تَمْضِي الحَيَاةُ؛ وَتَخْلُدُ الآثَارُ
إنّ المتأمِّل في سرعة الأيام وانقضائها في هذه الحياة الدُنيا يعجب كل العجب في عدم استغلال ساعاتها وأوقاتها بما يعود على النفس البشرية بالفائدة في الدارين.
إنّ المتأمِّل في سرعة الأيام وانقضائها في هذه الحياة الدُنيا يعجب كل العجب في عدم استغلال ساعاتها وأوقاتها بما يعود على النفس البشرية بالفائدة في الدارين.
وهذا ما انتبه إليه الكبار أصحاب الهِمَم والعزائم من أهل العلم والفضل فحرصوا كل الحرص على استغلال أوقاتهم بطلب العلم ونشره واقتناء الكتب ونسخها وتحقيقها، وتكوين مكتبات علمية خاصةً في منازلهم لتكون نواةً للمعرفة ودافعاً للقراءة والتعلم، فتُصبِح مع مرور الأيام منهلاً للقراء والدارسين ورافداً من روافد المعرفة يظهر أثرها على مؤسسها من الناحية الفكرية والعلمية والثقافية؛ وتكون دافعاً له في الكتابة والتأليف؛ ويبقى له أجرها في حياته وبعد مماته.
وتُعد هذه المكتبات الخاصة هي اللبِنة الأولى في تكوين أغلب المكتبات العامة كمكتبة الحرم المكي الشريف، ومكتبة الملك فهد الوطنية وغيرها، فتحية إلى أولئك الأفذاذ من أهل العلم والفضل ممن قاموا بتأسيس العديد من المكتبات الخاصة وأوقفوها لنشر العلم وخدمة أهله.
وإن للمكتبات والكتب مكانةٌ خاصة وأثرٌ عميق في نفوس أصحابها لا يشعر به الكثير في هذا العصر ولا أَدلّ على ذلك من قصة الأديب (أبي الحسن علي بن أحمد الفالي) المتوفى (سنة 448هـ)؛ صورة حيث كانت له نسخةً فريدة من كتاب "الجمهرة" لابن دُريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها (الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الطاهر) المتوفى (سنه 436هـ) بستين ديناراً، وتصفَّحها فوجد بها أبياتاً بخطِ بائعها أبي الحسن الفالي وهي:
أنِسْتْ بها عشرين حولاً وبعِتُها *** لقد طالَ وَجْدِي بعدَها وحَنيني
وما كان ظَني أنني سأبيِعُها *** ولو خَلَّدَتْني في السجونِ دُيوني
ولِكنْ لِضَعْفٍ وافتِقَارٍ وصِبْيَةٍ *** صِغَارٍ عليهم تَسْتَهِلُ شُؤُوني
وقد تُخرِجُ الحاجَاتُ يا أُمَّ مالك *** كرائِمَ من رَبَّ بِهنَّ ضَنيني
وعليه؛ فإن لهذه المكتبات الخاصة والآثار العلمية حظوةٌ عند أصحابها وعند كل من يعرف قيمة العلم ومكانته، فيجب الاعتناء بهذه المكتبات وهذه الآثار وجمعها تحت مظلة واحدة، لتعم الفائدة وهذا ما حرصت عليه ندوة (المكتبات الخاصة في المملكة العربية السعودية... الواقع والمستقبل)؛ والتي نظَّمتها جامعة أم القرى بالتعاون مع إدارة (الملك عبد العزيز) ممثلة في مركز تاريخ مكة المكرمة والمنعقدة خلال الفترة 14- 15 محرَّم (1435هـ)، والتي قد تشرَّفت بحضورها والاستفادة منها وأرجو من القائمين عليها الحرص على نشر أوراق العمل المقدِّمة على موقع الجامعة؛ وتفعيل جميع المقترحات والتوصيات المقدمة، وجعل قاعدة بيانات بأسماء أصحاب المكتبات الخاصة ومحتوياتها في جميع المحافظات للإفادة منها، وإنشاء رابطة للمكتبات الخاصة تقوم على خدمتها وصيانتها والمحافظة عليها ليتم الاستفادة منها على الوجه الأكمل.
فالكتاب هو الإرث الحقيقي والولد المخلَّد والأثر الباقي الذي يتركه العالِم بعد وفاته:
ففُزّ بعلمٍ تَعِش حياً به أبدا *** الناس موتى وأهل العلم أحياءُ
- التصنيف:
- المصدر: