عهد (نظام الملك) في دولة السلاجقة

منذ 2014-01-25

قال عنه الذهبي: "الوزير الكبير، نظام الملك، قوام الدين، أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، عاقل، سائس، خبير، سعيد مُتديِّن، محتشم، عامر المجلس بالقراء والفقهاء، أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد، وأخرى بنيسابور، وأخرى بطوس، ورغَّب في العلم، وأدر على الطلبة الصلات، وأملى الحديث، وبعد صيته، تنقلت به الأحوال إلى أن وزر للسلطان ألب أرسلان، ثم لابنه ملكشاه، فدبَّر ممالكه على أتم ما ينبغي، وخفف المظالم، ورفق بالرعايا، وبنى الوقوف، وهاجرت الكبار إلى جانبه، وأشار إلى ملكشاه بتعيين القواد والأمراء الذين فيهم خُلقٌ ودِينٌ وشجاعة، وظهرت آثار تلك السياسة فيما بعد، ومن هؤلاء القواد الذين وقع عليهم الاختيار آق سنقر جد نور الدين محمود الذي ولي على حلب وديار بكر والجزيرة".

 

قال عنه الذهبي: "الوزير الكبير، نظام الملك، قوام الدين، أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، عاقل، سائس، خبير، سعيد مُتديِّن، محتشم، عامر المجلس بالقراء والفقهاء، أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد، وأخرى بنيسابور، وأخرى بطوس، ورغَّب في العلم، وأدر على الطلبة الصلات، وأملى الحديث، وبعد صيته، تنقلت به الأحوال إلى أن وزر للسلطان ألب أرسلان، ثم لابنه ملكشاه، فدبَّر ممالكه على أتم ما ينبغي، وخفف المظالم، ورفق بالرعايا، وبنى الوقوف، وهاجرت الكبار إلى جانبه، وأشار إلى ملكشاه بتعيين القواد والأمراء الذين فيهم خُلقٌ ودِينٌ وشجاعة، وظهرت آثار تلك السياسة فيما بعد، ومن هؤلاء القواد الذين وقع عليهم الاختيار آق سنقر جد نور الدين محمود الذي ولي على حلب وديار بكر والجزيرة".



قال عنه ابن كثير: "من أحسن الملوك سيرة، وأجودهم سريرة، وقام ولده عماد الدين زنكي ببداية الجهاد ضد الصليبيين، ثم قام من بعده نور الدين محمود، هذه الأسرة هي التي وضعت الأساس لانتصارات صلاح الدين والظاهر بيبرس وقلاوون ضد الصليبيين، وافتتحت عهد التوحيد والوحدة في العالم الإسلامي، وكذلك كان آق سنقر البرسقي من قواد السلطان محمود السلجوقي، وكان أميراً للموصل، واشتغل بجهاد الصليبيين، وفي سنة 520هـ قتله الباطنيون وهو يصلي في الجامع الكبير في الموصل".



قال عنه ابن الأثير: "وكان مملوكاً تركياً خيراً، يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان خير الولاء، يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجداً، ويحدثنا المؤرخ أبو شامة عن آثار السلاجقة لا سيما في زمن نظام الملك: "فلما ملك السلجوقية جددوا من هيبة الخلافة ما كان قد درس لا سيما في وزارة نظام الملك، فإنه أعاد الناموس والهيبة إلى أحسن حالاتها".



1- ضبطه لأمور الدولة



لما تولى ملكشاه أمور الدولة انفلت أمر العسكر، وبسطوا أيديهم في أموال الناس، وقالوا: ما يمنع السلطان أن يعطينا الأموال إلا نظام الملك، وتعرَّض الناس لأذى شديد، فذكر ذلك نظام الملك للسلطان، وبيَّن له ما في هذا الفعل من الضعف، وسقوط الهيبة والوهن، ودمار البلاد، وذهاب السياسة، فقال له: "افعل في هذا ما تراه مصلحة"، فقال له نظام الملك: "ما يمكنني أن أفعل إلا بأمرك"، فقال السلطان: "قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك فأنت الوالد"، وحلف له، وأقطعه إقطاعاً زائداً على ما كان، وخلع عليه، ولقبه ألقاباً من جملتها: "أتابك ومعناه الأمير الوالد"، فظهر من كفايته، وشجاعته، وحسن سيرته ما أثلج صدور الناس، فمن ذلك أن امرأة ضعيفة استغاثت به فتوقف يُكلِّمها وتُكلِّمه، فدفعها بعض حجّابه، فأنكر ذلك عليه، وقال: "إنما استخدمتك لأمثال هذه، فإن الأمراء والأعيان لا حاجة لهم إليك، ثم صرفه عن حجابته".



2- التصور النظري للدولة عند نظام الملك



كان النظام مؤمناً بالإسلام، مقدساً لتعاليمه، كما كان شغوفاً بعلومه، محترِماً لأعلامه، حتى صار دينه ودولته على السواء، وأن كلاًّ منهما يكمل الآخر كما تستكمل الأرض بالسماء، ولفرط تثمين النظام للدين، وشدة دفاعه عن الدولة؛ يُحار فإنه يرى الدولة وسيلة من وسائل نشر الإسلام وإذاعته بين الناس، وقد ظهر علماء كرام في عهد النظام بيَّنوا ارتباط الدين بالدولة بحيث صار وسيلة لها وغاية في آن واحد، فالإمام الغزالي والماوردي يقولان: "إنه ليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه، وطمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، كما أن السلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب حتى يرى أهل الطاعة فيه فرضاً، والتناصر له حتماً"، وقيل: "الدين أس والسلطان حارس، وما لا أس له فمهزوم، وما لا حارس له فضائع".



وشاعت هذه المقولة أيضاً في شرق العالم الإسلامي، وأخذ يرددها الطرطوشي وابن خلدون وغيرهم في غربه... وبذلك الدافع من إيمانه القوي في الدين، واعتقاده الراسخ في إصلاحه للحياة الفانية، وبذلك اليقين من أعماق نفسه بضرورة الدولة العادلة لرعاية الناس وإسعادهم؛ كتب رسالته في السياسة، ووضع فيها الأسس العامة للدولة الجديدة التي كان ولم يزل يدأب من أجلها، ويضع الخطط اللازمة لتكوينها، وما كان النظام خيالياً حالماً وهو يخطط لمعالم دولته المنشودة كمن يرسم صورة زيتية على ورقة بيضاء استجابة لداعي الفن، أو كمن سبقه من أصحاب الجمهوريات والمدن الفاضلة، وإنما كان أقرب إلى الواقع منه إلى الخيال، وقد انطلقت رؤيته للدولة من أصول المذهب السني والتي نظّر لها علماء عصره كالغزالي والجويني، وهؤلاء دعمهم النظام دعماً معنوياً ومادياً يأتي بيانه في محله بإذن الله تعالى.



وقد كان سلاطين السلاجقة الأوائل يدينون بالإسلام، وكانوا في أشد الحاجة لفهمه، ولذلك فقد حاول وزيرهم الكبير نظام الملك أن يوجه عنايتهم إلى العلم، وحرمتهم للعلماء، فقد تكلم في الكتاب عن السلطان، وعن واجباته واختصاصه، وعن خزينة الدولة والمراسيم السلطانية، والحاشية السلطانية، والمائدة السلطانية، والاستقبالات السلطانية، والحرس السلطاني، وناظر الخاصة، والوزير والوزارة، والموظفين في الدولة، والسفراء بين الدول، والقضاة والقضاء، والمحتسبين للمراقبة، والولاة وأمراء الإقطاع، والغلمان والتجنيد، والجيش وإعداده، والألقاب وتحديدها.



3- اهتمام نظام الملك بالتنظيمات الإدارية



اهتم نظام الملك بالتنظيمات الإدارية فكان اليد الموجهة لأداء الدولة في عهد السلطان ألب أرسلان، واتسعت سلطاته في عهد السلطان ملكشاه فأشرف بنفسه على رسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية بشكل كبير مستفيداً من فهمه ومعرفته لنظم الإدارة، وقد تضمن كتاب (سياست نامه) الذي ألفه هذا الوزير في الآراء والنظريات الإدارية التي تُعتبَر أساساً لنظام الحكم، وإدارة الدول والممالك، وتظهر من خلال كتاب (سياست نامه) أهم الطرق الإدارية التي اتبعها الوزير نظام الملك في إدارته للدولة السلجوقية، ويأتي في مقدمتها وقوفه بشدة ضد تدخل أصدقاء السلطان المقربين في شئون الدولة حتى لا يتسبب ذلك في اضطراب إدارتها، كذلك كان يهتم بشكل خاص بالبريد الذي كان رجاله يوافون الحكومة بكل أخبار البلاد الخاضعة لها.



هذا؛ فضلاً عن حرصه الشديد على إرسال المخبرين إلى جميع الأطراف في هيئة التجار والسياح، والمتصوفة والدراويش والعقارين، يتنسمون الأخبار، ويرسلونها للسلطان أولاً بأول حتى لا يخفى عليه شيء من أمور مملكته، وقد نجح نظام الملك في إحباط عدد من المؤامرات ضد الحكومة المركزية بفضل ما كان يصل إليه عن طريق أولئك المخبرين.



كما عمل نظام الملك على الحد من استغلال الموظفين والعمال لسلطاتهم حتى لا يرهقوا الرعية بالرسوم والضرائب الباهظة، وكان يغير الولاة والعمال مرة كل سنتين أو ثلاث ضماناً لعدم تلاعبهم في أعمالهم، ولما ألغى السلطان ألب أرسلان وظيفة صاحب البريد، ووظيفة صاحب الخبر؛ رتب وزيره نظام الملك في كل مدينة رجلاً نزيهاً لمراقبة الوالي والقاضي والمحتسب ومن يجري مجراهم من الموظفين، وموافاتهم بأخبارهم أولاً بأول، كذلك كان نظام الملك يدقق في اختيار الموظفين فيختار من كان منهم أغزر علماً، وأزهد نفساً، وأعف يداً، وأقل طمعاً، وكان يختار لوظيفتي صاحب البريد وصاحب الخبر أناساً لا يرقى الشك إليهم لحساسية هذا العمل، ويتم تعيينهم من قِبل السلطان نفسه.



وكان نظام الملك يصرِف مرتبات مجزية لموظفي الدولة خشية أن يضطر الموظف إلى الاختلاس من مال الدولة، أو يستغل منصبه ويتسلط على أموال الرعية، كما كان حريصاً على مراجعة حسابات الدولة في نهاية كل عام لمعرفة الدخل والمنصرف والموازنة بينهما، ولكي يضمن هذا لنظام الملك تنفيذ خطته الإدارية بدقة استعان بعددٍ من كبار موظفي الدولة المخلصين والأكفاء، وكون منهم ما يشبه المجلس الاستشاري مهمته -فيما يبدو- دراسة ما يعرض عليه من أمور مهمة، ووضع الحلول الملائمة لها، ومن ثم متابعة تنفيذها بدقة، وكانت شئون دولة السلاجقة قبل تولي نظام الملك الوزارة غير منظمة، فتطرق الخلل إلى إدارة الولايات التابعة لها، وساءت الحالة المالية فيها نتيجة لخراب أراضيها، ولعدم قيام المشرفين عليها بما تحتاج إليه من عمارة وإصلاح، فلما جاء نظام الملك إلى الوزارة نظم شئون تلك الولايات، وعمر أراضيها، وأقر سلطة الدولة في النواحي التي كادت تخرج من حظيرتها.



4- التفكير الاقتصادي عند نظام الملك



كان لنظام الملك دور مهم في إصلاح الأراضي الزراعية، وتنظيم توزيعها، فقد جرت العادة لدى الخلفاء والأمراء أن تجني الأموال في البلاد، وتجمع في العاصمة؛ فلما اتسعت رقعت الدولة السلجوقية في عهد نظام الملك لاحظ أن دخل الدولة من خراج الأراضي الزراعية قليل لحاجتها إلى الإصلاح، فضلاً عن عدم اهتمام الولاة بها، فوجد أن من الأصلح للدولة أن توزع النواحي على شكل إقطاعات على رؤساء الجند؛ على أن يدفع كل مقطع مبلغاً من المال لخزانة الدولة مقابل استثماره للأراضي التي أقطعت له، فكان هذا الإجراء سبباً في تنمية الثروة الزراعية، إذ اهتم المقطعون بعمارتها مما أدى إلى زيادة إنتاجها، وظل هذا النظام قائماً حتى زالت الدولة السلجوقية، ويلاحظ أن نظام الإقطاع في العهد السلجوقي يختلف كثيراً عن الإقطاع في العهد البويهي، لأن الإقطاع في العهد البويهي لم يكن عاماً شاملاً، ولم يشمل كل العسكريين.



وكان الهدف منه تعويض الجند عن أرزاقهم المتأخرة وليس الإصلاح الزراعي، حتى إن بعض القواد البويهيين كانوا يخربون إقطاعاتهم ثم يردونها ويعتاضون عنها بإقطاعات أخرى يختارونها من أجل تحسين دخلهم الشخصي لا دخل الدولة، أما في العهد السلجوقي فيتعلق حق المقطع بخراج الأرض لا بالأرض ذاتها، وليست له سيطرة على المشتغلين بها، كما أنه يخضع لسلطة الحكومة وعليه ألا يسيء استعمال إقطاعه، كما يجوز نزع الإقطاع من المقطع إذا لم يقم بالالتزامات المفروضة عليه، وكان الإقطاع في العهد السلجوقي لفترة محددة، لهذا عمل المقطعون جهدهم على تحسين إقطاعاتهم، وتنظيمها والاستفادة منها، وتنفيذ جميع الالتزامات المفروضة عليهم كي يكسبوا رضا الحكومة، ويستمروا في استثمار الأراضي التي أقطعت لهم.



وكذلك طلب الوزير نظام الملك من العمال والولاة أن يكونوا على صلة تامة بالمزارعين، ويتفقدوا أحوالهم، ويمدوا لهم يد المساعدة بتزويد من يحتاج منهم بالبذور والدواب، وأن يحسنوا معاملة الزراع حتى لا يضطروا إلى هجر مواطنهم، ويبدو أن الوزير نظام الملك استهدف من توزيعه الأراضي على رؤساء الجند كإقطاعات عدة أمور وهي: أنه أدرك أن معظم أفراد الجيش السلجوقي من قبائل مختلفة العناصر، فأراد أن يجعل تلك الجماعات تستقر في أراض تقطع لها، فترتبط بالأرض، وتشعر بشعور المواطنة مما يسهل على الدولة السيطرة عليها، وتقل المنازعات فيما بينها مما يخفف أعباء الحكومة المركزية الإدارية والحربية، إذ تصبح تلك الإقطاعيات مستقلة بتنظيم أحوالها، وتستطيع الوقوف في وجه من يحاول الاعتداء عليها، كما أن سكن تلك الجماعات في أراض زراعية محددة يدفعها إلى استصلاح الأرض وزراعتها، والاستفادة من خيراتها، فتزدهر الزراعة التي تعد من موارد الثروة.



5- عناية نظام الملك بالمنشآت المدنية



كان للوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي اهتمام كبير بالمنشآت المدنية خاصة دور العبادة، فبنى كثيراً من المساجد في مختلف البلاد الخاضعة للسلاجقة، كما اهتم بعمارة الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة النبوية، وأقام العديد من الرباطات بالعراق وفارس للعباد والزهاد، وأهل الصلاح والفقراء، ورتَّب لهم ما يحتاجون إليه من غذاء وكساء، وبنى الوزير نظام الملك مارستاناً بمدينة نيسابور.



6- أثره في النهوض بالحركة العلمية والأدبية



بذل الوزير نظام الملك جهداً واضحاً للنهوض بالحركة العلمية والأدبية، وكان محباً لأهل العلم، كثير الإحسان إليهم، حتى إنه رتب للعلماء رواتب ثابتة تصرف لهم بانتظام، وكان يقوم بصرف مرتبات ثابتة لاثني عشر ألف رجل من رجال العلم في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية، وكان مجلس الوزير نظام الملك يضم فحول العلماء في شتى فنون المعرفة، وقام بإنشاء المكتبات، وزودها بالكتب، فكانت سوق العلم في أيامه -كما يقول ابن الجوزي- قائمة، والعلماء في عهده مرفوعي الهامة، وقام بتأسيس المدارس النظامية، وقد انتشرت في كل من بغداد والبصرة، والموصل وأصفهان، وآمل وطبرستان، ومرو ونيسابور، وهراة وبلخ، وقام نظام الملك بإنشاء هذه المدارس في عهد السلطان السلجوقي ألب أرسلان، وسيأتي الحديث عنها في مبحث مستقل بإذن الله تعالى.



كان النظام رحمه الله يحب العلم وخصوصاً الحديث، شغوفاً به، وكان يقول: "إني أعلم بأني لست أهلاً للرواية، ولكني أحب أن أربط في قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".



فسمع من القشيري، وأبي مسلم بن مهر بن يزيد، وأبي حامد الأزهري، وكان حريصاً على أن تؤدي المدارس التي بناها رسالتها المنوطة بها، فعندما أرسل إليه أبو الحسن محمد بن علي الواسطي الفقيه الشافعي أبياتاً من الشعر يستحثه على المسارعة للقضاء على الفتن التي حدثت بين الحنابلة والأشاعرة؛ قام نظام الملك وقضى على الفتنة، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والعلماء حيث يقضي معهم جُلّ نهاره، فقيل له: "إن هؤلاء شغلوك عن كثير من المصالح!"، فقال: "هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي لما استكثرت ذلك"، وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري، وأبو المعالي الجويني؛ قام لهما وأجلسهما معه في المقعد، فإن دخل أبو علي الفارندي قام وأجلسه مكانه، وجلس بين يديه، فعوتب في ذلك فقال: "إنهما إذا دخلا عليّ قالا: أنت وأنت يطرونني، ويعظمونني، ويقولون فيّ ما لا فيّ، فأزداد بهما ما هو مركوز في نفس البشر، وإذا دخل عليّ أبو علي الفارندي ذكَّرني عيوبي وظلمي فأنكسِر، فأرجع عن كثير مما أنا فيه".



7- شيء من عبادته وتواضعه ومدح الشعراء له



قال عنه ابن الأثير: "وأما أخباره فإنه كان عالِماً ديناً، وجواداً عادلاً، حليماً كثير الصفح عن المذنبين، طويل الصمت، كان مجلسه عامراً بالقراء، والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح، كان من حفظة القرآن، ختمه وله إحدى عشرة سنة، واشتغل بمذهب الشافعي، وكان لا يجلس إلا على وضوء، وما توضأ إلا تنفَّل، وإذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه، فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة، وكان إذا غفل المؤذن ودخل الوقت أمره بالأذان، وهذا قمة حال المنقطعين للعبادة في حفظ الأوقات، ولزوم الصلوات، وكانت له صلة بالله عظيمة، وكان يواظب على صيام الاثنين والخميس، وله الأوقاف الدّارة الصدقات الباّرة"، وقال ذات مرة: "رأيت في المنام إبليس فقلت له: ويحك خلقك الله، وأمرك بالسجود له مشافهة فأبيت، وأنا لم يأمرني بالسجود له مشافهة وأنا أسجد له في كل يوم مرات، فأنشد يقول:


من لم يكن للوصال أهلاً *** كل إحسانه ذنوب"


وقد أجلسه المقتدي مرة بين يديه، وقال له: "يا حسن رضي الله عنك رضا أمير المؤمنين عنك".



وكان يتمنى أن يكون له مسجد يعبد الله فيه مكفول الرزق، قال في هذا المعنى: "كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة، ومسجد أتفرَّد لعبادة ربي، ثم تمنيت بعد ذلك أن يكون لي رغيف كل يوم، ومسجد أعبد الله فيه"، ومن تواضعه أنه كان ليلة يأكل الطعام وبجانبه أخوه أبو القاسم، وبالجانب الآخر عميد خُراسان، وإلى جانب العميد إنسان فقير مقطوع اليد، فنظر نظام الملك فرأى العميد يتجنَّب الأكل مع المقطوع، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر، وقرَّب المقطوع إليه، فأكل معه، وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ويُقرِّبهم إليه ويُدنيهم، ومن شعره:


بعد الثمانين ليس قوة *** قد ذهبت شهوة الصبوة

كأنني والعصا بكفيّ *** موسى ولكن بلا نُبُوَّة



ويُنسَب إليه أيضاً:


تقوَّس بعد طول العُمر ظهري *** وداستني الليالي أيَّ دوس
فأمشي والعصا تمشي أمامي *** كأن قوامها وتر بقوس


وكان يتأثر بسماع الشعر، فعندما دخل عليه أبو علي القومَسَاني في مرضة مرضها يعوده فأنشد يقول:


إذا مرضنا نَوينا كل صالحة *** فإن شفينا فمنا الزيغ والزّللُ

نرجو الإله إذا خفنا ونسخطه *** إذا أمنا فما يزكو لنا عمل



فبكى نظام الملك، وقال: "هو كما يقول".



وقد مدحه الشعراء ومما قالوا فيه:


إذا زاره العافي تهلَّل وجهه *** وبشَّره منه التبسُّمُ والبشر

وقالوا فيه:


ما خلق الله تعالى وجلّ *** مثل وزير الوزراء الأجلّ

أروع كالنَّصل ولكنَّه *** أمضى من النصل إذا ما يسل


8- وفاته [485هـ]



في عام 485هـ يوم الخميس في العاشر من شهر رمضان وحين وقت الإفطار صلّى نظام الملك المغرب، وجلس على السماط، وعنده خَلقٌ كثير من الفقهاء والقُرَّاء والصوفية، وأصحاب الحوائج، فجعل يذكر شرف المكان الذي نزلوه من أراضي نهاوند، وأخبار الوقعة التي كانت بين الفرس والمسلمين في زمان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن استشهد هناك من الأعيان ويقول: "طوبى لمن لحق بهم".



فلما فرغ من إفطاره، خرج من مكان قاصداً مضرب حرمه، فبدر إليه حدث ديلمي كأنه مُستميح أو مستغيث، فعلق به وضربه، وحمل إلى مضرب الحرم، فيقال: "إنه أول مقتول قتلته الإسماعيلية الباطنية، فانبث الخبر في الجيش، وصاحت الأصوات، وجاء السلطان ملكشاه حين بلغه الخبر، مظهراً الحزن، والنحيب والبكاء، وجلس عند نظام الملك ساعة وهو يجود بنفسه حتى مات، فعاش سعيداً فقيداً حميداً، وكان قاتله قد تعثر بأطناب الخيمة فلحقه مماليك نظام الملك وقتلوه".



وقال بعض خدامه: "كان آخر كلام نظام الملك أن قال: لا تقتلوا قاتلي فإني قد عفوتُ عنه" وتشهّد ومات، ولما بلغ أهل بغداد موت نظام الملك حزنوا عليه، وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلاثة أيام، ورثاه الشعراء بقصائد منهم قصيدة مقاتل بن عطية حيث قال:


كان الوزير نظام الملك لؤلؤة *** يتيمة صاغها الرحمن من شرف

عزَّت فلم تعرِف الأيام قيمتها *** فردّها غيرة منه إلى الصدف


قال عنه ابن عقيل: "بهر العقول سيرة النظام جوداً وكرماً، وعدلاً وإحياء لمعالِم الدين، كانت أيامه دولة أهل العلم، ثم ختم له بالقتل وهو مارٌّ إلى الحج في رمضان فمات ملكاً في الدنيا ملكاً في الآخرة رحمه الله"، وقيل: "إن قتله كان بتدبير السلطان، فلم يُمهل بعده إلا نحو شهر".