أو صديقكم

منذ 2013-10-20

كان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب، فيسأل جاريته كيسه، فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سروراً بذلك، قال الألوسي رحمه الله: "وهذا شيء قد كان إذ الناس ناس والزمان زمان... وأما اليوم فقد طُوي فيما أعلم بساطه، واضمحل -والأمر لله تعالى- فسطاطه، وعفت آثاره، وأفلت أقماره، وصار الصديق اسماً للعدو الذي يخفي عداوته، وينتظر لك حرب الزمان وغايته، فآه ثم آه، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله".

 

يُحكى عن الحسن البصري رحمه الله أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه، وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة، وهم مكبّون عليها يأكلون؛ فتهلّلت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال: هكذا وجدناهم هكذا وجدناهم!! يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب، فيسأل جاريته كيسه، فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سروراً بذلك، قال الألوسي رحمه الله: "وهذا شيء قد كان إذ الناس ناس والزمان زمان... وأما اليوم فقد طُوي فيما أعلم بساطه، واضمحل -والأمر لله تعالى- فسطاطه، وعفت آثاره، وأفلت أقماره، وصار الصديق اسماً للعدو الذي يخفي عداوته، وينتظر لك حرب الزمان وغايته، فآه ثم آه، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله".

الصداقة ينبغي أن تكون خالصة من القلب، متجردة من المغنم، صامدة عند المغرم، ثابتة في البأساء والضراء، وفي الفقر والغنى. الصدق شعارها، والكذب ليس شأنها، بل المقت والإبعاد معه سبيلها، وفاء في الوعود، والتزام عند العهود، صراحة في الخطاب، ووضوح في العتاب، همس عند التعريف بالخطأ، ونقد ثم نصح صادق بعيداً عن الملأ، مع حسن ظن ورحمة ومودة، لا تكدرها الأحداث ولا المواقف.

ولذا نجد أن الله تبارك وتعالى يقرنه مع الأرحام في رفع الحرج أن يأكل الإنسان في بيوت: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61]، أي أو بيوت صديقكم وهو من يصدق في مودتكم، وتصدق في مودته يقع على الواحد والجمع، والمراد به هنا الجمع، وقيل: المفرد، وسر التعبير به دون أصدقائكم الإشارة إلى قلة الأصدقاء حتى قيل:

 

صادُ الصديقِ وكافُ الكيمياءِ معاً *** لا يوجدان فدعْ عن نفسكَ الطمعا


ونُقل عن هشام بن عبد الملك أنه قال: "نِلْتُ ما نِلْتُ حتى الخلافة، وأعوزني صديق لا أحتشم منه"، وقيل: إنه إشارة إلى أن شأن الصداقة رفع الإثنينية، ورفع الحرج في الأكل من بيت الصديق؛ لأنه أرضى بالتبسط وأسرُّ به من كثير من ذوي القرابة، ورُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الصديق أكبر من الوالدين؛ إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات فقالوا: {فَمَا لَنَا مِن شافعين . وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100، 101].

وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ، وقيل لأفلاطون: من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: لا أحب أخي إلاّ إذا كان صديقي. وقد كان السلف: "ينبسطون بأكل أصدقائهم من بيوتهم ولو كانوا غيباً".

الصديق الحق هو الذي تجده عند المصائب والنوائب نعم المعين والناصر لصديقه بعد الله؛ إذا مرض سارع لزيارته، وإن غاب سأل عنه، وإن احتاج إليه لم يتردّد في إعانته، وإن أغناه الله لم يحسده بل غبطه لعله يُرزق مثل رزقه، صادق المشاعر والأحاسيس، إذا قال له إني أحبك في الله لم يكذبه بأفعاله، وإن أبدى إعجابه لا يلغيه بجور مقاله، صديق يحسن الظن بصديقه فلا يتهمه، ولا يفجر في خصومته، ولا يؤذيه فيقلّ رتبة من الكلب يقول مالك بن دينار: الجلوس مع الكلب خيرٌ من الجلوس مع رفيق سوء.

 

كلابُ الناسِ إنْ فكرتَ فيهم *** أضرُّ عليك من كلبِ الكلابِ
لأنّ الكلبَ لا يؤذي صديقاً *** وإن صديقَ هذا في عذابِ
ويأتي حين يأتي في ثيابٍ *** وقد حزمت على رجلٍ مصابِ
فأخزى اللهُ أثواباً عليه *** وأخزى اللهُ ما تحت الثيابِ


كل الأحوال عنده سواء، ليس مقياس الصداقة في نظره النسب أو المال والترف والنعيم أو جمال المنظر وجودة الطعام والشراب؛ كما قال أحدهم:

 

رأيتُ الناسَ لما قلّ مالي *** وأكثرتُ الغَرامةَ ودَّعوني
فلمّا أنْ غنِيتُ وثاب وَفري *** إذا هُمْ -لا أبالَكَ- راجعونيُ


كلا بل يستوي عنده في حال صديقه فقره وغناه، ومرضه وعافيته، وفرحه وترحه، متكيف مع حال صديقه، يعلم ما الذي يغضبه ويفرحه، فيأتي الذي يفرحه ويسره، ويبتعد عن الذي يغضبه ويضره، يناديه بأفضل الأسماء له، وينسبه لنسبه الذي يحبه، ولا يناديه بلقبه الذي يكرهه، ويكنيه بأحب الكُنى إليه، شهامة الرجال عنوان صداقته، وصفاء قلوب الصالحين رمز محبته ومودته، يسأل عنه إن غاب، ويتفقد حاله عند الأصحاب، وإذا تباعدت اللقاءات والمجالس كان الحنين للقائه أقرب باب.

أما الصداقات بين الناس اليوم فأشبه ما تكون بالفارغة من محتواها الحقيقي، لا تُبنى إلاّ على المسمّيات، وتمشي على المجاملات، ويُطلَب بها المصالح والشهوات، إلاّ من رحم ربُّ الأرضِ والسماوات، ومن المؤكد أن هذا النوع من الصداقة تقترب سفينته تدريجياً من الغرق، وتنهك قافلته من التعب، وسينتهي بهم الطريق لا محالة إلى الفشل في أي لحظة مهما طالت المدة؛ ذلك أنها لم تُبْن على الصدق والتجرد والإخلاص، بل بُنيت على المآرب والأطماع فجاءتها الشدائد فمحّصتها:

 

جزى اللهُ الشدائدَ كلَّ خيرٍ *** عرفْتُ بها عدوي من صديقي


قال بعضهم: الإخوان اثنان: فمحافظ عليك عند البلاء، وصديق لك في الرخاء، فاحفظ صديق البلاء، وإياك وصديق العافية؛ فإنه أعدى الأعداء الذي ليس له مصلحة من صداقتك إلاّ ما يملأ به الجيب، ويستر عن نفسه العيب؛ همه هم نفسه يأتيك إذا حلت ببابك السراء، ويجفو عنك إذا ألمت بك الضراء، ويله من صديق أحاطت به الشهوات، واصطادته المآرب والأعطيات، فكان عبداً لها؛ حيثما ارتحلت رحل معها، لا يرقب في صداقتك وصحبتك إلاًّ ولا ذمة.

 

ومن نكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى *** عدواً له ما من صداقته بدُّ


والأسوأ من ذلك كله فجور في الخصومة كأن لم تكن بينك وبينه مودة ولا عشرة ولا صحبه؛ قد أحرقها كلها بكبريت سوء الظن، وتعجل الحكم وقبول الشائعات، فلا اعتذار ولا تجاوز، ولا رحمة، بل تنكُّرٍ لعهدٍ جميل مضى، وانقضى ثم كان الظلم والجور ومعول هدم لصفحات من الود والمحبة تبعث في النفس أملاً وسروراً، فاستبدلت بآهات وندم كأنها جعلت على القلب سوراً، نسأل الله السلامة والعافية.
 

 

طه بن حسين بافضل