صحّح وضعك ما دمت في المهلة
في فَترَةٍ مَضَت وَلأَشهُرٍ مَعدُودَةٍ خَلَت، رَأَينَا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُسَابِقُونَ الزَّمَنَ، وَيَتَسَابَقُونَ عَلَى مَكَاتِبِ العَمَلِ، حِرصًا عَلَى تَصحِيحِ أَوضَاعِ عُمَّالِهِم وَحِفظًا لأَعمَالِهِمُ، وَخَشيَةً عَلَى مَصَالِحِهِم العَاجِلَةِ مِنَ الفَوَاتِ وَضَمَانًا لِتَحَقُّقِهَا، وَلَعَلَّ بَعضًا مِن هَؤُلاءِ السَّاعِينَ لِتَصحِيحِ أَوضَاعِ عُمَّالِهِم، لم يَبقَ مِن عُمُرِ أَحَدِهِم في هَذِهِ الدُّنيَا إِلاَّ قَلِيلٌ، وَمَعَ هَذَا فَلَم يُفَكِّرْ يَومًا في تَصحِيحِ وَضعِهِ مَعَ رَبِّهِ، أَو تَعدِيلِ سِيرَتِهِ الَّتِي تَعُجُّ بِالأَخطَاءِ وَالمُخَالَفَاتِ.
تَخَيَّرْ قَرِينًا مِن فِعَالِكَ إِنَّمَا *** قَرِينُ الفَتى في القَبرِ مَا كَانَ يَفعَلُ
وَلا بُدَّ بَعدَ المَوتِ مِن أَن تُعِدَّهُ *** لِيَومٍ يُنَادَى المَرءُ فِيهِ فَيُقبِلُ
فَإِن كُنتَ مَشغُولاً بِشَيءٍ فَلا تَكُنْ *** بِغَيرِ الَّذِي يَرضَى بِهِ اللهُ تُشغَلُ
فَلَن يَصحَبَ الإِنسَانَ مِن بَعدِ مَوتِهِ *** وَمِن قَبلِهِ إِلاَّ الَّذِي كَانَ يَعمَلُ
أَلا إِنَّمَا الإِنسَانُ ضَيفٌ لأَهلِهِ *** يُقِيمُ قَلِيلاً بَينَهُم ثُمَّ يَرحَلُ
نَعَم؛ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- إِنَّ العَاقِلَ الفَطِنَ يَعلَمُ أَنَّ مَعَ العِزِّ ذُلًّا، وَأَنَّ مَعَ الحَيَاةِ مَوتًا، وَأَنَّ مَعَ الدُّنيَا آخِرَةً، وَأَنَّ لِكُلِّ شَيءٍ حَسِيبًا وَعَلَى كُلِّ شَيءٍ رَقِيبًا، وَأَنَّ لِكُلِّ حَسَنَةٍ ثَوَابًا وَلِكُلِّ سَيِّئَةٍ عِقَابًا، وَأَنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابًا، وَأَنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِن قَرِينٍ يُدفَنُ مَعَهُ، فَإِن كَانَ كَرِيمًا أَكرَمَهُ، وَإِنْ كَانَ لَئِيمًا أَسلَمَهُ، ثم لا يُحشَرُ إِلاَّ مَعَهُ وَلا يُبعَثُ إِلاَّ مَعَهُ، وَلا يُسأَلُ إِلاَّ عَنهُ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ يَحرِصُ عَلَى أَلاَّ يَجعَلَهُ إِلاَّ صَالِحًا، لأَنَّهُ إِنْ كَانَ صَالِحًا لم يَأنَسْ إِلاَّ بِهِ، وَإِن كَانَ فَاحِشًا لم يَستَوحِشْ إِلاَّ مِنهُ.
فَاتَّقُوا اللهَ وَاعمَلُوا صَالِحًا يُنجِيكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ {يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ} [غافر:3940].
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ؛ فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، فَإِنَّ تَقوَاهُ أَكرَمُ سَرِيرَةٍ وَأَفضَلُ ذَخِيرَةٍ، وَلْيَعمَلْ كُلُّ امرِئٍ في فِكَاكِ نَفسِهِ وَإِعتَاقِ رَقَبَتِهِ، وَلْيَعرِفْ مَمَدَّ يَدِهِ وَمَوضِعَ قَدَمِهِ، وَلْيَحذَرِ الزَّلَلَ وَالعِلَلَ الَّتي تقطَعُ عَنِ العمَل، أَلا إِنَّمَا الدُّنيَا كَرَوضَةٍ طَابَ مَرعَاهَا، أَو حَدِيقَةٍ أَعجَبَت مَن يَراهَا، حَتى إِذَا بَلَغَ العُشبُ إناهُ وَحَانَ مُنتَهَاهُ، يَبِسَ العُودُ وَذَوَتِ الوُرُودُ، وَتَوَلىَّ مِنَ الزَّمَانِ مَا لا يَعُودُ، فَحَنَتِ الرِّيَاحُ الوَرَقَ، وَفَرَّقَت مِنَ الأَغصَانِ مَا اتَّسَقَ، فَأَصبَحَ هَشِيمًا تَذرُوهُ الرِّيَاحُ، وَخَوَتِ الثِّمَارُ بَعدَ النُّضجِ والصَّلاحِ.
فَرَحِمَ اللهُ امرَأً جَعَلَ لِنَفسِهِ خِطَامًا وَزِمَامًا، فَقَادَهَا بِخِطَامِهَا إِلى طَاعَةِ اللهِ، وَعَطَفَهَا بِزِمَامِهَا عَن مَعصِيَةِ اللهِ، وَبَاعَ دَارَ النَّفَدِ وَالنَّكَدِ بِدَارِ البَقَاءِ وَالأَبَدِ، قَبلَ أَن يَقُولَ: {يَا لَيتَني قَدَّمتُ لِحَيَاتي} [الحاقة من الآية:25]، أَو يَقُولَ: {يَا لَيتَني لم أُوتَ كِتَابِيَه . وَلم أَدرِ مَا حِسَابِيَه . يَا لَيتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ . مَا أَغنى عَنِّي مَالِيَه . هَلَكَ عَنِّي سُلطَانِيَه}[الفجر:24-28]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ . وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقنَاكُم مِن قَبلِ أَن يَأتيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالحِينَ . وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ} [المنافقون:9-11].
عبد الله بن محمد البصري
- التصنيف:
- المصدر: