بمن تقتدي؟

منذ 2014-02-18

أن الناس مجبولون على حب التقليد والتأسي؛ ولهذا وجهنا الشرع الحنيف إلى التأسي بالصالحين، وعلى رأسهم أنبياء الله ورسله، فلما قص الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قصص بعض أنبيائه ورسله عقب بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام من الآية:90].

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

 

فإن الله تعالى لما خلق الناس ركز في فطرهم حُبَّ التأسي والاقتداء والتقليد، ومن رحمة الله تعالى بعبده أن يوفقه للتأسي بالأخيار الصالحين الذين يأخذون بيده إلى الله تعالى والجنة، وأن يجنبه التأسي بالفجار المارقين الذين في اتباعهم سلوك سبيل أصحاب الجحيم.

 

وقد اتفق أهل الرأي والنظر على أن فعل الرجل أكثر تأثيرًا فيمن حوله من الأقوال، وقد وجدنا ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما أمر الناس في الحديبية بالتحلل من عمرتهم، وحلق شعورهم؛ لم يستجب له أكثر الناس، حتى إنه خاف عليهم أن يهلكوا، فلما أشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها أن يقوم بحلق رأسه دون أن يكلم أحدًا؛ خرج إليهم فدعا الحلاق، وأمره أن يحلق له، فلما رآه الناس حلق قاموا جميعًا فحلقوا رؤوسهم اقتداء به صلى الله عليه وسلم.

 

ولما صلى النبي في خُفَّيه -وكان الصحابة خلفه على هذا الحال-، وجاءه جبريل عليه السلام يُخبِره أن بهما قَذرًا؛ فخلعهما الرسول صلى الله عليه وسلم، فخلع الصحابة خلفه خفافهم، وقالوا: "رأيناك خلعت فخلعنا..." الحديث.

 

الخلاصة:

 

أن الناس مجبولون على حب التقليد والتأسي؛ ولهذا وجهنا الشرع الحنيف إلى التأسي بالصالحين، وعلى رأسهم أنبياء الله ورسله، فلما قص الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قصص بعض أنبيائه ورسله عقب بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام من الآية:90].

 

وقال الله تعالى لعباده المؤمنين مبينًا لهم من يصلح للاقتداء به والتأسي: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:4-6].

 

ثم بيّن الله لعباده المؤمنين قدوتهم العظمى ومثلهم الأعلى فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

 

وانتبه أيها الحبيب فلا ينتفع بهذا ولا يجعل رسولَ الله قدوته وأسوته إلا من آمن بالله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرًا.

 

ولقد عَلِمَ الصحابة رضي الله عنهم هذه الحقيقة فحوّلوها واقعًا ملموسًا، وكان الواحد منهم يخرج من بيته فيقول: لأرمقن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم سائر اليوم؛ فينظر إلى صلاته طول اليوم ثم ينقل للأمة كلها خبر صلاته، ولما سأل بعضهم عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رجل طاف بالبيت، ولم يسع ما يحل له من امرأته؛ قال له: "طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت ثم صلى ركعتين خلف المقام، ثم طاف بالصفا والمروة ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"، لقد كان بوسع ابن عمر رضي الله عنهما أن يُبين للرجل ما يحل وما يحرم عليه حال الإحرام، لكنه فوق ذلك أراد أن يستقر في نفس الرجل معنى التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما أعظمه من درس!

 

وانظر إلى الصدّيق الأكبر أبي بكر رضي الله عنه الذي وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم متأسيًا به في كل شيء، ولم يعرف أنه خالفه في أمر أو نهي أو رأي:

 

- في الحديبية لما جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه مغضبًا يجادله في شروط الصلح التي يراها عمر جائرة، قال له أبو بكر رضي الله عنه: "أفأَخبرك أنك آتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، يا أيها الرجل الزم غرزه فإنه رسول الله، وليس يُخالِفه"، وتعجب حين تعلم أن هذه هي إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر حين ناقشه في أمر الصلح، والرجوع عن البيت.

 

- بعث أسامة رضي الله عنه "ما كنت لأحلَّ لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم": لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت المدينة في وضع حرج جدًا؛ فبعض العرب قد ارتدوا، وبعضهم منع الزكاة، والأعداء متربصون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته قد أعد جيشًا بقيادة أسامة بن زيد رضي الله عنهما لغزو الروم، فلما توفي صلى الله عليه وسلم واستشعر بعض الصحابة حرج الموقف أرسلوا إلى الصديق رسالة مع الفاروق عمر بعدم إنفاذ بعث أسامة، فكان جواب الصديق رضي الله عنه: "لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أردَّ قضاءً قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم".

 

فلما طلب عمر أن يؤمِّر عليهم رجلًا أسن من أسامة قال: "ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟".

 

لقد كان مفهوم التأسي والاقتداء أشد وضوحًا في نفوسهم من الشمس في وسط النهار، بل كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيونهم، وفوق رؤوسهم، وفي شغاف قلوبهم عن بريدة رضي الله عنه قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتًا فغاص بالناس -امتلأ- فجاء جرير بن عبد الله فلم يجد مكانًا فجلس خارج الدار، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه، وقذفه إليه ليجلس عليه، فأخذه جرير بن عبد الله فوضعه على وجهه وقبَّله".

 

ليست القدوة في اللاعبين والممثلين والراقصين فإنهم لا يصلحون قدوات.

 

ما هي القدوة في رجل كل مؤهلاته أنه يلعب؟!

 

وأين القدوة في امرأة كل مؤهلاتها التفنن في إبراز عوراتها، وإغراء الناس، وإغوائهم بمفاتنها؟

 

وحين يتخذ هؤلاء قدوة وأسوة فلا تعجب أن ترى في المجتمع ميوعة وانحلالًا وشذوذًا وفواحش، وهل يُجتنى من الشوك العنب؟

 

إن التنكُّب عن القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة؛ كان السبب في الضلال والكفر، ثم الهلاك للأمم السابقة، فحين دعاهم الأنبياء والمرسلون إلى الله تعالى والدار الآخرة كان شعارهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ . وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:22-23]، فماذا كانت العاقبة: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:25].

 

إن من اتخذ قدوة سيئة يتشبه به، ويفعل كما يفعل؛ سيندم أشد الندم لكن بعد فوات الأوان كحال هؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا . خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:64-67].

 

وحين يقتدي العبد بالفاسقين والمارقين فإنه ينبغي أن يحزنه ذلك، ويؤلمه كما تألَّم كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن غزوة تبوك فكان ينظر حوله في المدينة فلا يرى إلا رجلًا مغموصًا في النفاق، أو رجلًا قد عذره الله عز وجل.

 

فاللهم ارزقنا صِدق التأسي والاقتداء برسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.