الدعاء من أعظم أسباب النصر على الأعداء

منذ 2013-10-29

إن الدعاء من أعظم أسباب النصر على الأعداء، وقد اعتاد الجهلاء والسفهاء أن يهونوا من أمر الدعاء معتقدين أن من يأمر المسلمين بالدعاء على عدوهم يكتفي بالدعاء ولا يأخذ بسائر أسباب النصر من إعداد العدة، والصبر، والثبات وتقوى الله عز وجل..




وقال قولته المشهورة: "أنا أحتسب عند الله نفسي إن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر أصبح وأمسي، ومن حواصل النسور الغبر رمسي، وإن نصرت فما أسعدني وأنا أمسي، ويومي خير من أمسي"، وهجم بمن معه على مقدمة الأعداء، وكان فيها عشرون ألفاً معظمهم من الروس، فأحرز المسلمون عليهم انتصاراً عظيماً، وتمكنوا من أسر معظم قوادهم.

وكان السلطان قد أرسل من قبله وفداً إلى إمبراطور الروم وعرض عليه المصالحة، ولكنه تكبر وطغى ولم يقبل العرض وقال: "هيهات لا هدنة ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فُعل ببلاد الروم"، وجاء في رواية: "لا هدنة إلا ببذل الرِّي"، وهي بلاد شاسعة تحت إمرة المسلمين، فحمى السلطان وشاط، فقال إمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: "إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين".

واجتمع الجيشان يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة (463هـ)، فلما كان وقت الصلاة من يوم الجمعة صلى السلطان بالعسكر ودعا الله تعالى وابتهل وبكى وتضرع، وقال لهم: "نحن مع القوم تحت الناقص، وأريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة التي يدعى فيها لنا وللمسلمين على المنابر، فإما أن أبلغ الغرض وإما أن أمضي شهيداً إلى الجنة، فمن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني، ومن أحب أن ينصرف فليمض مصاحباً، فما هاهنا سلطان يأمر ولا عسكر يؤمر، فإنما أنا اليوم واحد منكم، وغاز معكم، فمن تبعني، ووهب نفسه لله تعالى فله الجنة أو الغنيمة، ومن مضى حقت عليه النار والفضيحة"، فقالوا: "مهما فعلت تبعناك فيه وأعناك عليه"، فبادر ولبس البياض وتحنط استعداداً للموت".

وقال: "إن ُقِتلتُ فهذا كفني"، ثم وقع الزحف بين الطرفين، ونزل السلطان ألب أرسلان عن فرسه، ومرغ وجهه بالتراب، وأظهر الخضوع والبكاء لله تعالى وأكثر من الدعاء، ثم ركب وحمل على الأعداء، وصدق المسلمون القتال وصبروا وصابروا حتى زلزل الله الأعداء وقذف الرعب في قلوبهم، ونصر الله المسلمين عليهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا منهم جموعاً كبيرة، كان على رأسهم ملك الروم نفسه" (دولة السلاجقة؛ للصلابي).

الدعاء للمؤمنين والدعاء على الكافرين في القنوت:

روى البخاري ومسلم في صحيحهما عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ قَالَ: "حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: وَاللَّهِ لأُقَرِّبَنَّ بِكُمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ في الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ الآخِرَةِ وَصَلاَةِ الصُّبْحِ، وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ".

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده: «اللهم ربنا لك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش ابن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف»، يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: «اللهم العن فلانًا وفلانًا»، لأحياء من العرب حتى أنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آلِ عمران:128]".

آفة الدعاء الاستعجال وترك الدعاء:

عن خباب بن الأَرَتِّ رضي الله عنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، أو تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يبعده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»".

فهذا خبّاب رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء بالنصر، هكذا أطلق خباب، وهو يريد النصر الظاهر، برفع العذاب والأذى الذي كانت قريش تصبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته فنقله رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلة أخرى مبيناً له معنى آخر من معاني الانتصار، وهو الثبات على دين الله، وتحمل المشاق والعقبات، حتى لو ذهبت روح المسلم فداء لدينه وعقيدته، ثم يذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر الظاهر وأنه متحقق، ويقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولكنه لا يتحقق إلا بعد الثبات والصبر.

قال الحافظ ابن حجر: "وليس في الحديث تصريح بأنه لم يدع، بل يحتمل أنه دعا، وإنما قال: «قد كان من قبلكم...»، تسلية لهم وإشارة إلى الصبر حتى تنقضي المدة المقدورة، وإلى ذلك الإشارة بقوله في آخر الحديث: «ولكنكم تستعجلون»".

فالمذموم من الحديث هو الاستعجال قبل الأوان وليس طلب النصرة.

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يُعجِّل»، قيل: "وكيف يعجل يا رسول الله"؟ قال: «يقول: قد دعوت الله فلم يستجب الله لي» (رواه ابن ماجة والترمذي، وقال: "حسن صحيح"، وصححه الألباني).

الاستنصار بالضعفاء:

ويستحب أن يستنصر بالضعفاء أي بدعائهم والشفقة عليهم والإحسان إليهم، لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» (صحيح البخاري كتاب السير والجهاد باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب).

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، ويستحب أن يدعو عند لقاء العدو.

وروى الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبر قسمه، منهم البراء بن مالك»، فإن البراء رضي الله عنه لقي زحفًا من المشركين وقد أوجع المشركون في المسلمين فقالوا: "يا براء، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنك لو أقسمت على الله لأبرك، فأقسم على ربك"، فقال: "أقسمتُ عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم"، ثم التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا في المسلمين، فقالوا له: "يا براء أقسم على ربك"، فقال: "أقسمتُ عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك"، فمنحوا أكتافهم وقُتِلَ البراء شهيداً.

فالدعاء من أعظم أسباب النصر على الأعداء؛ لأن المؤمنين يعلمون يقيناً أن النصر بيد الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى ناصرهم على عدوهم متى أخذوا بأسباب النصر، والله المستعان.



جمال المراكبي