشة، ويؤنسهم بطرائفه، ويبيعهم حاجاتهم بأرخص الأثمان، بل ربما بأرخص من ثمنها الأصلي، وهو إلى ذلك لا يضيق عليهم في التسديد، بل يعاملهم بما يناسب حالهم، وهكذا استمر الشيخ على هذه الحال حتى تعرف على شيخ كبير من أهل الخير مقعد فكان له جماعة يترددون عليه لينتفعوا من علمه، فسرعان ما التحق بهم، وجعل يشاركهم، وقد مكن له في حلقتهم نشاطه في خدمتهم، وإكرامه إياهم ببعض الهدايا الصغيرة بين الحين والحين، ثم ما يرونه من اهتمامه بما يسمع من ذلك الخير.
وأُتِيح للشيخ مناسبات للمشاركة في تفسير بعض العبارات الفقهية بصورة لفتت انتباه القوم، ولا سيما شيخ الحلقة الذي لا حظ في الجليس الجديد أكثر من ظاهره، فجعل يخصه بالتكريم، حتى انتهى فيهم إلى المكانة التي هو أهل لها، فرضوه مدرساً لهم، واقبلوا عليه يغرفون مما عنده، وأقبل هو عليهم بكل ما يستطيع من رعاية وتوجيه وتسديد، وكلما استوثق من قدرة أحدهم على تبليغ بعض الحقائق دفع به إلى ناحية من المنطقة ليصحح ما التوى، ويقوم ما اعوج، ضمن حدود طاقته، وتحقيقاً لوظيفة المؤمن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهداية الضال، فكان ذلك طليعة الزحف المقدس على جيوش الأوهام والانحرافات، ذلك الزحف الذي ما زال يتسع ويمتد حتى تجاوز حدود المملكة إلى ما جاورها من اليمن.
قارن بين هذا العمل العظيم الذي قدّمه هذا الداعية المبارك، وما خلّفه بعد وفاته، وبين رجل آخر جعل الدنيا أكبر همه، فليله ونهاره يكدح من أجلها، ويسعى من أجل حطامها، ثم ماذا بعد ذلك؟ وضع في قبره فأصبح نسياً منسيًا، أمواله أُكِلَت، وزوجاته تزوجن.
وليس مشروع العمر قاصرًا على الرجال فحسب بل حتى النساء لابد أن يكون لهن مشاريع سامية، وأهداف عالية، هذه أم الأمام أحمد رحمهما الله تعالى، أي مشروع قدمته للأمة حينما ربّت ابنها على طلب العلم حتى أصبح إمام أهل زمانه؟
لقد كانت تعتني به وتُخرِجَه قبل صلاة الفجر لأداء الصلاة وليشهد مجالس الذكر وهو لم يتجاوز السابعة من عمره، أليس إنجازًا عظيمًا إيجاد عالم رباني ينفع الأمة بعلمه ومواقفه؟
كم من الأجور العظيمة نالتها تلك الأم الصالحة؟
كم من الخير العميم قدّمته هذه الأم المؤمنة؟
فهل تعي النساء ذلك؟
وهل تفقه أمهات هذا الجيل ما أهمية تربية الأبناء؟
إذن هيا بنا نعمل، كلٌّ في مجاله وتخصصه وقدراته التي وهبه الله تعالى إياها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
أيها الفضلاء:
سير المصلحين والمجددين والذين لهم أثر في تاريخ الأمة كثيرة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بنفسه:
ما المشاريع الذي تهدف أنت إلى تحقيقها وإيجادها على أرض الوجود؟
وما المشروع الذي تُسخِّر له كافة طاقاتك وجهودك؟
ما المشروع الذي تريد أن يخلد في صحيفة عملك بعد وفاتك؟
هل فكرت في هذا الأمر أم أنك تريد أن تعيش في هذه الحياة سبهللا؟
إن دينك العظيم يربي فيك أن تكون صاحب أهداف في هذه الحياة، فلقد علمك دينك أن الهدف من وجودك في هذا الكون هو عبادة الله تعالى وعمارة الأرض: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فإذا كان دينك يستحثك على أن تكون لك أهداف؛ فلماذا لا تحدد لك هدفًا ساميًا تسعى لتحقيقه مع من تراه مناسباً لهذا العمل الذي تقصده؟
واعلم يا أخي أن هذه حياتك! أرجو أن تفهّم هذه الكلمة جيداً! هذه حياتك!
جاهد بكل ما أوتيت من قوة أن تقضي حياتك في أمر هام للغاية، ولذا شاور من تراه أهلاً للمشاورة في هذه الغاية، وذاك الهدف، واستخر الله تعالى فيه، لأن القضية قضية عمر وليست قضية حادثة ثم تنتهي بعد يومين أو ثلاثة، بل عمرك كله سيفنى في سبيل الوصول لهذا الهدف فهل مشروعك يستحق حياتك وعمرك؟ إذن فكر جيدًا في هذا الموضوع.
أيها الفضلاء:
كلنا يرجو أن يكون من أمثال أولئك العظماء، ولكن هل ينفع الرجاء بلا عمل؟ هل تنفع الأماني دون سهر الليالي؟
كما قال القائل:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ولعلي أعرض لكم نماذج من المشاريع التي يمكن أن يسعى الإنسان لتحقيقها:
من تلك المشاريع: تربية الأولاد تربية صالحة، إن من الممكن أن يقضي الإنسان عمره كله من أجل أن يوجد للأمة أولاداً يكون منهم العالم الرباني، والمجاهد في سبيل الله المتفاني، فأي خدمة للأمة قدمها؟ وأي نفع أهداه للمجتمعات؟
ومن تلك المشاريع: إقامة مؤسسة للإنترنت تكون بمثابة الرابط بين المواقع الإسلامية، ويكون لديها موقع من خلاله تنشر رسالة الإسلام بكافة اللغات الحية، وهذا المشروع عندي له دراسة بقي من يدعم هذا المشروع ويتبناه؟
ومن تلك المشاريع أيضاً إنشاء مستشفى للنساء، تكون فيه بنات المسلمين سواءً كن عاملات أو مراجعات في مأمن من الاختلاط بالرجال، والحاجة إلى هذا المشروع ماسة جداً فرحم الله رجلاً جعل أكبر همّه السعي للمطالبة وإقامة هذا المشروع العظيم.
ومن تلك المشاريع أيضاً إقامة محاضن تربوية للتائب الجديد، فإن التائب الجديد إذا لم يجد من يتولى رعايته وتوجيه، فإنه سيتراجع خاصةً في مثل هذا الزمان الذي كثرت فيه المغريات، وتنوعت فيه الشهوات فنسأل الله تعالى الثبات حتى الممات.
ومن تلك المشاريع أيضًا: إقامة منتزهات في أماكن السياحة بحيث يفصل الرجال عن النساء، ويكون فيها برامج مفيدة للحضور، بدلاً من تلك المنتزهات المختلطة، والمجتمع بحاجةٍ لمثل هذا المشروع، لأن المحافظ على أسرته أين يُخرج أهله؟
إن خرج للأماكن القريبة وجد كثرة الناس التي تمنعه وأهله من أن يأخذ راحته وأنسه، وإن ذهب للمنتزهات القائمة وجد الاختلاط الفاحش بشكلٍ في بعض الأحيان مقزز.
ومن تلك المشاريع أيضًا: إقامة جمعيات نسائية تعتني بالمرأة، وتهتم بقضاياها، وتفتح أمامها آفاق الخير، وتتعلم فيها ما يسد حاجتها، وينفعها في دينها ودنياها كأن تتعلم ما تحتاجه في بيتها من الإسعافات الأولية، وكيف تربي طفلها، وتتعامل مع زوجها.
ومن تلك المشاريع: مشروع الاستفادة من الشريط الإسلامي المستعمل، فكلنا عنده من الأشرطة ما ضاقت به مكتبته وهو في غنى عنها، فتجمع هذه الأشرطة ثم تفرز وتغلف من جديد وتوزع هنا أو في خارج البلاد.
ومن المشاريع النافعة: وضع أوقاف خيرية للأعمال الدعوية، كوقف لكفالة الدعاة إلى الله في الداخل أو الخارج، وآخر لنشر الكتاب والشريط الإسلامي، وآخر لنشر المجلات الإسلامية، والوقف خيره دائم، ونفعه عظيم.
أيها الأخوة الأكارم:
المشاريع كثيرة، وما عندكم من أفكار أكثر وأكثر، ولكن حسبي من هذه الإشارات أن أفتح بعض الآفاق لعل الله أن يبارك في الجهود، ولابد أن أُؤكد على قضية مهمة وهي الاهتمام بالمشاريع الإعلامية، لأن لها من التأثير ما لا يخفى على أمثالكم، وأوصي أصحاب الأموال الذين أعطاهم الله تعالى فسحة في أموالهم أن يُسخِّروا هذه الأموال في نصرة دينهم، إنني أعلم أنكم تنفقون وتجودون هنا وهناك وأسأل الله أن يبارك في أموالكم.ز
ولكن يا حبذا أن يكون لك هدف عظيم تسعى لإيجاده يكون هو محور نشاطك وتُسخِّر له معظم طاقتك، ولا يخفى عليكم يا أهل الخير والإحسان أن بعض أصحاب الأموال من الصوفية والرافضة وغيرهم سخروا أموالهم لتمرير ما يريدون، ونشر أفكارهم الساقطة، ومناهجهم الضالة، ألا يليق بتجار أهل السنة أن يكونوا خيراً منهم لنصرة دينهم، ونشر سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم
إذن أخي الكريم:
أرجو أن تأخذ قلماً وورقة، وقل: على سبيل الافتراض عشت ستين سنة، فماذا تريد أن يكتب في مآثرك التي خلدتها؟ حاول أن تكتبها أنت بنفسك، هل تجد شيئاً؟ إذن راجع حساباتك، وجاء وقت العمل، قبل أن يحل الأجل.
اللهم يا حي يا قيوم، اللهم وفقنا لنفع عبادك، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشرّ، اللهم اجعلنا مبادرين للخيرات، مسارعين لفعل الطاعات، اللهم اجعلنا مباركين أينما كنا وفي أي أرض حللنا يا ربّ العالمين.
محمد بن عبد الله الهبدان
إمام و خطيب جامع العز بن عبدالسلام في الرياض
- التصنيف:
- المصدر: