أين البلسم ... ؟
أم حسان الحلو
لا … إنني لا أراه ، لا أعرفه ، لا أحس به فمن الطبيعي أنني لا أستطيع وصفه … لا أسمعه ، لا أفهمه ، لا أدرك كنهه ولا أعرف مصدره ، فكيف أفرح به ؟ … حواسي تعطلت ، أحاسيسي تناثرت ، جوارحي تحجرت، كلماتي ماتت … وآهاتي تدفقت … باختصار يا حضرة الدكتور : أنا ميتة !! … قتلت منذ زمن ولم ينعني أحد !! … أنا التي نعيت نفسي إلى نفسي ، وكل الذين يعرفونني هم الذين يمشون في جنازتي التي تشيع يوميا !! …
بدا كلام السيدة ( ساهرة ) غريبا على مسامع الدكتور ( سامي ) الذي بدا مهتما بكلام محدثته رغم ما فيه من غرابة ، لكنه لا يستطيع أن يتجاهل قسمات وجهها الصادقة ونظراتها المفعمة بالحزن الدفين … فسألها :
منذ متى وأنت على هذه الحالة ؟ ..
لا أعرف زمنا بالضبط ، كل الذي أعرفه تماما أنني لم أحس بجمال الحياة لحظة واحدة ، الشيء الوحيد الذي أفهمه أن الحياة لا تستحق أن تعاش !! ..
هز الدكتور رأسه ونظر إلى ورقة المريضة .
وتساءل : منذ متى داهمك هذا الإحساس ؟! ..
منذ خمسة وثلاثين عاما … وربما قبل ذلك أيضا !! .
رفع الدكتور رأسه وقال :قلت أنك متزوجة منذ عشرة أعوام ولديك أطفال ؟ ..
نعم ..
ولم تعرفي الفرحة أو البهجة أبدا ولا حتى يوم زفافك ؟.. فأجابت بحزن :
ربما زارتني ومضة من الفرح سرعان ما تلاشت …!!
اعتدل الدكتور في جلسته وقال :
هل ازدادت تعاستك بعد زواجك ؟ ..
فأجابت بثقة : كلا.. إن زوجي إنسان عظيم ، يحاول إسعادي قدر المستطاع ، أنا التي قلبت حياته إلى جحيم كما يبدو .
واسترسلت بقولها :أنا التي أقترح أماكن زياراتنا ، وما إن أدخل وأسلم على الناس حتى أنادي عليه ، وأطلب منه الخروج الفوري ، وأنا التي أطلب منه أن يدعو أصدقاءنا لزيارتنا ، وما إن يدخلوا حتى أتبرم في وجوههم ، وأبدأ بالشكوى والأنين ، وعندما يقترح علي الذهاب مع صديقاتي … أفرح لذلك وأعود إليه بعد قليل … وعندما يقترح علي زيارة أهله أسارع بذلك ثم أخرج من بيتهم مسرعة ..!!
تابع الدكتور سامي حديثها ، وأحس أن هناك فجوة ما ، فهي لم تتحدث عن أهلها حتى الآن ، فسألها :
وهل تزورين أهلك ؟ … أشاحت بوجهها وقالت :
أنا ليس لي أهل … أقصد ليس لي " أم " .
ابتسم الدكتور سامي ابتسامة خفيفة … يبدو أنه بدأ يضع إصبعه على الجرح ، فسألها :
حدثيني عن أهلك ؟ ..
لا أعرف عنهم شيئا …
أهم بعيدون عنك ؟ … فقالت بيأس قاتل :
لا ، إنهم يشاركوننا بلدنا وحتى شارعنا .
تساءل بدهشة : ومتى رأيتهم آخر مرة ؟
فأجابت وكأنها تحاول صرف أمر مزعج : لا أذكر !! …
فقال لنفسه : أما الآن فقد وجدتها !! … والتفت إليها وسألها :
هل من الممكن أن تحدثينني عن طفولتك ؟
بدت وكأنها خائفة … مضطربة … وجلة … شحب وجهها وضاقت أنفاسها ، وارتجفت أطرافها وقالت :
لا … لا أرجوك ، أنا لا أستطيع ، أرجو إعفائي …إني أخاف ، أخشى أن …
فنظر إليها نظرة إشفاق وقال لها :
اطمئني ، فلن يعلم أحد بذلك …
هدأ روعها قليلا وبدأت حديثها بعد تردد :
كنت في الثالثة من عمري عندما ماتت أمي رحمة الله عليها ، أذكر وجهها الجميل وصوتها الرخيم الحنون ، إنها لا تغيب عني ، تركتني طفلة وحيدة في بيت كبير ومع أب غارق حتى أذنيه في أمور دنياه ، أذكر أن جدتي لأمي احتضنتني فترة ، غبت فيها عن بيتي وألعابي وأدواتي وذكريات أمي ، وغاب وجه أبي عني ، كانت جدتي تغمرني بالعطف والهدايا ، حتى إذا بلغت السادسة من عمري مرضت جدتي وأرسلت إلى والدي كي تستشيره في أمري ، فاقترح بأن يأخذني لكي أعيش معه في بيته الجديد ومع زوجته الجديدة ، وكانت الصدمة الثانية القاسية في حياتي، فقد حزنت على جدتي أضعاف حزني على أمي وكيف لا وقد عوضتني الكثير مما افتقدته ..
أخذني والدي وأمسك بيدي ، شعرت منذ الوهلة الأولى بخشونة يده وقسوتها ، ووضعني في سيارته الفارهة وانطلق بي …
أدخلني بيته ، كان كل ما في البيت غريبا علي ، أشار إلى سيدة مدللة تجلس في الركن وتشاهد الشاشة وقال : هذه أمك يا " ساهرة " ، فابتسمت تلك السيدة ابتسامة صفراء ، وهزت رأسها مع خصلات شعرها ولم تغير جلستها وقالت ببرود : أهلا أهلا … أنت " ساهرة " إذن … أصبحت صبية يمكن الاعتماد عليها ..
رأيت صغارا من حولي ، منهم من يركلني ومنهم من كان يضحك معي أو علي لا أدري … مشيت في البيت خطوات متثاقلة … شعرت أن العيون علي معقودة ، والأنفاس علي معدودة …
جلست بجوار والدي تائهة النظرات ، لا أدري ما بي … حاولت أن أمسك يده فقالت السيدة بصوت حازم :
اسمعي يا ( ساهرة ) ، أنا لا أحب الدلع … اجلسي مؤدبة ، مفهوم ؟!!
وقفت وأردت التحرك ، فقالت :
اسمعي يا بنت .. لا بد أن تعرفي التعليمات ، انظري لهذا البيت كم هو مرتب ونظيف وأنيق وجميل ، وأنا لا أحب الفوضى التي يحدثها أمثالك من الصغار … وأردفت :
اسمعي أنا لا أحب أن أراك في كل المواقع في هذا البيت … افهمي منذ الآن أن هذا طريقك لتلك الغرفة التي ستكون غرفتك … بجوارها حمام يمكنك استعماله ، وهذا الطريق الذي يؤدي إلى المطبخ … طبعا يمكنك أن تدخلي المطبخ وقت استدعائك ، مفهوم ؟!! .
نظرت إلى والدي فتجاهل نظراتي ، وأشاح بوجهه عني ، وقال بصوت هادئ : ادخلي غرفتك يا حبيبتي واستريحي ..
مشيت بخطوات متثاقلة ، وبدأت أشعر برغبة جارفة في البكاء … لكني كتمت دموعي وأنفاسي وفتحت باب غرفتي وجلست فيها …
يا الله … صحيح أن الغرفة جميلة وكل ما فيها أنيق ومرتب ، لكني أشعر أنها غريبة عني … وأنا عنها أشد غرابة ، وقفت ونظرت من النافذة فرأيت سيدة البيت … تقطف ورودا جميلة … تمنيت لو أكون بجوارها لأقطف وردة أو أنعم بعبيرها ، تحلق الصبية حولها ونادوني … رفعت رأسها ونظرت إلي نظرات قاسية … انتحرت ابتسامتي فورا … قالت : أغلقي الشباك واجلسي في غرفتك مؤدبة ولا تحاولي التجسس على الآخرين … وتمتمت : يا الله يبدو أنها فتاة متعبة …
بوجوه من القسوة لا أنساها استقبلتني زوجة أبي ، فزرعت بذورا من الحزن والأسى واللوعة والحرمان في سويداء قلبي … وهكذا فقد تقلبت بين أنواع من الحرمان والأسى وتجرعت كؤوس المرارة والعلقم على مر الأيام …
قال الدكتور بدهشة : … وماذا كان موقف والدك ؟ أجابت :
والدي كان يحاول الدفاع عني أحيانا ، لكنه كان لا يصمد كثيرا أمام شكاويها وألاعيبها وكيدها لي … بل كانت تحول بيني وبين الكلام مع والدي مباشرة ، وكان هو يكتفي بنشرة الأخبار التي تبثها له كل يوم …
نظر الدكتور نظرات بعيدة وقال :
قد أجد بعض المبررات لنظرتك السوداوية البائسة لهذه الحياة ، لكن لم أدرك حتى الآن لماذا كل هذا الحزن والتشاؤم وهذه الكآبة القاتلة ؟ …
عشرون عاما عشتها بين أهلي الغرباء .. عشرون عاما يا حضرة الدكتور عشتها على رصيف الحياة لكن وسط بيت وعائلة …
كانت السيدة ربة البيت تسهر من أجل إطفاء بريق سعادة قد يلوح بها الدهر لي ، كان حزنها يتصاعد وصوتها يعلو عندما تبصر على وجهي شبه ابتسامة … كان ذهنها متوقدا بالأوامر السريعة التي تقطع علي فرحي وابتسامتي وتفكيري وتعليمي ، لقد أصرت أن تقلب كل ضحكة أضحكها إلى دموع منهمرة … وكل فكرة حلوة إلى فكرة مدمرة ، أنا يا حضرة الدكتور لم أعرف سوى قبح الحياة وضياعها وتشوهها وترهلها … لقد حاولت الـ..
وصمتت ومسحت دموعا انحدرت على وجنتيها … ثم أكملت : أنا أكره الحياة أريد أن تنتهي وبأقصى سرعة !! ابتسم الدكتور ابتسامة هادئة وقال : ربما تكون الحياة لا تستحق أن تعاش كما تشعرين … ولكن ألا تتمنين العيش من أجل صغارك ؟ ما ذنب هؤلاء الصغار ؟ أترغبين أن تغرسي في قلوبهم ما غرس في قلبك ؟! .
يؤسفني أن أقول لك يا دكتور … بأنني أشعر بأن الأمومة شرف لا يستحقه أمثالي … يبدو لي أني لست إنسانة كما تظنون .. ربما تغيرت فصيلة دمي … وتبدلت خلايا جسدي ، أجل أنا لست إنسانة ولا أستطيع أن أتصرف تصرفات إنسانية حتى مع صغاري وزوجي …
أنا جسد حي وروح ميتة قتلت ولم يعاقب القانون قاتلها ، أنا من يصدق علي وصف الشاعر القائل :
وقـــاتل النــفــس مأخوذ بفــعلــته وقـــاتل الــروح لا يــدري به أحـــد
دكتور … أرجوك هل تستطيع مساعدتي ؟ هل أجد عندك بلسما ؟ ..
فأجابها الدكتور بثقة : إن كآبتك شديدة و مزمنة ، ويؤسفني أن أخبرك بأن بلسمك ليس عندي ولن تجديه إلا في عالم المعاني الرفيعة وفي ظل كتاب الله ، أنصحك بالتعرف على أخوات صادقات مؤمنات ، فهن الوحيدات القادرات على إروائك بينابيع خير دفاق تغسل ما في قلبك من ران وأدران … عندها سيتدفق الخير في دمك ويفيض على يديك ، فيروي صغارك ومجتمعك بل والإنسانية أجمــع ..
- التصنيف: