هجرة وتمكين

منذ 2014-01-01

تلك هي مكة تودع رسولها الحبيب، تبكي جبالها ورمالها وبيتها رحيله ونأيه، وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يرنو إليها وقد أخرجه قومه من بيته وأرضه ووطنه أن يقول ربي الله لا شريك له، ويناجيها بلهفة الابن المحب لوطنه، والعابد الطائف الساجد المفارق لبيت الله وكعبته المشرفة، ويهتف بها بكل صدق وكأنه يستميحها عذرا لهذا الرحيل القسري: "والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وإنك لأحب أرض الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".


تلك هي مكة تودع رسولها الحبيب، تبكي جبالها ورمالها وبيتها رحيله ونأيه، وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يرنو إليها وقد أخرجه قومه من بيته وأرضه ووطنه أن يقول ربي الله لا شريك له، ويناجيها بلهفة الابن المحب لوطنه، والعابد الطائف الساجد المفارق لبيت الله وكعبته المشرفة، ويهتف بها بكل صدق وكأنه يستميحها عذرا لهذا الرحيل القسري: "والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وإنك لأحب أرض الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".

ويولي الركب الطيب وجهته الجديدة، والراحلتان تطويان البيد فخورتان براكبيهما؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق الذي أخّر هجرته أملا في صحبة الحبيب عبر هذا السفر الشاق الخطر، وقد تضاعف أمله وهو يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا"، وتمنّى الصّديق أن يكونَ ذلكَ الصاحبَ، وها هو يصل وإياه غار ثور، ويمكثا فيه مدة وقريش تطلبهما حيين أو ميتين وقد أوقد أوار غيظها نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه.

وقد ظنت قريش بعنجهية الكفر، وعقلية الفرعنة، وغباء الجهالة وظلم الباطل، أن القضاء على محمد وفكرته ومبادئه ودينه ومثله وقيمه التي لا تتواءم وقيم الجاهلية الغاشمة ومبادئها المتخلفة التي جعلت من الإنسان المكرّم مكان مهانة ومحط ذلّة، وأرخصت الأرواح واستباحت الدماء وألغت العقول، فأينعت في هذا المحيط النتن فروع القبلية، وازدهرت بضاعة المنكر، وضاعت حقوق المظلومين وصرخاتهم في فضاء الظلم، وبحار ظلمات الجاهلية. وهكذا رفضت دعوة الإسلام، وحورب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه الأطهار، وعذّبوا وشرّدوا وهجّروا أفرادا وجماعات، وأسقِط في يد عتاة الكفر وهم يرون أتباع هذا الدين يجودون بكل غالٍ ونفيس لأجل دين الله، ويغادرون بيوتهم، ويتركون خلفهم ذراريهم وممتلكاتهم، سعيا وراء ما يراه أهل الضلالة سرابا، ويراه أهل الحق جنة عرضها السماوات والأرض، ورضوان من الله أكبر.

ويصعق أبو جهل كبير الجهلة، وهو يستيقظ صبيحة حصاره لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بيت له نية القتل المجمع عليه من كل قبائل العرب في مكة، يُصعق وهو يرى علي بن أبي طالب ينام في بردة النبي مع معرفته بخطورة ذلك عليه، ويذهل وهو يرى علي يسلم الأمانات إلى أهلها -رغم دقة الموقف لم ينسَ محمد أمانته- يُبهت وهو يتلمس التراب على رأسه وقد ألقاه عليهم المصطفى وهو يقول: شاهت الوجوه، ويخرج من بين أظهرهم وقد ألقى الله عليهم السبات، في معجزة أخرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ولم يستفق الطغاة من ذهولهم إلّا وحبيب الله خارج مكة، في غار ثور، وينطلق زعيم الجهالة إلى بيت أبي بكر الصّديق وقد عرف أنه لا بد وأن يكون رفيق الحبيب ويحقق مع المؤمنة أسماء ذات النطاقين، أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ ويأتي الجواب: لا أدري أين أبي، وترتفع اليد الموتورة باللطمة الحاقدة، يفرغ فيها الجاهل غيظه، وتظل تلك اللطمة صدى يتردد في سمع الأيام مذكرا بحماقة الجهلاء ورفض المتنفذين أولى المطامع المادية والمكاسب الدنيوية، لكل ما من شأنه المساواة بين الخلق، والتفاضل بالفضل، والكسب بالسعي الحلال العادل.

ويستقر الركب في غار ثور أياما مليئة بالترقب، محفوفة بالمخاطر، ملأى بالبشارات، والقوم يحيطون بالغار مدججين بأسلحتهم مشحونة عقولهم بالحقد الجاهلي، والصدّيق يملأ جوانحه الرهب، وتعتريه المخاوف لا على نفسه، ولكن على رفيقه وخليله الذي يفتديه بنفسه وولده وماله، ويكون الحوار المشفق: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا، ويأتي الجواب الواثق المطمئن: يا أبابكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما، وتظل هذه الكلمات مبشرات بحفظ الله ونصره لكل من أعلى لواء الله، وأرخص دونه النفس والنفائس، ما بقيت قرآنا محفوظا في القلوب والضمائر والنفوس: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

أيتها الأمة المحمدية، يا جند الله، ويا من تحملون لواء العزة والنصرة الحقة لدين الله، تهجّرون وتحاربون، وتحاك ضدكم المؤامرات، وتستضعفكم جاهلية هذا الزمان، لتكن هذه الآية المطمئنة المبشرة شعاركم: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فالقرن قرنكم، والزمان زمانكم، والعاقبة لكم بإذن الله، وكيف يخاف ويحزن ويرتاب ويضعف ويتخاذل من اعتقد يقينا أن الله بعزته وقوته وعدله وجبروته وقدرته معه؟

ها هو نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ينطلق إلى المدينة من غار ثور، وقد عميت عنه العيون، وها هو سراقة بن مالك يسمع عن الركب الميمون، فينطلق خلفه طمعا بالجائزة الموعودة، وها هي قدما راحلته تغوصان في رمال الصحراء، فيرى الموت ماثلا أمامه، فيستنجد بمحمد وقد عرف أنه على حق، لولا كبرياء الشرك في نفسه، وتتكرر الملاحقة ويتكرر المشهد حتى يرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم موعدة تسكن لها جوانح الصحراء، وتضحك لها أمانيّ سراقة: "كيف بك يا سراقة وقد لبست سواري كسرى"، ويسكت سراقة وهو يعرف أن محمدا هو الصادق الأمين، ثم يقول: اكتب لي كتاب أمان منك بها فكتبها له. تلك هي الثقة المطلقة بالله جل وعلا، تقويها الثقة المطلقة بخيرية الدعوة التي يحملها إلى الناس، والثقة الحانية المحبة الرفيقة بالأصحاب والجند الذين يحملون الراية مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، ليبلغوا رسالة الله الكريمة إلى خلقه الذين أرهقتهم تبعات الجاهلية، وضنكها وظلمتها.

وهكذا وصل الركب المبارك إلى يثرب والتي أصبحت ببدرها المنير ومقامه البهج فيها (المدينة المنورة) مصحوبا بعناية الله ورعايته الشاملة، يحدوه الأمل بغد مشرق للبشرية، في ظل كلمة التوحيد العظيمة، وتداعت الجموع بحدائها الجميل، وقد رأت في نبيها الحبيب بدرا يشرق سناه البهي، وتشرق إشعاعات رسالتة الدافئة شمسا مؤتلقة، وقمرا منيرا في ليل الضلالات الممتد عبر مئات القرون الظالمة، فتألقت الأهازيج لحنا يؤكد نور الرسالة والرسول وربّ العزة يؤكد نورانية الرسالة والرسول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]، وطلع قمر يثرب، وأصبحت به وبمقامه المبهج في رباها المدينة المنورة، ونعمت النفوس الشقية بعدل الإسلام وغدت الرحلة التي ملأتها مشاعر الحزن والحنين، منطَلقا للعودة المظفرة والفتح المبين، وبشارة بالنصر والتمكين، وطريقا لدخول الناس كافة في دين الله، وظلّ درس الهجرة صفحة وضيئة، يتعلم منها كل من يسعى إلى إقامة شرع الله، ونصرة دينه، والذود عن حمى الأمة، أن الأرض لله يرثها من عباده الصالحون، وأن الوطن هو كل بقعة ارتفعت فيها كلمة التوحيد، وأن الأمة هي كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55].

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

رقية القضاة

كاتبة إسلامية وباحثة أردنية