فوائد الشفقة ودرجاتها وصورها

منذ 2014-02-13

أنَّ المتَحَلِّي بها يتحلَّى بخُلُق تحلَّى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّ أهلها مخصوصون برحمة الله، جزاءً لشَفَقَتهم ورحمتهم بخَلْقه، أنَّ من ثمارها: محبَّة الله للعبد، ومن ثمَّ محبَّة النَّاس له، أنَّها ركيزة عظيمة ينبني عليها مجتمع مسلم متماسك، يعطف بعضه على بعض، ويُشفق بعضه على بعض.

  • فوائد الشَّفَقَة:
  1. أنَّ المتَحَلِّي بها يتحلَّى بخُلُق تحلَّى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
     
  2. أنَّ أهلها مخصوصون برحمة الله، جزاءً لشَفَقَتهم ورحمتهم بخَلْقه.
     
  3. أنَّ من ثمارها: محبَّة الله للعبد، ومن ثمَّ محبَّة النَّاس له.
     
  4. أنَّها ركيزة عظيمة ينبني عليها مجتمع مسلم متماسك، يعطف بعضه على بعض، ويُشفق بعضه على بعض.
     
  5. أنَّها مظهر من مظاهر العِشْرة الطَّيِّبة، قال محمَّد الغزي: ومنها: أن تكون الشَّفَقَة على الأخ الموافق أكثر من الشَّفَقَة على الولد. قال أبو زائدة: كتب الأحنف إلى صديق له: أمَّا بعد، فإذا قدم أخ لك موافق، فليكن منك بمنزلة السَّمع والبصر؛ فإنَّ الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف. ألم تسمع قول الله عزَّ وجلَّ لنوح عليه السَّلام في ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] [1864] (آداب العشْرة) لمحمد الغزي (ص 52).
     
  6. من أعظم فوائدها: أنَّها خُلق مُتعدٍّ إلى جميع خَلْق الله: من إنسان أو حيوان، بعيدٍ أو قريبٍ، مسلمٍ أو غير مسلمٍ.
     
  7. أنَّها سبب للالتفات إلى ضَعفة المجتمع من الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والكبار والعَجَزة وغير ذلك من الفوائد العظيمة.

     
  • الشَّفَقَة المذمومة: وهو ما يحصل بسببها تعطيل لشرع الله، أو تهاون في تطبيق حدوده وأوامره، كمن يُشْفِق على من ارتكب جُرمًا يستحق به حدًّا، فيحاول إقالته والعفو عنه، ويحسب أنَّ ذلك من الشَّفَقَة على الخَلق، وهو ليس منها في شيء.

    قال الحسن: إن منعته أُمُّه عن العشاء في الجماعة -شفقةً- لم يُطِعها [1865] رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (644). وينظر: (تغليق التعليق) لابن حجر (2/275).
    قال العيني: يعني: إن منعت الرَّجل أُمُّه عن الحضور إلى صلاة العشاء مع الجماعة شَفَقَة عليه، أي: لأجل الشَّفَقَة. لم يُطِع أمَّه فيه، مع أنَّ طاعة الوالدين فرض في غير المعصية، وإنَّما عيَّن العشاء، مع أنَّ الحُكم في كلِّ الصَّلوات سواء؛ لكونها من أثقل الصَّلاة على المنافقين، وإنَّما عيَّن الأمَّ مع أنَّ الأب كذلك في وجوب طاعتهما؛ لأنَّ الأمَّ أكثر شَفَقَة من الأب على الأولاد [1866] (عمدة القاري) (5/159).

    وعن عامر بن سعد، أنَّ أسامة بن زيد رضي الله عنه أخبر والده سعد بن أبي وقاص: أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي أَعْزِل عن امرأتي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لِمَ تفعل ذلك؟» فقال الرَّجل: أُشفِق على ولدها، أو على أولادها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان ذلك ضارًّا، ضرَّ فارس والرُّوم». وقال زهير في روايته: إن كان لذلك فلا، ما ضارَّ ذلك فارس ولا الرُّوم [1867] رواه مسلم (1443).

    أو كمن يُشْفِق على الطُّلَّاب فيتركهم يغشُّون في الامتحان شَفَقَة منه عليهم أن يرسبوا.
    أو كمن يَقتل من الأطباء -بدافع الشَّفَقَة- مرضاهم الذين لا يُرجى شفاؤهم، ويتألَّمون من مرضهم.. فكلُّ هذا ممَّا لا تجوز فيه الشَّفَقَة.
 
  • درجات الشَّفَقَة: للشَّفَقَة ثلاث درجات، كما ذكر الإمام الهروي في كتابه منازل السائرين:
  1. الدَّرجة الأولى: إشْفَاق على النَّفس أن تَجْمَح إلى العِناد، وإشْفَاق على العمل أن يصير إلى الضَّياع، وإشْفَاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها [1868] منازل السائرين (ص 28).
    قال ابن القيِّم في شرحه للدَّرجة: إشْفَاق على النَّفس أن تَجْمَح إلى العِناد: أي: تُسرع وتذهب إلى طريق الهوى والعصيان، ومعاندة العبوديَّة. وإشْفَاق على العمل أن يصير إلى الضَّياع: أي: يخاف على عمله أن يكون من الأعمال التي قال الله فيها: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان:23]، وهي الأعمال التي كانت لغير الله، وعلى غير أمره وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويخاف أيضًا أن يَضِيع عمله في المستقبل، إمَّا بتركه، وإمَّا بمعاصي تفرِّقه وتُحبِطه، فيذهب ضائعًا. قال: وإشْفَاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها: هذا قد يوهم نوع تناقض، فإنَّه كيف يُشفِق مع معرفة العُذر؟! وليس بمتناقض، فإنَّ الإشْفَاق كما تقدَّم خوف مقرون برحمة، فيُشفِق عليهم من جهة مخالفة الأمر والنَّهي، مع نوع رحمة، بملاحظة جَرَيان القدر عليهم [1869] مدارج السالكين (1/514).

     
  2. الدَّرجة الثَّانية: إشْفَاقٌ على الوقت أن يشوبه تفرُّقٌ، وعلى القلب أن يزاحمه عارض، وعلى اليقين أن يُداخله سبب [1870] منازل السائرين لأبي إسماعيل الهروي (ص 28).
    قال ابن القيِّم: الدَّرجة الثَّانية: إشْفَاق على الوقت أن يشوبه تفرُّق، أي: يحذر على وقته أن يخالطه ما يفرِّقه عن الحضور مع الله عزَّ وجلَّ. قال: وعلى القلب أن يزاحمه عارض، والعارض المزاحم: إمَّا فَتْرة، وإما شُبْهة، وإمَّا شهوة، وكلُّ سبب يعوق السَّالك. قال: وعلى اليقين أن يُداخله سبب، هو الطُّمأنينة إلى من بيده الأسباب كلُّها، فمتى داخل يقينه ركونٌ إلى سبب وتعلُّق به، واطمأنَّ إليه، قدح ذلك في يقينه، وليس المراد قطع الأسباب عن أن تكون أسبابًا، والإعراض عنها، فإنَّ هذا زندقة وكُفر ومُحَال، ولكن الذي يريد أن يُحْذَر منه: إضافة يقينه إلى سبب غير الله، ولا يتعلَّق بالأسباب، بل يَـفْنَى بالمسبِّب عنها [1871] مدارج السالكين لابن القيم (1/514-515).

     
  3. الدَّرجة الثَّالثة: إشْفَاق يصون سعيه من العُجب، ويكُفُّ صاحبه عن مخاصمة الخَلْق، ويحمل المريد على حفظ الجِدِّ [1872] منازل السائرين لأبي إسماعيل الهروي (ص 28).
    قال ابن القيِّم: الدَّرجة الثَّالثة: إشْفَاقٌ يصون سعيه عن العُجب، ويكُفُّ صاحبه عن مخاصمة الخَلْق، ويحمل المريد على حفظ الجِدِّ. الأوَّل: يتعلَّق بالعمل، والثَّاني: بالخَلْق، والثَّالث: بالإرادة، وكلٌّ منها له ما يُفسده. فالعُجب: يُفسد العمل، كما يُفسده الرِّياء، فيُشفِق على سعيه من هذا المفْسِد شَفَقَةً تصونه عنه. والمخاصمة للخَلْق مُفْسِدة للخُلُق، فيُشفِق على خُلُقه من هذا المفْسِد شَفَقَةً تصونه عنه. والإرادة يُفْسِدها عدم الجِدِّ، وهو الهزل واللَّعب، فيُشْفق على إرادته مما يُفسدها. فإذا صحَّ له عمله وخُلُقه وإرادته، استقام سلوكه وقلبه وحاله [1873] مدارج السالكين (1/515-516).
 
  • صور الشَّفَقَة:
أ- شَفَقَة الإمام على المأمومين، وتجنُّب ما يشق عليهم:
  1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: أَعْتم [1874] أَعْتم: دخل في وقت العتمة. (فتح الباري) (2/46). النَّبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتى ذهب عامَّة اللَّيل، وحتى نام أهل المسجد، ثمَّ خرج فصلَّى، فقال: «إنَّه لوقتها لولا أن أشقَّ على أمَّتي» [1875] رواه مسلم (638).
     
  2. عن أبي هريرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّ أحدكم النَّاس فليُخفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف والمريض، فإذا صلَّى وحده فليصل كيف شاء» [1876] رواه البخاري (703)، ومسلم (467) واللَّفظ له.
 
ب-  الشَّفَقَة على الأبناء، والعطف عليهم، والحُزن إذا أصابهم مكروه:
  1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قَدِم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أتقبِّلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم. فقالوا: لكنَّا -والله- ما نُقبِّل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأملك إن كان الله نزع منكم الرَّحمة»، وقال ابن نمير: «من قلبك الرَّحمة» [1877] رواه البخاري (5998)، ومسلم (2317) واللَّفظ له. قال ابن عثيمين: وفي هذا دليلٌ على تقبيل الصِّبيان شَفَقَة عليهم ورقَّة لهم ورحمة بهم [1878] شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (2/554).
     
  2. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرْسَلت ابنة النَّبي صلى الله عليه وسلم إليه: إنَّ ابنًا لي قُبِض فائتنا. فأرسل يقرئ السَّلام، ويقول: «إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجل مسمًّى، فلتصبر ولتحتسب». فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينَّها، فقام، ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال، فرُفِع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّبي ونَفْسُه تتقَعْقَع [1879] تتقَعْقَع: تتحرك وتضطرب بصوت. (فتح الباري) لابن حجر (1/175).
    قال: حسبته أنَّه قال: كأنَّها شَنٌّ [1880] الشَنّ: القربة الخلقة اليابسة. (فتح الباري) (3/157).
    ففاضت عيناه. فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنَّما يرحم الله من عباده الرُّحماء». [1881] رواه البخاري (1284) واللَّفظ له، ومسلم (923).

     
  3. عن شدَّاد بن الهاد رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثمَّ كبَّر للصَّلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصَّبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاة، قال النَّاس: يا رسول الله، إنَّك سجدتَّ بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننَّا أنَّه قد حدث أمر، أو أنَّه يُوحى إليك. قال: «كلُّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتَحَلَني، فكرهت أن أُعْجِلَه حتى يقضي حاجته»[1882] رواه النسائي (2/229)، وأحمد (3/493) (16076). احتج به ابن حزم في (المحلى) (3/90)، وصحَّحه الألباني في (صحيح سنن النسائي) (2/229)، والوادعي في (الصَّحيح المسند) (475).
    فالنَّبي صلى الله عليه وسلم يركب الطِّفل على ظهره الشَّريف وهو ساجد، ولا يقوم من سجوده، ليُكمل الطِّفل لعبه، حتى لا يزعجه، رحمةً به، وشَفَقَةً عليه.
     
  4. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنَّما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكُبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسِّكين، أشقُّه بينهما. فقالت الصُّغرى: لا تفعل -يرحمك الله-، هو ابنها. فقضى به للصُّغرى»[1883] رواه البخاري (3427) واللَّفظ له، ومسلم (1720).
    قال ابن القيِّم: ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك، فطابت نفس الكبرى بذلك. استرواحًا منها إلى راحة التَّسلِّي، والتَّأسِّي بذهاب ابن الأخرى. كما ذهب ابنها، ولم تطِبْ نفس الصُّغرى بذلك، بل أدركتها شَفَقَة الأمِّ، ورحمتها، فناشدته أن لا يفعل، استرواحًا إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيًّا، وإن اتَّصل إلى الأخرى. [1884] (إغاثة اللهفان) لابن القيم (2/67).
     
  5. عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: بينما هو يقرأ من اللَّيل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ، فجالت الفرس، فسكت وسكتت الفرس، ثمَّ قرأ، فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشْفَق أن تصيبه، فلما اجْتَرَّه، رفع رأسه إلى السَّماء حتى ما يراها، فلما أصبح، حدَّث النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير. قال: فأشْفَقت -يا رسول الله- أن تطأ يحيى». [1885] رواه البخاري   (5018).
     
ج - الشَّفَقَة على النِّساء: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: تزوَّجني الزُّبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء، غير نَاضِح [1886] نَاضِح: الناضح البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقي عليه. (فتح الباري) (3/604). وغير فرسه، فكنت أَعْلِف فرسه، وأستقي الماء، وأَخْرِز غَرْبَه [1887] غَرْبَه: هو الدلو. (فتح الباري) (9/323). وأعجن، ولم أكن أُحْسِن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكنَّ نِسْوة صِدْقٍ، وكنت أَنْقُل النَّوَى من أرض الزُّبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي منِّي على ثُلُثي فَرْسخ، فجئت يومًا والنَّوَى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني، ثمَّ قال: إخ إخ. ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرِّجال [1888] رواه البخاري (5224) واللَّفظ له، ومسلم (2182).
قال النَّووي: وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشَّفَقَة على المؤمنين والمؤمنات، ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه [1889] (شرح النَّووي على مسلم) (14/166).
 
المصدر: الدرر السنية