من يستفيد من التاريخ
هل هناك دروس من التاريخ كحقائق مسلم بها؟ وهل يَعتبِر الناس من قراءة التاريخ، وهل نستخلص منه ما يوضح أحوالنا الحاضرة أو يحمينا من المفاجآت والتقلبات؟ أم هو كلام يتردد وليس له رصيد من الواقع
هل هناك دروس من التاريخ كحقائق مسلم بها؟ وهل يَعتبِر الناس من قراءة التاريخ، وهل نستخلص منه ما يوضح أحوالنا الحاضرة أو يحمينا من المفاجآت والتقلبات؟ أم هو كلام يتردد وليس له رصيد من الواقع، وكيف يكون الاعتبار ونحن نرى كثيراً من الناس، وكثيراً من الدول والزعماء السياسيين لا يستفيدون من التاريخ، ولا يعتبرون بما وقع لأمثالهم فيما مضى من الزمن، لماذا لم يقرأ الطغاة ما حل بأمثالهم، وكيف قصمهم الله وأكبهم على وجوههم؟ وقد عاش بعضهم في العصر الحديث حياة التشريد وذاقوا مرارة الذل، لماذا لم يتخوفوا مصيراً كمصير أولئك بل استمروا في عنادهم وغيهم سادرين.
لماذا لم يتذكر الخليفة العباسي هارون الرشيد ما جلبته قصة البيعة لاثنين من أولاده من مشكلات قد وقعت لسلفه من بني أمية؟ وفي العصر الحديث هل نظرت الحركات الاسلامية إلى الوراء قليلاً لترى كيف أخطأت حركات مثلها، وكيف استُجرّت الى معارك لا طاقة لها بها، وكيف داست على الألغام التي وضعت لها والأمثلة كثيرة في الماضي والحاضر، ولو قرأت هذه الحركات نظرية ابن خلدون في العصبية لما أقدمت على ما أقدمت عليه.
"ولماذا تقع البشرية مرةً تلو مرة في المصيدة ذاتها، هل يحملون مخزوناً هائلاً من الغباء؟" كما يقول السياسي الروماني (كاتو) هل هذا يعني أن لا فائدة تذكر مما يُسمّى (دروس التاريخ) لأن الحوادث لا تتشابه والناس لا يعتبرون، ذلك لأنهم يعيشون يومهم ولا يهتمون بالماضي، هذا ما يراه الفيلسوف الألماني (هيغل) عندما يقول: "وما تعلمنا إياه الخبرة والتاريخ هو أن الشعوب والحكومات لم تتعلم أبداً أي شيء من التاريخ".
القرآن الكريم حل هذا الإشكال حين يقول إن الذي يَعتبر بالأحداث هم أولوا الألباب وأولوا الأبصار، قال تعالى عن يهود بني النضير: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار} [الحشر من الآية:2]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}.
وقد قص القرآن الكريم قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أقوامهم، وما حل بالذين بطروا معيشتهم وكفروا بأنعم الله، ليتفكر الناس ويتدبروا ويعلموا عواقب الكفر والاستكبار، والآيات القرآنية تعقب دائماً: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} [غافر من الآية:82]، وقال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54]، وقد احتج المتأخر من الرسل على قومه بما وقع للمتقدم وقوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ۚ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89].
وقال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف من الآية:176]، وقد طلب القرآن الكريم من كفار قريش أن يعتبروا بما يشاهدون من آثار الأمم التي كفرت بأنعم الله {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصّافت:137-138]، وقال تعالى بعد أن ذكر هلاك عاد وثمود وفرعون حيث قال: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة:12].
يقول المفسر ابن عطية: "ثم أحالهم في علم ذلك على الطلب في الأرض واستقراء الأمم والوقوف على عواقب الكافرين".
ويقول ابن تيمية: "إن الله لم يقص علينا في القران قصة أحد إلا لنعتبر بها، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأولها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه فيما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون الكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين؟
كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ} [يوسف من الآية:111]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة من الآية:5]، أي أن هناك منظومة من الأحداث تتكرر بين الماضي والمستقبل، وهناك علاقة بين التاريخ والسنن {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرِمِينَ} [النمل:69]، سنة عامة مطردة إن المجرمين سينالهم العقاب بطريقة ما، ولكن الطغاة لا يعتبرون، لأن الطرق سُدّت عليهم عقوبة لهم بسبب ظلمهم، فالأحداث ليست مفاجأة، بل هناك بداية ونهاية وهناك غاية.
إن النظر في العواقب يعتبره القرآن من السنن الاجتماعية الكونية التي تدل على صحة التفكير وسلامة المنهج، فالاعتبار والنظر لأحداث الماضي لمعرفة المستقبل منهج صحيح ولكن الذي يتدبر وينظر ويقارن ويحاول معرفة أسباب الحوادث هم الذين وصفوا بأنهم {أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} و{أُولُو الْأَلْبَابِ}، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:36-37]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر:4].
فالذين لا يستخدمون ما وهبهم الله سبحانه وتعالى ليتفكروا ويعقلوا السنن الاجتماعية لا يستفيدون من التاريخ، لأن أجهزة التلقي وأحدها هو الفؤاد معطل عند هؤلاء وأما أصحاب القلوب السليمة والعقول الراجحة فهم الذين يقفون على سير الدول والأمم وعلى عواقب الكفر والظلم والفساد ويعلمون أن ما وقع لغيرهم قد يقع عليهم، وسنة الله في هؤلاء وهؤلاء واحدة، {أَكُفَّاركُمْ خَيْر مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَة فِي الزُّبُر} [القمر:43]، {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران:13].
وقال متحدثاً عن قوم لوط: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ . وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:74-77]، وكأنه سبحانه ترك الآثار ليسير الإنسان في الأرض وينظر كيف فُعل بهؤلاء، إنه مشهد لقرية سلمها الفسق إلى الخراب، يقدم هذا المشهد ليعتبر الناس بالمصير الذي ينتظر من يفسق أمر ربه، إن نفس الأسباب تأتي بنفس النتائج في جميع الأوقات ولسائر الشعوب {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ۖ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ} [المائدة من الآية:18].
إن الذين يعيشون حياة مادية ويفكرون تفكيراً قاصراً لا يعتبرون بالأحداث، وهم يعتقدون أن كل ما يقع في هذا الكون هو من فعل (الطبيعة) أي أن الأمور تحدث بشكل آلي، ليس لله فيها مشيئة، وهؤلاء اذا جاءتهم عواصف مدمرة أو أمراض فتاكة لا يعتقدون أن هذا عقوبة من الله، وأهل الغفلة في عالمنا الإسلامي لا يفكرون أن ما هم فيه من تسلط الظالمين ووقوعهم في أسر الذل إنما هو بما كسبت أيديهم وببعدهم عن الدين.
كيف يستفيد من التاريخ من لا يعتبر التاريخ علماً ولا يعتبره صنعة مهمة لتصيد الوقائع وإسقاطها على الحاضر، والحقيقة أن الإنسان الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى . أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7]، هو الإنسان في كل زمان ومكان، والنفسية الأوروبية التي تولت اقتناص الزنوج في أفريقيا، وتولت تعذيبهم واستعبادهم، هي باقية على حالها اليوم عندما نشاهد قتل الشعب الفلسطيني بأسلحة الغرب وأمواله وقتل الشعب السوري بدعم من روسيا والصين والباطنيين، والشهوات والغرائز باقية في الإنسان، قد يضعها في محلها المشروع في اعتدال وقد تنفلت من عقالها، ولا فرق بين باريس وهوليود وبين روما قديماً، "فقد كان الإغريق في زمن أفلاطون يتصرفون على نحو مشابه جداً للفرنسيين في القرون الحديثة، وكان الرومان يتصرفون مثل الإنكليز، ولكن الوسائل والوسائط تتغير، أما الدوافع والغايات فتظل كما هي".
"وعامة المؤرخين اليوم على أن ما يُسمّى بالتقدم أو مسيرة الحضارة إلى الأحسن إنما هو وهم، لأن غرائز الإنسان وأخلاقه المركبة باقية كما هي، بل زادت حدة وضراوة".
إن من حسن الحظ أن دروس الحياة لا تنقطع، فالعاقل هو الذي يفيد من حادث الأمس الذي مر به آباؤه ليعالج حدث اليوم.
محمد العبدة
رئيس تحرير مجلة البيان الإسلامية سابقًا وله العديد من الدراسات الشرعية والتاريخية.
- التصنيف:
- المصدر: