الاعجاز العلمي في القرآن 1 {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا}

منذ 2006-08-06


 

د.سلامة عبد الهادي

إنـنـا نحيـا في ملكوت الله، كون محكم بإتقـان؛ كلمـا تأملنـاه رأينـا الجمـال والإشـراق والحكمة والعلم. وكمـا أتقن الله مـلكه وأحكم آياته في خلقه ونظـامه بقدرته وعلمـه، فقد أحكم آيات كتابه، وجعلهـا رمـزاً إلى آياته في مخلوقاته بقدرته وعلمه. وكما قال الحق أن هذا الكتاب هو آيات تهدينـا إليه، فقد ذكر سبحانه أن في هذا الكون أيضـاً آيــات تبصّرنا به وتدلنا عليه. وكمـا أبدع الله في آياته في هذا الكون الذي أبدع خلقه، فكان اسمـاً من أسمائه {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، كذلك جاء كتابه إعجـازاً لا يقدر أن يأتي بمثله أحد، كمـا وصفه الحق بقوله {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.

 

ونستعرض في هذا الفصل بعضاً من هذه الآيات بقـوله تعالى في كـتابه العـزيز، من الآية 37 إلى الآية 40 من سـورة يس: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ.وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ.لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.

 

نرى الآية الأولى تصف وصفاً جلياً عملية تعاقب الليل والنهـار، فالأرض في أي لحظة أو توقيت، يكون نصفهـا معرض لأشعة الشمس ونورهـا، والنصف الآخـر يكون بعيداً عن أي شموس أو نجوم أخـرى، فهـو يرقد في ظـلام يشمل الكون كله -كما توحي إليه هذه الآية الكريمة- كحقيقة علمية رآهـا رواد الفضاء مؤخراً، و جاءت بهذا الإعجاز في الآية الكريمة حيث تشير أن الظلام هو الأصل وأن الحادث هو النهـار، ولهذا فإن النهار هو الذي ينسلخ عن الأرض فتنغمر الأرض في ظلام الكون مرة أخرى. فعندمـا تدور الأرض حول محورهـا يبتعد هذا الجزء المنير الذي شمله ضوء الشمس رويداً رويداً فيتحول نصف وجـه الأرض من النهـار إلى الليل، ولن يجد العلماء أيضـاً وصفاً علمياً لهذا التعاقب أدق وأعمق من هذا النص الذي جـاء به القرآن لكريم: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ}.

 

وتـضعنـا هذه الآية أمام قاعدة علمية لحساب اليوم الكامل، تبصّرنا بحكمة الخالق وعزّته، وهو الفرق الثابت بين كل انسلاخين للنهار أو زوالين أو غروبين للشمس، فنجد أن هذا الفرق ثابتاً لا يتبدل ولا يتغير مهما تغيرت الفصول والشهور والسنوات، وأيضـاً أمام حقيقة أخرى علمناها مؤخراً، وهي أن حدوث هذا الانسلاخ لا يتأتى إلا إذا كانت الأرض تدور حول نفسهـا في ثبات كامل أمام الشمس، بحيث تنغمس في الظلام عند نهاية النهار، وأنهـا أيضاً تدور بسرعة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير رغم تعاقب السنين والقرون والدهور، بحيث لا يسبق الليل النهار كما تعبر عن هذا آية تـالية {وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، من صنع هذا الثبات لكل شيء في فلكه، للأرض وللشمس ولكل كوكب ونجم، إنـنـا أمام حقائق جاءت بدقة متناهية بحيث تعبر عن آية لا تقبل الشك عن عزة الخالق وقدرته وعظمته، فكيف يتأتى الحفاظ على هذا الفرق الثابت بين الانسلاخين، وعلى هذا الفلك الثابت للأرض -رغم حركتهـا المركبة حول محورهـا المائل وحول الشمس، ومع الشمس ومع سقوطهـا ضمن المجموعة الشمسية بسرعة هـائلة في الفضـاء الهائل من حولنا-.

 

إن هذه الآيات الكونية لا تتأتى إلا بتقدير إله عزيز عليم. كما تنبأنــا الآية التـالية بهذه الأسماء الحسنى لله خالق هذا الإعجاز، عزيز ومنفرد في قدرته وعلمه. إن هذه الدورة المحتومة للأرض حول نفسهـا، وهذا التعاقب لليل والنهـار دون تقديم أو تأخير بهذا الثبات والدقة، قـاد الإنـسـان إلى تعريف الزمان والوقت، حيث قسم الزمـن الذي تدور فيه الأرض حول نفسهـا إلى أربع وعشرين سـاعة، وبهذا استطاع البشر أن ينظموا أوقاتهم وحياتهم، وهل يتأتى هذا الانتظـام من تلقـاء نفسه؟ وإذا تدبرنـا هذه الآية ونظرنا إلى البشر عندما يطلقون عربة صغيرة -يسمّونها بالأقمار الصناعية وهي لا تزيد في وزنها عن أصغر الأحجار على القمر- وتدور حول الأرض لمدة محدودة، ويطلقون معها معدّات لضبط مسارها حول الأرض وتصحيح انحرافاتها الدائمة، ثم نجدهم يعجزون في معظم الأحوال عن الاحتفاظ بهذا المسار لهذا الشيء التافه حجماً ووزناً لأي مدة تزيد عن عدة شهور، لّعلِمنا عزة وعلم الخالق الذي احتفظ بهذا المسار للأرض ولكل كوكب طوال ملايين وبلايين السنين، دون انحراف أي شيء عن مساره، إنه حقاً خالق عزيز عليم.

 

لقد جاء القرآن بهذه الأدلة من الله الذي يعرف السر في السماوات والأرض، ويوجهنا إلى هذه الحقائق والأسرار بأدق التعبيرات أو الكلمـات، التي نـراهـا أمامنا في هذه الآيات حتى يهدينا إلى عظمته وجلاله، ونـشعر أمامهـا بعظمة قائلهـا وصانعها، ونرى عجزنـا عن أن نأتي بمثلهـا صنعاً وعملا وقولاً، فنهتدي إليه وإلى وحدانيته.

 

ثم تأتي الآية التالية من هذا الآيات بإعجاز عن حركة الشمس، وكيف جعلها الله في جري دائم حتى تستقر في نهاية الأمر طبقاً لأوامر خالقها {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}. لقد اعتقد العلماء في القرن الماضي أن الشمس هي مركز الكون وأنها ثابتة في حجمها وكتلتها ومكانها، وأن كل شيء يتحرك حولها، واعتقدوا ببقاء المادة وعدم نفاذها، واعتقدوا أن للمـادة دورات وللزمان دورات فلا ينتهيان، ولكن تأتي هذه الآية لتبين بهذا النص المعجز منذ 14 قرناً من الزمان، أن ما يجري لكل شيء في الكون يجري على الشمس وعلى المادة وعلى الزمان أيضـاً، فالشمس تجري وتتحرك وتهوى في هذا الكون السحيق، وهي تتوهج الآن ثم سوف تخبو وتستقر بعد حين. فالشمس تتناقص حجماً ووزناً حتى تستقر وتتلاشى بعد حين.

 

  والشمس وهي تجري -أيضاً- فإنه يجري معها أعضاء مجموعتها المرتبطة بها من الكواكب، وكذلك فالشمس تدور حول نفسها وتديرنا حولهـا، فهي تجري وكواكبها يجرون من حولهـا إلى أن تـستـقر حركتها فيستقرون معها، وهذا ما أكده العلم الحديث في مشاهداته الفعلية، وأرضنا التي نعيش عليها ليست إلا كوكباً من كواكب المجموعة الشمسية التي تجري في ركب الشمس وتنقاد معها وفقـاً لتقدير الخالق العزيز العليم، وسوف تستقر حركة الشمس بعد هذا الزمن، وحين تأتي هذه اللحظة سيتوقف الزمـان بالنسبة لأهل وسكان المجموعة الشمسية، ولن يدور الزمـن دورته، ولن تبقى المادة على حالهـا كمـا كان يدّعي المـاديون والكـافرون والملحدون، فللشمس ميقات ستستــــــــقــر عنده بأمر خـالقهـا وسينتهي عنده كل شيء، هذا مـا أكّده الـعـلم ومـا تـأتي به هذه الآية من خالق الشمس على أن الشمس سوف تستقر بعد هذا الجري الدؤوب، وقد أثبت العلمـاء أن الشمس كرة من غـاز الهيدروجين، وتصل درجة الحرارة في بـاطنهـا إلى أكثر من 15 مليون درجـة، ويحدث بهـا أعقد التفاعلات النووية الاندماجية التي سوف تحولها في النهاية من كرة متوهجة إلى كرة مستقرة، ففي هذه الدرجة تندمج ذرتي الهيدروجين المتوهج وتتحولان إلى ذرة من غاز الهليوم الخامل، ويتحول جزء من كتلتي ذرتي الهيدروجين إلى طـاقة تزيد الشمس تأججـاً و تمنحهـا الطـاقة التي تبعثهـا إلـينـا. وقد حاول الإنسان أن يحاكي ما يحدث في الشمس، ولكنه عجز عن هذا، وأدت أبحاثه في هذا المجـال إلى اكتشافه للقنابل الهيدروجينية التي تنتج كمّاً هائلاً من الطاقة ينشأ عنهـا انفجارات مدمرة، وهكذا لم يتمكن البشر إلا في استخدامها للتدمير وليس لعمارة هذا الكون كما يحدث في شمسنا بأمر الله.

 

وقد عجز البشر حتى يومنا هذا أن ينتجوا الطاقة الكهربائية باستغلال تفاعلات اندماجية كالتي تحدث في الشمس، وكي ترسل الشمس كل هذه الحرارة فإنهـا تحرق في كل ثانية 600 مليون طن من مكوناتهـا من الوقود الهيدروجيني، وهكذا يتحول غاز الهدروجين بعد احتراقه أو اندمـاجه إلى غاز الهليوم الخامل باستمرار وثبات ودون توقف، على مدى الأيام والقرون والدهور، وينطلق من الشمس مع هذا التحول في كل ثانية كمّاً من الطاقة يكفي ما تحتاجه الأرض لمدة مليون سنة كاملة، ولكن هذا الكمُّ يتوزع على الكون بأكمله ويكون نصيب الأرض من هذا الكمّ قدر محدد لها يكفيهـا دون زيادة أو نقصـان، وهكذا فإن الشمس تتغير و تبدأ من غاز الهيدروجين الذي يجري له أو به هذا الكمّ الهائل من التفاعلات والاندماجات، ثم ينتهي إلى كرة من غاز ساكن أو خامل هو الهليوم، ولا يبقى لها في النهاية وقود يقاوم قوة جذب كتلة هذا الغاز الخامل، فيتقلص نجم الشمس بتأثير وزنه، وتصـير الشمس في النهاية قزماً ساكناً أبيض، أو ثقباً أسود في هذا الكون كما حدث في ملايين النجوم الأخرى، التي كانت مثل شمسنا وجرى لهـا مـا سيجري لشمسنـا بعد فترة قدّرها العلماء بحوالي 500 مليون سنة كي تتحول إلى هذا القزم السـاكن.

 

والآن ما الذي يحتفظ للشمس بهذا الجري والتفاعل بهذا الثبات الممتد عبر ملايين السنين التي نشأت أثناءهـا الحياة على الأرض، والتي تكونت خلالها الأرض؟ إن الشمس لو بردت بـأقل عدد من الدرجات عن درجتها الحالية التي تقدر بملايين الدرجات، فسيؤدي هذا إلى انخفاض معدلات الاحتراق بها إلى النصف، وهذا ما يؤكده العلم الحديث، وبهذا تقل الطاقة التي تصل إلى الأرض فتتجمد الأرض، ولو زادت بضع درجات لتضاعفت معدلات الاحتراق وتزيد معها الطاقة التي تصل إلى الأرض فــتـحترق -أيضاً- الأرض، ثم إذا نظرنـا إلى الشمس وهي تحترق وتقل كتلتهـا بملايين الأطنان في كل ثـانية، فلنـا أن نتعجب: هل هذا النقص الدائم في كتلة الشمس له الأثر على أفلاك الكواكب من حولهـا؟

 

  النظريات العلمية تؤكد أن تتأثر هذه الأفلاك فتبتعد الأرض عن الشمس، ولكن لو حدث هذا فستـتجمد الحياة على الأرض، وهذا لم يحدث خلال الملايين من السنين التي هي عمر الأرض. لقد حار العلماء في فهم أسرار هذه الشمس بحيث تظل بهذا الثبات لهـا ولمن حولهـا، وجاء هذا النص من الخالق أنه هو الذي قضى عليهـا بهذا الثبات، فأودع هذا التعبير في كتابه بأرفع المعاني والكلمات {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم}، حقـاً إنه عزيز في قدرته وتقديره، عليم يحيط بعلمه كل شيء.

 

والعلم لا يستطيع أن يصل إلى سر جري الشمس بهذا الثبات في تفاعلاتها، وفيمن تجريهم حولها، ويأتي كتاب الله ليعلن أن هذا جاء بتقدير إله قدير {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، هو من صنعه وحده وتقديره وحده وبعلمه وحده، وهذه الكلمات جاءت منه وحده.

 

ثم نأتي إلى الآية التالية التي تصف إعجاز الخالق في حركة القمر، هذا الكوكب الصغير الذي يدور حول الأرض كتابع مطيع يعكس لها في ظلمة الليل جزءاً من ضوء الشمس الساقطة عليه، وله حركته المعقّدة في الأماكن التي ينزل إليها بحيث تكون له دورة ثابتة، فتتوافق حركته حول الأرض مع حركة الأرض حول نفسه وحول الشمس، بحيث تستغرق كل دورة شهراً كاملاً، يبدأ فيه القمر بدراً ثم يتلاشى شيئاً فشيئاً في توقيتات أو مواقيت محددة، وتتغير أشكال القمر بحسب مواضع نزول أشعة الشمس الساقطة عليه ومـا تحـجبه الأرض عنه من هذه الأشعة، إنهـا حركة مركّبة لا تستطيع أن تسيّرها الصدفة، كيف تسير بهذه الطاعة والدقة المتناهية فتكون لها هذه الأشكال المتدرجة صعوداً أو اتساعـاً وهبوطـاً أو ضيقـاً، و تأتي آيات القرآن معلنة بإعجاز أن هذه الآية المعجزة هي من صنع الله، فيعلمـنـا الله أنه هو الذي قدر للقمر هذه المنازل حتى يصير له هذا الانتظام في كل التوقيتات والأشكال على مدى الشهر الكامل، وفي كل شهر وعلى مدى الدهر كله بقوله سـبحانه {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}.

 

  إنه إعلان من الخالق أنه هو الذي دبّر وقدّر للقمر "منازله " بهذه الكلمات المعدودة، التي حدد الخالق فيهـا مـا حـار العلماء في تفسيره، و لم يصلوا إلى سرّه عن حركة القمر المعجزة. ثم تأتي الآية بهذه التشبيه المعجز لتصف آخر مراحل القمر عـندما لا يكون في منزل يسمح بسقوط أو وصول ضوء الشمس إليه، فيكون على شكل عرجون النخيل القديم أو اليابس إلى يوشك على الفناء بقول الله سبحانه و تعالى {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ}، أي حتى يتقوّس من القِدم ثم يفنى، ثم يعود كما بدأ إلى منازله مرة أخرى، فـيـسمح لضوء الشمس بالانعكاس عليه ليعاود الظهور إلى أن يعاود الاختفاء، إنهـا دورات لا تحدث إلا بتقدير عزيز عليم تنبئ عنهـا كلمة {عَادَ}، فالعودة تتكرر وتتكرر بتقدير عزيز عليم. أيّةُ دقة علمية هذه، وأي سردٍ لحقائق علمية متكاملة بحيث تظهر الحق وتبدد الحيرة في كل مـا يدور بهذا الإعجاز؟ إنه إعجاز من عند الله.

 

ثم تأتي الآية الرابعة لتؤكد بإعجاز شامل أن حركة كل شيء في هذا الكون تتم فعلاً بانضباط كامل ومقدر بقول الحق: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، هكذا جاء قول الحق عن هذا الثبات لكل شيء من حولنا في أفلاكه؛ فللشمس أفلاكها الثابتة وللقمر أفلاكه الثابتة، وبالرغم من أن الأرض من توابع الشمس تدور حولهـا وحجم الشمس أو وزنهـا يزيد آلاف المرات عن حجم الأرض ووزنهـا، لكن لا تطغى الشمس على القمر، هذا التابع الضئيل للأرض الصغيرة والتابعة لهـا، فلا تحوّله إليها أو تدركه بقوّتها وحجمها ووزنهـا، وجذبهـا الجبار الذي يتضاءل أمامه جذب الأرض، ليس هناك سبب ألا يحدث هذا إلا أن يكون هناك التزاماً من الشمس والقمـر بالسير والسباحة، أو التسبيح المحدد بالكلمات أو بالحركـات في أفلاك ثـابتة لا حيود عنهـا.

 

وكذلك فالأرض لهـا تعاقبهـا ودورانها حول نفسـهـا، ولا يختل هذا الدوران مهمـا تعاقبت السنين والقرون، فزمن الدورة أربع و عشرون سـاعة، ولا يأتي ليلين أو نهـارين متعاقبين، بل ليل يعقبه نهـار، ويكوّنان معاً اليوم من أربع وعشرين سـاعة في ثبات تام يعجز عن تخيل أسبابه العقل البشري.

 

  وكذلك الأرض -ويصاحبهـا قمرهـا- تدور دورة كاملة كل سـنة أو كل 365 يومـاً وربع اليوم حول الشمس، لا يتبدّل أو يتغير زمن هذه الدورة على مدى القرون والدهور. وكذلك الشمس -ومعها منظومـتها الشمسية كلهـا بمـا فيهـا الأرض والكواكب الأخرى- تدور حول مركز المجرة مرة كل 200 مليون سنة، ومجرتنا التي تمثل المجموعة الشمسية إحدى أفرادهـا، لهـا أيضـاً دورتهـا حول نفسهـا وحول مركز الكون الذي لا يعرف سـره سوى الخـالق.

 

والآن، مـن يحفظ هذا الثبات والاستقرار في دورات الشمس والقمر ودورات الليل والنهـار وكل الدورات الأخرى؟ لا تعليل لهذا إلا أن كل هذه السباحة لكل كوكب أو نجم ما هي إلا نوع من أنواع التـســابيح، يسبح بهـا هذا الكون لخـالقه كمـا جـاءت الآية الكريمة { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }. إنــه تسبيح دائم ومستمـر لكل مـا في هذا الكون، و { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } و { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }.

 

هكذا جاءت كلمات الله معبرة بكل إعجاز عما يعجز الإنسان عن فهم أسبابه في هذا الكون، فتتبدد حيرته عندما يكون القائل هو خالق. هذا الإعجاز الذي أرسل إليه هذا الكتاب رحمة من عنده لهدايتنـا والخروج بنـا من الحيرة والضلال، وإذا أمعنـا التدبّر في كلمة "يسبَحون" بالباء المفتوحة و"يسبِّحون" بالبـاء المشددة والمكسورة، فسنجد أن القرآن قد جـاء بهذه الكلمة الجـامعة لمـا تؤديـه الكواكب والنجوم والشمس والقمر من سباحة منتظمة في أفلاك ثـابتة وأن هذا ليس إلا تسبيح أو طـاعة ملزمة لكل الكواكب والنجوم لخـالقهـا ومسيّرهـا.

 

والسؤال الآن: هل نستطيع كبشر بعد أن علمنا عن الأرض والقمر والشمس والليل والنهـار والأفلاك والمسارات أن نعبّر عن معجزات هذه الأشياء ودلالاتها في بضعة سطـور يفهمها العالم المتعمق بقدر علمه، والإنسان البسيط بقدر نقائه؟ وهذا على مرّ العصور دون توقّف، وبهذا الإعجاز التام دون أن يأتيهـا الباطل في أي من هذه الأزمـان؟ لقد عرضت هذه الآيات الحركات والأفلاك التي تتحرك فيها الأرض والشمس والقمر وأنهـا جميعـاً تدور بإعجـاز إلـه عـزيز عليم؛ تسبيحاً وطاعة له والتزاماً وانصياعاً لأوامره، فلـه وحده النهـار والليل والحركات والسكنات والأقدار والمصائر. إنهـا آيـات إلــه يـرى الكون الذي خلقه كله بـامتداده وجمـاله وإعجـازه وإبداعه، ثم يـركّز أبصـارنـا على ما يمكن أن نراه من هذه الآيات التي تدل كلهـا على جلاله وعظمته، ويراهـا الناس في كل العصور مهمـا بلغ علمهم ورؤاهم، ولهذا تبدأ الآية بـقول الحق {وَآيَةٌ لَّهُمُ}.

 

  إنهـا فقط إحدى الآيـات التي يبصّـرنـا بهـا الخالق في كونـه، ولكن في الكون آيـات وآيــات يجب أن نتدبرهـا حتى نستحق مـا أنعم الله به علينـا من نعمـة العقل والعلم. وتكفي هذه الإشــارة من الخـالق التي جـاءت بهذه السمو وهذا الإعجـاز، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون}