من معاني الستر

منذ 2014-02-05

لقد حثَّ الإسلام على السَّتْر، ورغَّب فيه، واتَّخذ وسائل من أجل ذلك، فشرع حدَّ القذف، حتَّى لا يُطْلِق كلُّ أحد لسانه، وكذا أمر في إثبات حدِّ الزِّنى بأربعة شهود، ونهى عن أن يتجسَّس المسلم على أخيه، كما توعَّد بالعذاب لكلِّ من يشيع الفاحشة في المؤمنين.

 
 
لقد حثَّ الإسلام على السَّتْر، ورغَّب فيه، واتَّخذ وسائل من أجل ذلك، فشرع حدَّ القذف، حتَّى لا يُطْلِق كلُّ أحد لسانه، وكذا أمر في إثبات حدِّ الزِّنى بأربعة شهود، ونهى عن أن يتجسَّس المسلم على أخيه، كما توعَّد بالعذاب لكلِّ من يشيع الفاحشة في المؤمنين:
 
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النُّور: 19].
 
قال ابن كثير: أي: يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح، لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا أي: بالحدِّ، وفي الآخرة بالعذاب [1557] تفسير ابن كثير (6/29).
 
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].
 
عن مجاهد في قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا}، قال: خذوا ما ظهر لكم، ودعوا ما سَتَر الله [1558] تفسير   الطَّبري (21/375).
 
وقال الطَّبري: وقوله: {وَلا تَجَسَّسُوا يقول: ولا يتتبَّع بعضكم عَوْرة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظُّهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذمُّوا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره [1559] تفسير   الطَّبري (21/375).
 
وقال تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصِّلت: 22].
 
قال القرطبي: معنى {تَسْتَتِرُونَ}: تستخفون، في قول أكثر العلماء، أي: ما كنتم تستخفون من أنفسكم حذرًا من شهادة الجوارح عليكم، ولأنَّ الإنسان لا يمكنه أن يُخفِي من نفسه عمله، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية [1560] تفسير القرطبي (15/352).
 
وقال البيضاوي: أي: كنتم تَسْتَتِرون عن النَّاس عند ارتكاب الفواحش، مخافة الفضيحة، وما ظننتم أنَّ أعضاءكم تشهد عليكم بها، فما اسْتَتَرْتم عنها. وفيه تنبيه على أنَّ المؤمن ينبغي أن يتحقَّق أنَّه لا يمرُّ عليه حال إلا وهو عليه رقيب. {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصِّلت: 22] فلذلك اجترأتم على ما فعلتم [1561] تفسير البيضاوي (5/70).
 
  • ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويِّة:
كان النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرَّجل الشَّيء، لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ وهذا مشهور عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة [1562] انظر على سبيل المثال ما رواه البخاري (456، 750).
 
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلُّ أمَّتي معافى إلا المجَاهرين، وإنَّ من المجَاهرة: أن يعمل الرَّجل باللَّيل عملًا، ثمَّ يصبح وقد سَتَره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا. وقد بات يَسْتُره ربُّه، ويصبح يكشف سِتْر الله عنه» [1563] رواه البخاري (6069) واللَّفظ له، ومسلم (2990).
 
قال ابن الجوزي: المجَاهرون: الذين يجاهرون بالفواحش، ويتحدَّثون بما قد فعلوه منها سرًّا، والنَّاس في عافية من جهة الهمِّ مستورون، وهؤلاء مُفْتَضحون [1564] كشف المشكل لابن الجوزي (3/397).
 
قال العيني: أنَّ ستْر الله مستلزم لستْر المؤمن على نفسه، فمن قصد إظهار المعصية والمجَاهرة، فقد أغضب الله تعالى فلم يَسْتُره، ومن قصد التَّسَتُّر بها حياءً من ربِّه ومن النَّاس، مَنَّ الله عليه بِسِتره إيَّاه [1565] عمدة القاري للعيني (22/138).
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مؤمن كُرْبة من كُرَب الدُّنيا، نفَّس الله عنه كُرْبة من كُرَب الآخرة، ومن سَتَر على مسلم، سَتَره الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه» [1566] رواه مسلم (2699).
 
قال المباركفوري: «من سَتَر مسلمًا»، أي: بَدَنه أو عيبه بعدم الغيبة له، والذَّبِّ عن معائبه، وهذا بالنِّسبة إلى من ليس معروفًا بالفساد، وإلَّا فيُستحب أن تُرْفع قصَّته إلى الوالي، فإذا رآه في معصية، فينكرها بحسب القدرة، وإن عَجز، يرفعها إلى الحاكم إذا لم يترتَّب عليه مفسدة [1567] تحفة الأحوذي للمباركفوري (4/574).
 
وعن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عَورَاتهم، فإنَّه من اتَّبع عَوراتهم يتَّبع الله عَوْرته، ومن يتَّبع الله عَوْرته يفضحه في بيته» [1568] رواه أبو داود (4880)، وأحمد (4/420) (19791)، وأبو يعلى (13/419) (7423)، والبيهقي (10/247) (21696). وجوَّد إسناده العراقي في تخريج الإحياء (2/250)، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (4880): حسن صحيح.
 
فاسْتُر إخوانك، فإنَّه لا طاقة لك بحرب الله، القادر على كشف عيوبك، وفضح ذنوبك، التي لا يعلمها النَّاس عنك، وألْجِم لسانك عن الخوض في الأعراض، وتتبُّع العَورات، وإفساد صِيت إخوانك، وإساءة سُمْعَتهم [1569] هذه أخلاقنا لمحمود الخزندار (صـ 453).
 
وفي قصَّة ماعز بن مالك الأسلمي، عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف على نفسه بالزِّنى، وسأله أن يقيم عليه الحدَّ ليطهِّره، فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم برجمه [1570] حديث مشهور في صحيح البخاري (7/46) وصحيح مسلم (3/1328) عن جابر ابن عبد الله، وصحيح البخاري (7/46) عن أبي هريرة، وصحيح مسلم (3/1320) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم جميعًا. فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله مع من زنيت، وكذلك المرأة الغامديَّة [1571] صحيح مسلم (3/1321) (1695)، عندما أقرَّت على نفسها، لم يسألها النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
 
وفي إحدى روايات حديث ماعز، أنَّه جاء إلى أبي بكر الصِّديق، فقال له: إنَّ الآخر زنى -يريد نفسه- فقال له أبو بكر: هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ فقال: لا. فقال له أبو بكر: فتُب إلى الله، واسْتَتِر بسِتر الله؛ فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده. فلم تُقْرِره نفسه، حتَّى أتى عمر بن الخطَّاب، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر. فلم تُقْرِره نفسه حتَّى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنَّ الآخر زنى. فقال سعيد: فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرَّات، كلُّ ذلك يُعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى إذا أكثر عليه، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: أيشتكي، أم به جِنَّة؟ فقالوا: يا رسول الله، والله إنَّه لصحيح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبِكْر أم ثيِّب؟ فقالوا: بل ثيِّب، يا رسول الله، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجِم [1572] رواه مالك في لموطأ (5/1196)، واللَّفظ له، والنَّسائي في السُّنن الكبرى (4/281) (7178)، والبيهقي (8/228) (17455) من حديث سعيد بن المسيب. قال ابن حزم في المحلَّى (11/146)، وابن حجر في فتح الباري (12/125): مرسل. وقال ابن عبد البر في الاستذكار (6/470): رُوي متَّصلًا من وجوه.
 
قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث من الفقه: أنَّ السَّتْر أولى بالمسلم على نفسه -إذا وقَّع حدًّا من الحدود- من الاعتراف به عند السُّلطان، وذلك مع اعتقاد التَّوبة والنَّدم على الذَّنب، وتكون نيَّته ومعتقده ألَّا يعود، فهذا أولى به من الاعتراف، فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده، ويحبُّ التَّوَّابين [1573] التمهيد (23/119).
 
وفي رواية: أنَّ رجلًا اسمه هَزَّال، هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النَّبي صلى الله عليه وسلم فيخبره، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم «يا هَزَّال، لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك» [1574] رواه مالك في الموطأ (5/1198)، والنَّسائي في السُّنن الكبرى (4/306) (7277). من حديث سعيد بن المسيب. قال ابن حزم في المحلَّى (11/146)، والزَّيلعي في نصب الرَّاية (4/75): مرسل. وقال ابن عبد البر في التمهيد (23/125): [مرسل] وهو يستند من طرق صحاح.
 
قال أبو الوليد الباجي: وقوله صلى الله عليه وسلم لهَزَّال «يا هَزَّال، لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك». هَزَّال هذا هو: هَزَّال بن رئاب بن زيد بن كليب الأسلمي. ويريد بقوله: «لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك». يريد: ممَّا أظهرته من إظهار أمره، وإخبار النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر به، فكان ستْره بأن يأمره بالتَّوبة، وكتمان خطيئته، وإنَّما ذكر فيه الرِّداء على وجه المبالغة، بمعنى أنَّه لو لم تجد السَّبيل إلى سِتْره إلَّا بأن تَسْتُره بردائك ممَّن يشهد عليه، لكان أفضل ممَّا أتاه، وتسبَّب إلى إقامة الحدِّ عليه، والله أعلم وأحكم [1575] المنتقى شرح   الموطأ لأبي الوليد الباجي (7/135).
 
وقال ابن الأثير: ومنه حديث ماعز «ألَا سَتَرْته بثوبك يا هَزَّال». إنما قال ذلك حبًّا لإخفاء الفضيحة، وكراهيةً لإشاعتها [1576] النِّهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (2/341).

المصدر: الدرر السنية