موقف السنهوري من تطبيق الشريعة وتقنينها

منذ 2013-10-10

عبد الرزاق أحمد السنهوري، أبرز الشخصيات القانونية التي أخذت على عاتقها مهمة سنّ التقنينات الوضعية في البلاد العربية، إذ سخّر جهده وحياته في سبيل ذلك



 

جهود منهكات مضنيات *** وصلت الليل فيها بالنهار
‍وكنت إذا استبد اليأس يوماً *** أسل عزيمة الأسد المثار)


[4]- (من ذلك قوله في كتابه مصادر الحق في الفقه الإسلامي [1/8]): "لن يكون همنا في هذا البحث إخفاء ما بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي من فروق في الصنعة والأسلوب والتصوير، بل على النقيض من ذلك، سنُعنى بإبراز هذه الفروق حتى يحتفظ الفقه الإسلامي بطابعه الخاص، ولن نحاول أن نصطنع التقريب ما بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي على أسس موهومة أو خاطئة. فإن الفقه الإسلامي نظام قانوني عظيم له صنعة يستقل بها، ويتميز عن سائر النظم القانونية في صياغته، وتقتضي الدقة والأمانة العلمية علينا أن نحتفظ لهذا الفقه الجليل بمقوماته وطابعه، ونحن في هذا أشد حرصاً من بعض الفقهاء المحدثين فيما يؤنس فيهم من ميل إلى تقريب الفقه الإسلامي من الفقه الغربي، ولا يعنينا أن يكون الفقه الإسلامي قريباً من الفقه الغربي، فإن هذا لا يكسب الفقه الإسلامي قوة، بل لعله يبتعد به عن جانب الجدة والابتداع، وهو جانب للفقه الإسلامي منه حظ عظيم").

وقوله في: (صحيفة الإخوان المسلمين العدد: [41]، السنة الرابعة): "الشريعة الإسلامية -بشهادة فقهاء الغرب أنفسهم- تُعد من أكبر الشرائع العالمية، فما بال الغرب يعرف هذا الفضل ونحن ننكره؟! وما بال هذه الكنوز تبقى مغمورة في بطون الكتب الصفراء ونحن في غفلة نتطفل على موائد الغير ونتسقط فضلات طعامهم؟!".

[5]- (على أي أساس يكون تنقيح القانون المدني المصري [2/118]).

ولعل هذا ما يُفسر ترتيب مصادر التشريع المدني الذي أشارت إليه (المادة الأولى) من القانون المدني، حيث نصت على أن: (تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها، فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة)، فقدم نصوصه الوضعية ثم العرف على (مبادئ الشريعة).

وكذلك الأمر بشأن القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951م، حيث نص في مادته الأولى على أن: "تسري النصوص التشريعیة على جمیع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها، فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبیقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامیة الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون دون التقید بمذهب معین، فإذا لم يوجد فبمقتضى قواعد العدالة، وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي أقرها القضاء والفقه في العراق ثم في البلاد الأخرى التي تتقارب قوانینها مع القوانین العراقیة".

ولا يُظن أن تقديم العرف على مبادئ الشريعة الإسلامية يتفق مع أحكامها لما للعرف فيها من اعتبار كمصدر من مصادر الأحكام الشرعية كما يذكر علماء الأصول، فإن العرف لا يُعمل به كمصدر من مصادر التشريع إلا حيث غاب النص من القرآن والسُّنة ولم يكن ثمة إجماع أو قياس صحيح؛ هذا من ناحية، ومن جهة أخرى فإن القانون الوضعي لم يُعرف العرف الذي يجب العمل به، ولم يضع له الضوابط الشرعية التي ذكرها العلماء من جهة اشتراط أن يكون صحيحاً غير مناقض لأحكام الشريعة الثابتة في الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس الصحيح باعتبارها المصادر الشرعية المتفق عليها، وألا يفوت مصلحة معتبرة، وألا يجلب مفسدة راجحة، فعُلم من هذا أن القانون الوضعي يسوي بين العرف الصحيح والعرف الفاسد، وأن كلاهما مقدم على مبادئ الشريعة عند خلو النص القانوني، وهذا مما ينافي أحكام الشريعة بلا ريب ولا خلاف كما هو معلوم.

[6]- (كما زعم الأستاذ الدكتور محمد عمارة في كتابه الدكتور عبد الرزاق السنهوري.. إسلامية الدولة والمدنية والقانون (50).

[7]- (وهو عبد العزيز فهمي حجازي عمر، المعروف بعبد العزيز باشا فهمي، أحد أشهر رجال القانون في مصر، ولد بتاريخ 23 ديسمبر 1870م بقرية (كفر المصيلحة) من أعمال (محافظة المنوفية)، تلقى تعليمه الأول في بلدته، درس أولاً بالأزهر ثم نُقل إلى المدارس النظامية، حيث حصل على الابتدائية ثم الثانوية، ثم التحق بمدرسة (كلية) الحقوق فتخرج منها وحصل على الليسانس عام 1890م، عمل أثناء دراسته بمدرسة الحقوق ترجماً بنظارة الأشغال.

ثم عمل عقب تخرجه معاوناً للإدارة بالدقهلية، ثم كاتباً بمحكمة طنطا، وترقى حتى اختير وكيلاً للمستشار القضائي لوزارة الأوقاف، لكنه استقال عام 1903م حيث عمل بالمحاماة، فاشتهر أمره لما ارتبط بسعد زغلول وانخرط في النشاط السياسي الداعي لإصلاح عمل الحكومة وحصول مصر على استقلالها الكامل.

واختير عام 1920م لوضع مشروع الدستور المصري، وكان ذلك أثناء وجوده في (باريس)، فوضع المشروع على نهج الدساتير الأوروبية، إلا أن سعد زغلول عارضه معترضاً على بعض مواده، وبعد حصول مصر على استقلالها تولى فهمي رئاسة (حزب الأحرار الدستوريين)، وتم ترشيحه في البرلمان باعتباره رئيساً للحزب، ثم تولى وزارة الحقانية (العدل)، ولم يلبث أن أُقيل في سبتمبر 1925م، وفي العام التالي تنازل فهمي عن رئاسة الحزب وتفرغ للعمل، وفي نفس العام رشح فهمي رئيساً لمحكمة الاستئناف، لكنه استقال من رئاسة المحكمة عام 1930م، ليتولى رئاسة محكمة النقض التي أُنشئت في ذات العام، ثم اختتم حياته الوظيفية بالعودة للعمل بمهنة المحاماة، وتوفي عام 1951م.

وقد انخدع به كثير من الناس -لا سيما من القضاة والمتخصصين- وأسرفوا في تعظيمه وتبجيله دون حق، إذ كان من المحاربين للشريعة والداعين إلى إقصاء التشريع من الحكم، وعندما نُشر كتاب: "الإسلام وأصول الحكم"؛ لعلي عبد الرازق، وتصدى العلماء للرد عليه، وقررت هيئة كبار العلماء نزع شهادة العالمية من المؤلف وطرده من الأزهر؛ خرج عبد العزيز فهمي في موقف غريب شاذ، حيث أرسل شيخ الأزهر قرار هيئة كبار العلماء بعزل علي عبد الرازق إلى عبد العزيز فهمي بصفته وزير الحقانية (العدل) وقتئذ، بُغية التصديق على القرار، فما كان من فهمي إلا أن رفض التصديق على القرار ورد قائلاً: "أحضرت هذا الكتاب وقرأته، فلم أجد فيه أدنى فكرة يؤاخذ عليها مؤلفه"، وقال: "ثقل على ذمتي أن أنفذ هذا الحكم الذي هو ذاته باطل لصدوره من هيئة غير مختصة بالقضاء، وفي جريمة الخطأ في الرأي من عالم مسلم يشيد بالإسلام، وكل ما في الأمر أن من يتهمونه يتأولون في أقواله ويولدون منها تهماً ما أنزل الله بها من سلطان".

وقد تصدى للرد على عبد العزيز فهمي وبيان فساد أقواله وأفكاره: الأستاذ الكبير محب الدين الخطيب، والقاضي العلامة أحمد محمد شاكر رحمهما الله).

[8]- (يقصد كتابه: "فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية"، وهو رسالته لنيل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ليون في فرنسا عام 1926م).

[9]- (يقصد الدكتور ضاهر بـ (الدساتير): التقنينات الوضعية بصفة عامة وليس الدساتير الأساسية لنظم الدول السياسية فحسب، بدليل قوله (معظم دساتير الدول العربية)، فالسنهوري لم يضع معظم دساتير نظم هذه الدول السياسية، وإنما وضع معظم تقنيناتها المدنية وبعض التشريعات الخاصة بها فضلاً عن دستور دولة الكويت كما سبق أن بينا، كما أن سياق الكلام بعد ذلك عن القانون المدني المصري يدل على أن الدكتور كامل أراد بلفظ (دساتير): التشريعات والتقنينات بصفة عامة، والله تعالى أعلم).

[10]- (في كتابه: "حصوننا مهددة من داخلها"، وكان من المعاصرين للدكتور عبد الرزاق السنهوري).

[11]- (كان من المعاصرين أيضاً للدكتور السنهوري، يقول رحمه الله: "حين جاء الدكتور عبد الرزاق السنهوري إلى الكويت دخلتُ عليه في مكتبه وقلت له: اتق الله يا دكتور، إن عملك هذا يخالف الشرع، وإنك مسؤول عن تطبيق هذه القوانين في الكويت وفي غيرها"، فكان الرد من الدكتور قائلاً: "حكومة الكويت تريد هذا").

[12]- (في كتابه: رجال اختلف فيهم الرأي من أرسطو إلى لويس عوض).

[13]- (في كتابه: الصراع بين التيارين الديني والعلماني).

[14]- (في كتابه: الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية).

[15]- (في كتابه: نظرات شرعية في فكر منحرف).

[16]- (في كتابه: من طلائع التغريب والتخريب).



المصدر: مجلة البيان العدد 315 ذو القعدة 1434هـ، سبتمبر – أكتوبر 2013م.