شاب وشابة

منذ 2014-02-18

«رأيت غلامًا شابًا، وجارية شابة؛ فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان»

 

أما هو فالفتى الراتع في ريعان الشباب، وفي غضاضة التاسعة عشرة من عمره، كان أجمل الناس وجهًا؛ أبيضًا، وضيئًا، حسن الشعر، جميل الجسم، يركب ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عجز ناقته القصواء من المزدلفة إلى منى، فلما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة أتى المنحر عند الجمرة الصغرى فقال: «هذا المنحر، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم»، ثم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، واجتمعوا إليه يسألونه.

 

أما هي فامرأة من خثعم شابة حسناء وضيئة، جاءت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه ذلك، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، فهل يجزئ أن أحج عنه، قال: «نعم».

 

وكان الفضل بن العباس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليها، وأعجبه حسنها، وجعلت هي تنظر إليه، وأعجبها حسنه، فالتفت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فرأى الفضل ينظر إليها، فأدار يده الشريفة إليه، وأخذ بذقنه وعدله إلى الشق الآخر، فإذا جاءت من الشق الآخر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأس الفضل يلويه من ذلك الشق، فقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله لويْت عنق ابن عمك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت غلامًا شابًا، وجارية شابة؛ فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان»، وقال للفضل: «يا بن أخي إن هذا يوم مَن ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غُفر له».

 

ولك مع هذا الخبر وقفات:

 

1- لطفه صلى الله عليه وسلم في تصحيح الخطأ؛ فإنه لمّا التفتَ إلى الفضل، ورآه ينظر إلى المرأة؛ باشر بيده الشريفة صرف وجه الفضل إلى الجهة الأخرى، وهذه الحركة التي التقت فيها يد المصطفى مع وجه ابن عمه الفضل -كما أنها تصحيح خطأ-؛ فإن فيها أبوة وعاطفة ومشاعر جميلة، ولن تحدث في نفس الفتى إلاّ لذة الإحساس بقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته منه، وقد كان يمكن أن يصرفه عما هو فيه بأمر أو زجر، أو نظر شزر، ولكنه صلى الله عليه وسلم اختار هذا الأسلوب الرفيق اللطيف، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.

 

2- أنه صلى الله عليه وسلم صحّح الخطأ، ولم يجعل لنفسه حظًا في تقييم الخطأ، فعندما علّل صرف وجه الفضل علّله بخوفه عليه وعلى الفتاة من فتنة الشيطان، ولم يقل كيف يفعل ذلك وهو معي، وأنا أمامه، وقد اختصصته من بين كل الناس أن يكون رديفي، ونحو ذلك مما يلابس نفوس كثيرين إذا وقعت الأخطاء أمام أعينهم رأوا فيها تحدّيًا لهم، أو انتقاصًا لمكانتهم، فاختلط عليهم إنكار المنكر بالانتصار للجاه والنفس والمكانة، ومن ثم تتعقد عملية الإنكار، وتتداخل فيها الحظوظ.

 

3- لا تتضح لك الصورة المشرقة العاجبة للرفق النبوي في هذا الموقف إلا إذا ضممتها إلى الصورة الكاملة للمشهد كله؛ فحال النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم الحج الأكبر كانت في حال من الإجهاد المتواصل بعد سفر بعيد، وجهد طويل، ووقوفٍ في يوم عرفة، ومسيرٍ في زحام شديد من المزدلفة إلى منى، ومسؤولية عن هذه الجموع العظيمة حوله، والتي تزيد عن 120 ألفًا، وكان صلى الله عليه وسلم في حال استنفار تعليمي ودعوي تشوبه لهفة الوداع، وهذا كله يستنزف الطاقة النفسية، ويجعل الإنسان أقرب شيء إلى التوتر وسرعة الانفعال، ومع ذلك كله كان نبيك صلى الله عليه وسلم على هذه الحال من الخلق العظيم، والنفس الرضية؛ في تعليمه وتأديبه.

 

4- يعجبك بل يبهرك روعة التعليل الذي ردّ به النبي صلى الله عليه وسلم على عمه العباس عندما قال: يا رسول الله لويْت عنق ابن عمك، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم جوابًا فوريًا، ولكن عندما تتأمله ترى كل كلمة منه منتقاة بعناية بالغة؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «رأيت غلامًا شابًا، وجارية شابة»، وفي رواية: «غلاماً حدثًا، وجارية حدثة»، وفي هذا الوصف دلالة على تفهم رغائب الشباب، ونوع اعتذار عنهما بحداثة السن، وقلة الخبرة، ثم عقب ذلك بذكر الخوف والخشية، ولكنه لم يقل: فخفت عليها منه، أو خفت عليه منها، ولكن شملهما بالخوف عليهما من عدو خارجي هو الشيطان فقال: «فخفت عليهما الشيطان»، وهذا يذكرنا بالأسلوب اليوسفي عندما قال يوسف عليه السلام مجملاً ما جرى بينه وبين إخوته: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100]، ولم يقل من بعد أن فعل بي إخوتي كذا وكذا.

 

5- نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد باشر الإنكار على ابن عمه الفضل بهذا الأسلوب اللطيف الجميل، ولكن لم تذكر روايات الحديث أنه أنكر على الفتاة أو كلّمها بغير الإجابة عن سؤالها، مع أنها كانت تنظر كما كان الفضل ينظر، فهل تساءلت لماذا لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟

 

إن الجواب المتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر التأديب مع ابن عمه الفضل؛ لأن قرب الفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، وقرباه له؛ تجعله يحتمل ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بحفاوة ورضا، ولن يشعر وهو الشاب ذو القرب والقربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرج من ذلك. أما الفتاة الخثعمية فإن مهابة النبي صلى الله عليه وسلم تملأ نفسها، ولعل هذه أول مرة تلقاه وتتحدث إليه، فلو باشرها بالتأديب أو التوجيه لشعرت بحرج بالغ، وربما استعبرت باكية لرهافة مشاعر الفتاة وحيائها، ولذا اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم معها بالأسلوب غير المباشر، والذي تفهمه من توجيهه المباشر لابن عمه، وإشراكها في الخوف عليها يوم قال: «رأيت غلامًا شابًا، وجارية شابة؛ فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان».

 

وقد دل سؤالها بين يدي النبي على أن لديها من الفهم والذكاء ما يجعلها تفهم هذه الإشارة تمام الفهم، وتتمثلها غاية التمثُّل، فبأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمل وألطف وأبلغ تعليمه إذا علّم، وتأديبه إذا أدّب.

 

6- بقي أن نذكر ما في إرداف الفضل بن العباس من معنى جميل، وهو ما يظهر من قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الشباب، وإيلائهم الحفاوة والمكانة والاهتمام، وفي ذلك اختصار لفوارق السن، وتقوية التواصل بين الأجيال.

 

كما أن إردافه لابن عمه الفضل وهو أكبر أبناء عمه العباس برّ وإكرام بعمه العباس، وإنك لتشعر أن العباس وهو يقول: يا رسول الله لويْت عنق ابن عمك كان يعيش نشوة هذا الإكرام؛ فهو لم يقل لويْت عنق ابني، ولكن قال ابن عمك، وكأنما كان الشيخ يقول لكل مَن حوله: هذا رسول الله ابن أخي، وهذا رديفه ابني، وهذا مكاننا منه، وهذا برّه بنا.

 

لقد كانت هذه إحدى صور إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس، وبره به، وهو الذي كان يقول: «إنّ عمّ الرجل صنو أبيه».

 

عبد الوهاب بن ناصر الطريري

الأستاذ بكلية أصول الدين - سابقاً - والمشرف العلمي على موقع الإسلام اليوم