مسؤولية الأسرة - (3) التربية العقدية

منذ 2013-11-27

تقدَّم في المقالين السابقين أن الأسرة هي الخلية التي منها تتأسّس أنسجة الكيان المجتمعي، وأنها المسؤولة الأولى عن تربية الطفل وتزويده بالمهارات والمعارف الأساسية لتكوين بدايته الشخصية وإيداعه سِرّ الكمال الروحي والسُّمو النفسي، والتمسك بالحق والبذل لإحقاقه والثبات على المحجة والحصانة ضد عواصف الفتن، بحيث يكون هذا الطفل راسخاً في تعلُّقه بالله وعبوديته له، وابتهاله آناء الليل وأطراف النهار


تقدَّم في المقالين السابقين أن الأسرة هي الخلية التي منها تتأسّس أنسجة الكيان المجتمعي، وأنها المسؤولة الأولى عن تربية الطفل وتزويده بالمهارات والمعارف الأساسية لتكوين بدايته الشخصية وإيداعه سِرّ الكمال الروحي والسُّمو النفسي، والتمسك بالحق والبذل لإحقاقه والثبات على المحجة والحصانة ضد عواصف الفتن، بحيث يكون هذا الطفل راسخاً في تعلُّقه بالله وعبوديته له، وابتهاله آناء الليل وأطراف النهار قائلاً: «يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» (أخرجه الترمذي في كتاب القدر؛ باب: ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، ح: [2140]، وصحّحه الألباني، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: [12128]، وابن حبان في صحيحه: [943]، والحاكم في مستدركه: [1962] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه).

إيماناً منه بأن الثبات على المنهج إنما يكون بتوفيق من الله تعالى وحده، يقول جل شأنه: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74].


فالانحراف في بداية الطريق -وإن كان طفيفاً- سيظل خرقه يتسّع حتى يتحوّل إلى اعوجاجٍ كبيرٍ، ولا عاصم من ذلك إلا الله جل شأنه بتثبيته للمؤمنين: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم من الآية:27].

والأسرة في تربيتها لأولادها تسعى إلى أن يكونوا نموذجاً للصبغة الإلهية التي هي الإسلام، والتي لا صبغة أجلَّ ولا أكمل منها، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة من الآية:138].

يقول الإمام القرطبي معلِّقاً على هذه الآية: "فسَمَّى الدين {صِبْغَةَ} استعارةً ومجازاً، من حيث تظهر أعماله وسِمَتُه على المتديِّن كما يظهر أثر الصبغ في الثوب" (الجامع لأحكام القرآن: [2/144]).

والمعتصم بصبغة الله تعالى يُثبّتِه عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين الكامل والفرقان المرشد، وعند عروض الشهوات بالإدارة الحازمة التي تُحصِّنه من الوقوع في دَرك الغواية.

تلك الصبغة الإلهية التي تجعل المصطبغ بها يسعى إلى تنفيذ أوامر الله كاملة دون اجتزاء واجتناب نواهيه كافةً دون تفريقٍ، مُجسِّداً بذلك أمر خالِقه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة من الآية:208].

وتلك هي أجل غايةٍ تربويةٍ ينبغي أن تتشبّث بها الأسرة؛ لعظيم شأنها لدى الطفل، مما يَستوجب توعيته بكبير تأثيرها عليه؛ إذ هي الأوقر إيجابيةً بالنسبة له والأسبغ شموليةً في منهاج حياته.

فقد أوجب الله تعالى على كل فرد من الأسرة المسلمة الدخول في جميع شرائع الدين، استسلاماً منه لخالقه ووعياً منه للهدف الذي من أجله خلق، وإدراكاً منه للمسؤولية المناطة به؛ فالله تعالى إنما خلقه وبرأه وسيره في فجاج الأرض لهدف من أجل تحقيقه يسر له سبل العيش ووسائل الحياة، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا . لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح:19-20].

فنعمة الله على الإنسان عظيمةً في تيسير الحياة له على هذه الأرض وتذليلها له للسير والتنقل وتطويعه له طرائق المعاش، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك من الآية:15]؛ إنها النِّعَم العظيمة والآلاء الجسيمة التي لا يحيط الإنسان بعلم شيءٍ منها، لكن النعمة الأسمَى هي نعمة الهداية التي بسلكوها والانصهار في بوتقتها ينال المرء أعظم السعادة ويسير في أقوم السبل، قال تعالى: {قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات من الآية:17].

إن الإيمان الحقيقي يدفع لا محالة إلى اتخاذ هذا الدين كُلاًّ دون اجتزاءٍ في ارتباطٍ بالله تعالى، وتعظيمٍ لأمره ونهيه والعمل على شكر آلائه ونعمه والاحتكام إلى وحيه، وذلك ما يوجب أن يتربّى الطفل وهو مقتنعٌ أنه مربوبٌ وأنه مقودٌ، لا يحق له أن يعمل عملاً حتى يعلم حكم الله فيه، فيتجذر فيه أن مرد التشريع ومصدر التقنين لكل عملٍ دقيقٍ أو جلي إنما هو الله وحده.

فعلاقة المسلم بخالقه مبنية على استسلام لا ينتابه ترددٌ، وانقيادٌ لا يعرف تلكؤاً، وتصديقٌ لايشوبه ارتيابٌ، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

وبهذا يترعرع الناشئ وهو يعتقد أن الإيمان بالوحي لا يكون إلا بالتحاكم إليه والاستسلام لهاً، والالتزام به والمبادرة إلى تطبيق حكمه وتنفيذ قضائه في طمأنينةٍ وطاعةٍ ورضىً، تحوطه دائرة الرجاء في الله تعالى والخوف الدائم منه وعدم أمن عقوبته، قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]، فلا يأمَن عقوبة الله تعالى إلا من استمرأ الطغيان واستسهل العصيان واستحلى العتو واستساغ الاستكبار.

والأسرة المسلمة بأمسِ الحاجة إلى أن تربي أولادها على محبة الله تعالى واليقين به، والإيمان بأسمائه وصفاته واعتقاد عظيم قدرته، وأنه لا نافع ولا ضار إلا هو وحده، وأنه لا يعلم الغيب غيره، فقد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن ذلك للناس، قال جل ذكره: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188]، فينبغي أن يتربى الأجيال على هذه العقيدة التي لا تعرف الشرك بل تفرد الله وحده بالعبادة وتفرد الله تعالى وحده في ربوبيته وتفرد الله تعالى وحده في أسمائه وصفاته.

عقيدةٌ راسخة في الله تعالى تتأسس على القاعدة الرصينة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى من الآية:11]، عقيدةٌ تنطلق من القرآن وتتفيأ ظلال سنة سيّد الأنام صلى الله عليه وسلم، فيعيش أهلها بعيداً عن أي انحرِاف، ويتسامون على كل ابتذال.

فلا ركون لهم إلى الخنى ولا حنف منهم إلى اللهو الهابط ولا استمراء منهم للعب التافه، بل تمجّ أنفسهم كل سافلٍ وتهرب من كل ساقطٍ، وتظل بعيدةً عن الصعر إلى ضلالٍ، فلا يغويها نعيق الشيطان، ولا يتعلَّق ذوقها بأي منهِيٍّ عنه، فلا الغناء يلهيها ولا الموسيقى تطربها؛ بعد أن علِمَت أن الله تعالى جعله من الضلال وأصوات الشياطين، قال الله جل شأنه مخاطباً الشيطان: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء من الآية:64]، إنه الصوت الشيطاني الأكثر أصالةً في الضلال وتجسيم وسائل الغواية واتباع الهوى، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان من الآية:64].

إن أصحاب العقيدة السوية يتعلقون بالمعاني والجواهر ويخالفون الفئة التي تبذل كل شيء في لهوٍ رخيصٍ تفني فيه أعمارها وتضل به غيرها.

تلك هي معالم الشخصية السوية الحصيفة التي أراد الإسلام من الأسرة المسلمة أن تتخذ جميع الضمانات لتجسدها وتثبت أركانها في المولود المسلم، إنها الشخصية التي لن تتأتّى ما لم تستثمر وسائل تربوية أسرية ناجحة.

فالتربية على الأصول العقدية الصقيلة تحتاج إلى وسائل نظيفةٍ، والتنشئة على الأخلاق الفاضلة والخِصال الكريمة تحتاج إلى وسائل هادفةٍ، والتأهيل لولوج معتركِ الحياة بنجاحٍ يحتاج إلى وسائل مثمرةٍ.

تلك الوسائل التي سيكون حديثنا عنها بإذن الله تعالى في المقال القادم.


 أحمد ولد محمد ذو النورين
 

المقال السابق
(2) أهمية الجو الأسري