التربية بالعطاء

منذ 2013-11-20

العطاء التربوي في المنهج الإسلامي يبتدئ من الصغر، فيتربى الولد عليه منذ أن يبدأ في الإدراك والفهم، ولذلك فالعلماء يوصون بتعليم الأطفال الصدقة منذ نعومة أظفارهم، وليكن ذلك مما يسمى (مصروفهم الشخصي)، فيتعلم الولد أن ينفق مما يحب. كما يجب أن يتعلم الطفل كيف يبذل ويعطي من جهده في مساعدة الآخرين وليكن ذلك لله سبحانه.

 

لا تكاد تفارق مخيلة أحدنا صورة والدته وهي تؤثره على نفسها في طعام يحبه، أو صورة والده وهو يجزل له عطاء يحبه مجازاة له على عمل بسيط قام به رجاء تشجيعه، أو صورة معلمه بينما ينسب الفضل إليه أمام معلميه وزملائه في عمل قام به في مدرسته وأهمل المعلم ذكر نفسه... وهكذا.

كلها صور راسخة في النفس لا تستطيع الأيام أن تمحوها، بل كلها تزيد حب صاحبها في قلوب من حدثت معه، وتصبح ذكرى عاطرة كلما تذكرها. إنها كلها نماذج للعطاء، وهي مهما رأيتها صغيرة، ترسخ في نفس الطفل وينبني عليها جزء كبير من مشاعره وأفكاره، وتكبر معه كصفة مهمة من صفات حياته يعول عليها كثيرا في استقامته وقوة شخصيته ونجاح تعاطيها مع الحياة.

المنهج التربوي الإسلامي اهتم بهذا النوع من التربية (التربية بالعطاء)، ونقلت إلينا السيرة النبوية كثيرًا من التوجيهات في ذلك، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس" (البخاري)، وبرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن غنيا بالمال إلا أن كرمه وعطاءه وجوده كان سخيا إلى أقصى الدرجات، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: هِيَ الشَّمْلَةُ، فَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَكْسُوكَ هَذِهِ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا، فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَامَهُ أَصْحَابُهُ قَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقَالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا» (البخاري).

وهاكم قصة أخرى يربي فيها النبي أصحابه على العطاء بشكل آخر:
فروى مسلم عن المقداد قال: «أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهبتْ أسماعنا وأبصارنا من الجَهد. فجعلنا نعرِض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس أحد منهم يقْبَلنا فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله. فإذا ثلاثة أعْنُز فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتلبوا هذا اللبن بيننا. قال: فكُنّا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه. ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه قال فَيَجيءُ من الليل فيُسلّم تسليما لا يوقظ نائما ويُسمع اليقظان. قال: ثم يأتي المسجد فيصلي،ثم يأتي شرابه فيشرب. فأتاني الشيطانُ ذات ليلة وقد شربتُ نصيبي فقال: محمد يأتي الأنصار فيُتْحفُونه ويصيب عندهم. ما به حاجة إلى هذه الجُرْعة. فأتيتُها فشربتُها. فلما أن وَغَلتْ في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل. قال: ندّمَني الشيطان. فقال: ويحك ما صنعتَ؟ أشربتَ شرابَ محمد؟ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلِك. فتذهب دنياك وآخرتك. وعليّ شملة إذا وضعتها على قدميّ خرج رأسي. وإذا وضعتها على رأسي خرج قدمايَ وجعل لا يجيئني النوم. وأما صاحبايَ فناما ولم يصنعا ما صنعت. قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يسلم. ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا. فرفع رأسه إلى السماء. فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك فقال: اللهم أطعم من أطعمني واسقِ من أسقاني. قال: فعمَدتُ إلى الشملة فشددتها عليّ. وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا هي حافلة وإذا هن حُفّل كلهن. فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه و سلم ما كانوا يطمَعُون أن يحتلبوا فيه. قال: فحلبت فيه حتى علته رغوة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟ قال قلت: يا رسول الله اشرب فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله اشرب، فشرب ثم ناولني فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رَوِىَ وأصبتُ دعوته ضحكتُ حتى ألقيت إلى الأرض قال: فقال النبي صلى الله عليه و سلم: إحدى سوآتك يا مقداد. فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا وفعلت كذا. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ما هذه إلا رحمة من الله أفلا كنت آذنْتَني فنوقظَ صاحبينا فيصيبان منها. قال: فقلت: والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك من أصابها من الناس» (أخرجه مسلم).

والعطاء الذي ربى عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لم يكن عطاء مال فحسب، بل كان يؤكد على شتى معاني العطاء، فهو يبذل نفسه ومجهده ووقته ويقدمها في سبيل الله سبحانه، وفي يوم أن سئلت عائشة رضي الله عنها: هل كان صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا؟! قالت: "نعم، بعدما حطمه الناس" (مسلم)، إنه حطامهم الذي وجده ذلك النبي الكريم المعطاء من جهد في تعليمهم وتربيتهم وحل مشكلاتهم ونشر الخير بينهم.

والعطاء التربوي في المنهج الإسلامي يبتدئ من الصغر، فيتربى الولد عليه منذ أن يبدأ في الإدراك والفهم، ولذلك فالعلماء يوصون بتعليم الأطفال الصدقة منذ نعومة أظفارهم، وليكن ذلك مما يسمى (مصروفهم الشخصي)، فيتعلم الولد أن ينفق مما يحب. كما يجب أن يتعلم الطفل كيف يبذل ويعطي من جهده في مساعدة الآخرين وليكن ذلك لله سبحانه، ومن المهم تعليمه حديث الصدقة حيث المعاني المتكاثرة في وصف الصدقة، بل إن معنى الصدقة في ذلك الحديث ليصف معنى العطاء في مناح كثيرة، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سُلامى (يعني مفصل) من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة» (رواه البخاري ومسلم).

إن معنى بائسا قد يتلبس به بعض الناس يفشل حياتهم ويفسد علاقاتهم، وهو معنى البخل، وكما أن العطاء معنى واسعا عظيما فإن البخل معنى واسعا كريها سيئا، فليس البخل فقط بالمال، لكنه داء ينتظم كل عطاء فيكبله ويمنعه، فليحذر المربون من تسلل ذلك الوصف البئيس إلى أبنائنا فإنه مهلكة أي مهلكة، يقول الله سبحانه: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
 

 

خالد رُوشه