(العلمانية الجزئية)؛ الخطر القادم
مرحلة ما بعد الثورات عادةً ما تكون مراحل قلقة مليئة بالتوترات والتدافعات بين القوى الجديدة التي أفرزتها تلك الثورات والقوى القديمة والتقليدية التي أطاحت بها الثورات عن سدة الحكم، ولكنها لم تتوارَ نهائيًّا عن المشهد السياسي والاجتماعي لبلاد الثورات
وقد لاقت فكرة العلمانية الجزئية هذه رواجًا عند كثير من المثقفين والباحثين، وأخذت أصداؤها في التردد هنا وهناك خاصة مع وجود آلة إعلامية تخدم على الترويج لهذه الفكرة، بالتشويه المتعمد للفكرة المناهضة وهي المشروع الإسلامي.
فما هي فكرة العلمانية الجزئية؟ وهل هي حقًّا تختلف عن العلمانية الكلية؟ وما مدى تصادم أو تماهي هذه الفكرة مع الفكرة الإسلامية؟
مصطلح العلمانية من أكثر المصطلحات التباسًا وغموضًا عند التعريف والتقديم، على الرغم من بساطة الفكرة التي نشأت في أجوائها، وهي تقديم الدنيا على الآخرة، وفصل الدين عن الدولة والحياة، فدائرة المعارف البريطانية تعرف العلمانية فتقول:
"هي حركة اجتماعية تهدف إلي صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها؛ ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبه شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمِّل في الله واليوم الآخر، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت العلمانية تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية، وبإمكانية تحقيق مطامعهم في الدنيا القريبة، وظل الاتجاه إلى العلمانية يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة لـ"المسيحية".
أي أن العلمانية عندما نشأت في الأساس كانت بمثابة الحركة الإجرائية التي تستهدف وقف تدخل الكنيسة في شئون الحكم والسياسة والثقافة والتفكير، بعد قرون من التعنت الكنسي مع كل محاولة لتجديد الفكر والعلم، ومنظرو العلمانية في مراحلها الأولى مثل ديكارت، وروسو، وأسبينوزا وهوبز و لوك وغيرهم، لم ينكروا دور الدين في التنظيم الاجتماعي أو الأخلاقي، ولكنهم أنكروا أن يكون له دور قيادي أو إداري للحياة العامة بشقيها السياسي والاقتصادي، واستقلال العقل في الإدراك وتنحية دور العلم في البناء المعرفي والتقييم.
ثم أصابها ـأي العلمانيةـ التطور الفكري والنقدي لتتحول من فكرة إجرائية تستهدف كبح جماح التدخل الكنسي في شئون الحياة العامة، إلى نظريات فلسفية تخرج عن عقالها وتجنح بقوة ناحية الإلحاد التام بداية من ظهور الفكر الماركسي الذي أعلن أن الدين بكل مظاهره ما هو إلا أفيون الشعوب، ونيتشه الذي أعلن موت الإله، وأن آخر "مسيحي" هو من صلب على الصليب، وسارتر الذي تبنى فكرة الوجودية التي لا تعترف بوجود موجود غير الإنسان، وكان يقول: "إما أن أكون حرًّا، وإما أن يكون الله موجودًا"، ومع هذا الجنوح الفكري ألغى أي دور للدين تمامًا حتى ولو على المستوى الفردي الخاص، ونتج عنه ظهور العلمانية المتوحشة الإلحادية مع الشيوعية في الاتحاد السوفيتي والصين والتي أجبرت الناس إجبارًا قسريًّا على الإلحاد، وبعض إفرازاتها في فرنسا الليبرالية والتي تدخلت في شكل ما يلبسه الناس وفق معتقداتهم.
الدكتور عبد الوهاب المسيري العالم الموسوعي الفذ كان أول من أثار فكرة العلمانية الجزئية، وطالب بتبنيها في العالم الإسلامي في كتابه المثير "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" والذي صدر سنة 2002م، في سياقات دولية عاصفة بعد تفجر الحرب الكونية وبروز فكرة صراع الحضارات ونهاية العالم، وكما أثار جدلاً كبيرًا في موسوعته الشهيرة اليهود واليهودية والصهيونية والتي حاول فيها أن يفرِّق بين اليهودي والصهيوني، فنسالم الأول ونعادي الثاني، فقد أثار نفس الجدل وبصورة أكبر في كتابه عن العلمانية، واتبع نفس الأسلوب في التفرقة بين العلمانية الجزئية وأعطاها وصفًا يتطابق مع العلمانية الأوروبية في طبعتها الأولى قبل التطور، وأما العلمانية الشاملة فقد أعطاها وصفًا يتطابق مع الإلحاد الذي كان عليه الشيوعيون والوجوديون في أوروبا، ثم أخذ في أسلوب يناقض بعضه بعضًا، بل يخالف طريقته ومنهجه المعروف عنه في البحث والتنظير، وبل يخالف كتاباته الباهرة في نقد النظريات العلمانية الأوروبية، راح في صفحات كثيرة يدلل على عدم تضاد العلمانية الجزئية مع الإسلام، وأن القبول بها سيكون الحل الأمثل في عالم تصادمي متحفز ضد الإسلام والمسلمين بعد أحداث سبتمبر.
هذا الكلام بالقطع هو كلام عارٍ من الصحة تمامًا، ويسفر عن فهم مغلوط كبير عن دور الإسلام في الحياة العامة والخاصة، وطبيعة الدين الإسلامي ومدى شموليته ونقائه وعالميته، فالإسلام دين ودولة، ودنيا وآخرة، عبادات ومعاملات، سياسة واقتصاد، ومقولة أن لا تعارُض بين الإسلام والعلمانية الجزئية باطلة لا أصل لها في الدين؛ فالعلمانية الجزئية التي هي فصل الدين عن الدولة فهي تعني العمل على الانتقاص من شمولية الدين، بل وتهدف إلى تبعيضه، وهو الأمر الذي يتناقض مع قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
والمشكلة الحقيقية تكمن في قبول ورواج هذه الفكرة الخطيرة التي تفضي في نهايتها للتخلص من الدين للأبد، وذلك بدعاوى وشبهات مختلفة، أبرزها الخوف من الضغوط الخارجية والبحث عن التوافق السياسي بين القوى السياسية والنخبوية، وللأسف الشديد رحَّب بعض المحسوبين على التيار الإسلامي بهذه النظرية، بل وروَّجوا لها، مثل مؤسس حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي، والكاتب فهمي هويدي صاحب المقولة الشهيرة "العلمانيون المعتدلون هم أقرب إلى الإسلاميين المعتدلين من الإسلاميين غير المعتدلين" في غمز معتاد منه ومفهوم أيضًا للتيار السلفي.
القوى العلمانية تعاني من مشاكل عديدة في عالمنا العربي بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية التي كانت تنتهج العلمانية وتروج لها وتكبت الفكرة الإسلامية وتقهر أنصارها من أجلها، فالعلمانية تعاني من الرفض الشعبي الواسع لها، وعدم قدرتها على التواصل مع شعوب المنطقة، في ظل إصرار النخبة العلمانية على البقاء ككائنات أسطورية في العالم الافتراضي في الفضائيات ووسائل الإعلام التي أعطتهم حجمًا أكبر بكثير من حجمهم وتأثيرهم الحقيقي، وفشلها الذريع والمتوالي في اختراق العقل الجمعي لشعوب المنطقة؛ ولهذه الأسباب كلها تحاول العلمانية كل فترة أن تغير جلدها، وتلبس ثوبي زور، فتارة فوق دستورية، وتارة مدنية، وتارة جزئية، لعلها أن تنال فرصة للوثوب مرة أخرى لسدة حكم وتطيح بالتجربة الإسلامية الوليدة في عالم ما بعد الثورات العربية.
- التصنيف: