التوازن في التربية الإسلامية

منذ 2013-12-04

التوازُن في كل شؤون الحياة هو القاعدة الكبرى في التربية الإسلامية؛ ذلك لأن الإسلام يرى أن الغلوَّ كالتفريط، كلاهما يخلُّ بمصلحة الفرد كما يخل بمصلحة المجتمع على حدٍ سواء، وبالتالي فإن الفرد أو المجتمع لا يستطيع كلٌّ منهما أن يحققَ رسالته في هذه الحياة، مع أن للمسلم وللمجتمع الإسلامي رسالةً سامية، هي عمارة الأرض، طِبقاً لمنهج الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلقَه وكرَّمَهُ؛ ليُحقق خلافة الله في هذه الحياة.


التوازُن في كل شؤون الحياة هو القاعدة الكبرى في التربية الإسلامية؛ ذلك لأن الإسلام يرى أن الغلوَّ كالتفريط، كلاهما يخلُّ بمصلحة الفرد كما يخل بمصلحة المجتمع على حدٍ سواء، وبالتالي فإن الفرد أو المجتمع لا يستطيع كلٌّ منهما أن يحققَ رسالته في هذه الحياة، مع أن للمسلم وللمجتمع الإسلامي رسالةً سامية، هي عمارة الأرض، طِبقاً لمنهج الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلقَه وكرَّمَهُ؛ ليُحقق خلافة الله في هذه الحياة.

ويبدأ التوازُن مِن نظرة الإسلام إلى الفرد؛ فهو يعترف بقيمته ويحمله المسئولية فرداً؛ قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95]، ويحمله مسئولية وأمانة إصلاح المجتمع ووقوفه فى وجه الفساد والإفساد.


ومن هنا نجد أن الإسلام يُحقق مصلحة الفرْد على حساب الجماعة، فالفرد عضوٌ في جماعة مُتحدِة الهدف، متعاونة فيما بينها للوصول إليه قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة من الآية:2].

وفي الوقت نفسه، فإنه لا يستحق الفرد ولا يهمل وجوده، ولا يجعله مجرد ترس في آلة كما ترى بعض المذاهب في المجتمعات الغربية الحديثة.


ويتمثَّل التوازُن أيضاً في الطاعة لله سبحانه وتعالى والإيجابية بالنسبة للبشَر، والطاعة بالنسبة لله سبحانه وتعالى معناها: التسليم المطلق له، والامتثال الكامل لأوامره؛ ذلك لأن الله هو الخالق، وهو الرحيم، والطاعة لذلك ينبغي أن تكون طاعة الحب والإجلال، وفي ذلك يقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].

بل إن المسلم يستمد إيجابيته الكاملة تجاه الأشخاص والأحداث والأشياء مِن تسليمه لله تعالى، ورسالة المسلم تظهر في السلوك، وفي العبادات بمعناها الإسلامي الذي يتمثَّل في أنَّ الدنيا كلها معبدٌ ودار عمل للمؤمنين ومزرعة للآخرة.


والتربية الإسلامية تأخذ الإنسان كما هو، فتُعنَى به من الناحية الروحية، ومن الناحية العقلية، ومن الناحية الجسمية، بدون أن تطغى ناحية على أخرى؛ حتى يكون صالحاً لأداء رسالته في هذه الحياة، وبذلك يكون قادراً على الاتصال بالله سبحانه وتعالى وقادراً على التعرف على أسرار الكون، وقادراً على عمارة الأرض، واستخدام هذه الطاقات كلها يُحدث توازناً في مقومات الإنسان.

ولا بد من ملاحظة أنَّ الإنسان في أية لحظة هو مجموع عناصر متكاملة: الروح والجسم والعقل، ولا يُمكن فصل واحد عن آخر، وبمجموع هذه الطاقات يتكوَّن الكيان الإنساني.

الروحيَّة في الميزان:

وعن طريق الروح يُمكن أن يتصل الإنسان بالله تعالى اتصالاً مباشراً، فقد أوجد فيها الحيوية والإشعاع الذي يستطيع أن يتصل به عن طريق هذه الطاقة، وهدف التربية في الإسلام وصْل القلب البشرى بالخالق سبحانه وتعالى وتصفيته، وإعطاؤه الشفافية التي يتقرَّب بها إلى الله تعالى، وحين يكون المسلم قوي الصلة بالله تعالى، فإنه يرتفع إلى مرتبة الإحسان في النيّة، وفي العمل على حد سواء.

وحين عُنيتْ بعض الديانات بالناحية الروحية وحدها، كالهندوكية، والبوذية، فإنها لم تستطع أن تؤدي وظيفتها في هذه الحياة، وكذلك المسيحية المُحرَّفة، حين حاولت أن تكبت نزعات الإنسان لتُعلي روحانيته، كانت رؤيا في عالم المثال لمجرد يلوح للبشر بدون أن تكونَ قادرة على عِمارة الأرض، وكيف يتحقَّق ذلك، وهم في أدْيرتهم يعبدون الله على طريقتهم السلبية، فهم لا يتزوجون، ولا يعملون خارج الأديرة.

والصوفيون في الإسلام منهم من غلب الروح، وقالوا: إنَّ الطريق إلى الاتِّصال بالله تكون بالصلاة والذكر، وحيث اقتصروا على ذلك عزلوا أنفسهم عن الحياة، وعن العمل، وعن المجتمع، وراحوا يذكرون الله بالأسلوب الذي اختاروه لأنفسهم؛ ظنّاً منهم أنه الأهم.

وهذه المُغالاة لا توجد في التربية الإسلامية؛ لأنها تكون على حساب جوانب أخرى، لا يمكن إغفالها، وبذلك لا يستطيع المسلم أن يعمر الأرض، مع أن عمارة الأرض هي لُبُّ عبادة المسلم؛ لأن الله تعالى يقول: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود من الآية:61].

كما لا يستطيع أن يُجاهد فيها، والله تعالى يقول: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج من الآية:78]، ولا يستطيع أن يأمرَ بالمعروف، وينهى عن المنكر، والله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة من الآية:71].

بل أكثر من هذا، فإن التربية في الإسلام تعتبر المسلم الذي لا يُفجر ينابيع الأرض، ولا يستغل طاقات الكون المُسخّرة له عاصياً لله تعالى، ناكثاً عن القيام بوظيفته، ولعل الحديث الآتي يكشف لنا بوُضُوح حقيقة عبادة الله تعالى، حين يتسع الأُفُق في الفهم وفي السلوك على حدٍّ سواء؛ ليُحقق الرسالة التي ندب الله تعالى عباده لها.


فقد روى الستة عن أنس رضي الله عنه: "كنا مع النبي في سفر، فمنا الصائم، ومِنَّا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، وما من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوَّام، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر»".

ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل حين رآه يظهر النسك ويتماوت: "لا تُمت علينا ديننا"، وذلك بعد أن خفقه بالدرة.

وطريق الفرد لا يختلف عن طريق الجماعة في التربية الإسلامية، والفرائض التعبُّدية ما هي إلا تجديد للعهد مع الله سبحانه وتعالى على الارتباط بمنهجه الكلي في الحياة، وهي قربة إلى الله تعالى، يَتَجَدَّد معها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج الذي يُنظم أمر الحياة كلها.

استخدام العقل:


وكما عُني الإسلام بالناحية الروحية، فإنه قد عني بالناحية العقلية، فهو يربي العقل البشري، ويستخدمه في كل ما يصلح له، وطريقة التربية للعقل البشرى تكون بتدريبه على الاتصال بالله سبحانه وتعالى، فهو يربطه بخالقه كما يربط القلب، ويحرص الإسلام على هداية العقل البشري إلى التوحيد، وهو الحقيقة الكبرى في هذا الوجود.

وطريقة العقل في الصلة بالله تعالى وتعمير الكون تكون عن طريق الملاحَظة، والتجربة، والقياس، والاستنباط، وأدوات ذلك الحس: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس من الآية:101].

والله سبحانه وتعالى يَسَّر للعقل البشرى أن يتعلم ليعمر الأرض، والعقل من أعظم أدوات هذه العمارة، والإسلام يوجهه لمعرفة هذه السنن؛ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].

وعقل المسلم أوْسَع من عقل الإنسان في الحضارة الغربية الحديثة؛ لأن المسلم يستخدم عقله طبقاً للمنهج الإلهي الذي أرشده إلى عمارة الأرض، وتبقى صلة الروح وصلة العقل بالله تعالى، فتستقيم الأمور في الأرض، والحضارة الغربية تُعنى بالعقل وحده، وتجعل له السيطرة الكاملة على الحضارة المعاصرة، بل لقد جعلت العقلانية بديلاً عن الوحي، وادّعى (سارتر) "أن العقل أثمن ما في الإنسان، وأنه قد بلغ سن الرشد، وأن له أن يحكم البشرية بمعزلٍ عن الوحي"، ولم يقل لنا سارتر: أيُّ عقلِ هذا الذي يتحدَّث عنه؟ ونحن نرى العقول الغربية لا تتفق على شيء، بل وتتناقض حتى في البدهيات.

والحقيقة أن الذي يقول به سارتر إنما هو تعبير عن مخطط يهودي؛ ذلك لأن اليهود رأوا في الجانب الروحي الذي يتصل بالعقيدة سواءٌ أكان ذلك في النصرانية أم في الإسلام أنه يظهر اليهود على حقيقتهم، ويكشفهم أمام الناس، وهم لا يريدون ذلك، وإنما يريدون أن يحققوا تفوقهم على البشرية، وحينئذ يتحكمون في مقدراتها.


ولذلك قال سارتر في كتابه (اليهود أعداء السامية): "طالما أن البشر يتبعون العنصر الإلهامي في الإنسان المتصل بالعقيدة، فسيحدث تميّز مجحفٌ باليهود، ولا يزول هذا التمييز المجحف، إلا إذا ألغينا من حياتنا الجانب الإلهي؛ ذلك لأنه في الجانب العقلي يستوي الناس جميعاً".

والغربُ حين سار على هذا المنهج، وترك للعقل أن يُشرع، جاء بالمتناقضات، فقد جاء بالشيوعية كما جاء بالرأسمالية، وهما متضادان، ومع هذا فإن العقل يحاول أن يبرر هذا التناقض، ثم إن إلغاء الغرب الروحية جعل العقل البشري يستخدم العلم في محاربة العقيدة، وإفساد الأخلاق، ولا يزال يجني من آثار ذلك قلقلاً واضطراباً وفقداناً للسعادة، بل وعنفاً وانتحاراً، إلى غير ذلك مما يحدث في الغرب على مرأى ومسمع من الناس جميعاً.

طاقات الجسد:


والإسلام عني أيضاً بتربية الجسم، سواءً بوصْفة أعصاباً، أو بوصفة محلّاً للشهوات، وهو جزء من كيان الإنسان، ونحن نلاحِظ أن المجتمعات البشرية فيها من يحقِّر الطاقة الجنسية، ويقول: "إنه لا بد من كبتها ليرتفعَ الكائن البشري"، والطريق إلى ذلك هو الانعزال في الأديرة، كما نرى في المسيحية، والنوم على المسامير ومع الثعابين كما نرى في الهندوكية، وهذا انحراف عن الفطرة، ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يكبتَ هذه الطاقة ما خلقها، كما أنه لو أراد لها أن تنطلق بلا حدود ما خلق له الطاقة الروحية التي ترفع من هبوطه، ولما جعل لها ضوابط وكوابح.

وهناك مَن ينظر إلى الإنسان مِن خلال حاجاته المادية وحدها كالحضارة الغربية، ونحن نرى في الحضارة الغربية المعاصرة من يُعنى بالجسد، ويُنشئ من الألعاب ما يقويه، وتقام لذلك مهرجانات كمال الأجسام التي يقف فيها رجال يستعرضون أجسامهم، مفتونين بها، وذلك لون من ألوان عبادة الأجسام لا يُقرّها الإسلام.

لكن الإسلام حين يقوي عضلات الرجل، فإنه يفعل ذلك ليكون أقدر على أداء رسالته في هذه الحياة، وليس في الإسلام استعراضٌ من أجل الاستعراض، بل من أجل تحقيق غاية الوجود الإنساني، والإسلامُ يربّي الجسد أيضاً بوصفه مُعيناً على القيام بواجباته وأداء مسئولياته.

والجسدُ هو مجموعة من الطاقات والرغبات، وهي أدوات الخلافة، والتربية الإسلامية تربي المسلم على أن يكون متوازناً بين دوافعه وضوابطه؛ لكي يقوم بدوره المطلوب منه، ولولا الضوابط لشهوات الجسم والنفس، لَمَا استطاع أن يقومَ بدور الخلافة في عمارة الأرض.

ومن التوازن الذي تُعنى به التربية الإسلامية أن يكون المسلم وسطاً في كل أعماله، فعليه ألا يقصر في واجبه نحو نفسه، ولا في واجبه نحو أهله، ولا في واجبه نحو مجتمعه.

ولعل هذا يتضح بجلاء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه الذين أرادوا أن يسيروا على أسلوب العبادة بمعناها الضيق: «إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لربك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه» (أخرجه البخاري)، وبهذا يُحقق التوازن بين هذه الواجبات كله.

ومن التوازن أيضاً أن يكون الإنسان وسطاً في الإنفاق، فلا يكون مُسرِفًا ولا مُقترِاً، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29].

مخاطبة كل المستويات، وهكذا في كل ناحية من النواحي:

والإسلام بذلك يخاطب الكينونة البشرية في كل مستوياتها، ولا يفرد كل جانب من الجوانب، الكل المتناسق بحديث مستقل كما تفعل الأساليب البشرية، بل إنه يعرضها في سياق موصول يرتبط فيه عالم الغيب بعالم الشهادة، وتتصل فيه الدُّنيا بالآخرة، وتعطي لكل جانب من جوانبه الحقيقة مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله تعالى، وبذلك يتجرَّد المسلم من روح الأنانية؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (متفق عليه).

وهذا الحب يجعل الإنسان يعيش في أمن وأمان واطمئنان، وصحة نفسية جيدة، وقد تنبَّه إلى ذلك "رينيه دوبو" فقال: "كل شواهد الطب النفسي تشير إلى أن عضوية الإنسان في جماعة أو مجتمع تقويه وتمكّنه من الإبقاء على توازنه".

وهكذا تُحدِث التربية في الإسلام التوازن في طاقات الجسد كلها، وينظر الإنسان إلى الكون والحياة هذه النظرة الشاملة التي لا تعدِّد فيها ولا انفصام.

وقد تنبَّه إلى أهمية هذا التوازن المؤرخ "لن هوايتا لاين" فطلب أن يتجه الغرب إلى نظرة جديدة نحو طبيعة الإنسان وقدره، ورأى أن الأمل الوحيد لإنقاذ العالم هو الاتجاه الديني العميق الذي قال به الفرنسسكان في القرن الثالث عشر، وهو الترابط الروحي والعضوي بين أجزاء الكون.

وهكذا كانت الأمة الإسلامية أمةً متوازنة في التصور والاعتقاد، متوازِنة في التفكير والشعور، متوازنة في التنظيم والتنْسيق، متوازنة في الارتباط والعلاقات، تزاوج بين تراثها الروحي ورصيدها العقلي، وتسير بها على الصراط السوي.


وصدق الله العظيم القائل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].


شريف دويدار