قلبٌ منهكٌ
أنا لست محطمًا بالكامل، ولست ميتًا، ولكني متألم وبي جروح وأضرار جسيمة، وفقدت الشعور ببعض المناطق في داخلي، ربما هي ماتت أو انفصلت عني، الله أعلم.
اليوم: الأربعاء؛ التاريخ: 20.11.2013؛ الساعة: 16:47؛ المكان: عالمي من الداخل، قلبي.
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا لست محطمًا بالكامل، ولست ميتًا، ولكني متألم وبي جروح وأضرار جسيمة، وفقدت الشعور ببعض المناطق في داخلي، ربما هي ماتت أو انفصلت عني، الله أعلم.
في الآونة الأخيرة، منذ انتهاء رمضان ربما، أشعر بأني أناضل لأجل لا شيء، أشعر بأني أقاتل وأكافح في الفراغ، أشعر بأني نسيت الهدف، نسيت السبب، نسيت لماذا، أشعر بأني أتقدم وأمشي دون حراك، نعم للأسف، بكل صدق وعلى مضض أقولها، ربما، لا ليس ربما، قطعًا، قطعًا أنا نسيت الهدف، نسيت النية، انقطعت عن الإخلاص، وكم أشتاقه.
في السنة الماضية وفي مثل هذا اليوم، كنت مريضًا، كنت مريضًا بشكل فظيع.. و"ذات القلب المريض" (أنتِ) أفصحتْ عن الأمر بكل صدق وشفافية، كان في كلامها صدقًا وطهرًا وأسى لا أجده فيها الآن، ربما لهذا الأمر نسيت الهدف! كانت تعزم، كانت تريد بشدة، كانت مشتاقة، مشتاقة للقاء الحبيب، كانت متلهفة لتشعر بالأنس بقربه، كانت تحبه جدًا، كانت صادقة... رغم كل أمراضها، كل سيئاتها وخطاياها، كانت صادقة، وبعد أن تحسنت أمورها وصارت أفضل، ضاعت في نقطة ما، لا أدري أين ضاعت! لا أدري ماذا حصل لها بالضبط، ولكني لا أجد سوى كلام ربي ليجيب السؤال: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، لقد استزلها الشيطان، استزلها بشراسة، ولقد ضاعت مجددًا، ولكني لا زلت أشعر، هذا هو الفارق الوحيد.
أنا أتكلم الآن ولكن بصعوبة بالغة، النزيف مستمر، أنفاسي تتقطع، صوت استغاثتي يكاد لا يبلغ حنجرتي، ولكن لا بأس سأكمل، سأذكّرها بالسبب، سأذكّرها بالهدف، سأذكّرها بالذي ينتظرنا، سأهمس لها سأصرخ بوجهها، سأستصرخها، ولكن لن أتركها بإذن الله... سوف أفعل، بعد أن تصلي المغرب قومي، هيا.
من المضحك، لا بل من المبكي، كيف أن وقتًا طويلاً يمر حتى تصل الصلاة؛ لم أر في حياتي شخصًا أبرع منها في الممطالة، شخصًا أكسل منها، شخصًا أقل إخلاصًا منها. ثم إذا ما وصلت الصلاة، ووقفت هي، لم تلقِ لي بالاً، لم تلتفت إليّ، تتركني، تتكلم وتتحدث دون أن تمرر الكلام إليّ، تسبح وتحمد وتكبر دون أن أسمع أنا، دون أن تسمع هي حتى.
تقتلني هي، إذا ما وقفت بين يدي بارئها لتعبده وتؤدي فرضها أمامه ثم لا تؤده بالشكل اللائق، تقتلني بكذبها، بوقاحتها، بزيفها، تقتلني وتمزقني، دون أن تشعر. عجبًا لها! كيف تقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وهي تبحث عن مفاتيح الفرج في طريق غير طريقه، ولكنه يشبه طريقه، كيف تخدع نفسها ثم تحاول هي بدورها أن تخدعه؟ حاشى لله أن يُخدع! الله أكبر! الله أكبر! عجبًا لها، سحقًا لها، كيف تستعين بغيره؟ كيف تطلب العون من غيره؟ كيف تيأس والله جل جلاله ينزل في كل ليلة نزولاً يليق بعظمته وجلاله إلى السماء الدنيا وينادي عليها؟ كيف تيأس وقد أمرها بألا تقنط؟ كيف تضع فيّ آيات القرآن وتزيّنني بها ثم تتركها للغبار والتلف؟! كيف؟ عجبًا لها ماذا أصابها؟ كيف تتركني هكذا؟ كيف تنسى أن تُشربني مائي العذب الحلو؟ لا تنسى هي، أبدًا لم تنس، هي تتناسى! ما أقساها عليّ، ما أقساها، كيف تتركني جافًّا دون القرآن؟ كيف تتركني أذبل كل يوم دون أن تسقيني، وفي ذات الوقت تتابكى وتتظاهر بالحزن لعدم سير أمورها بالشكل الذي تريد. طبعًا لن تسير أمورها بالشكل الذي تريد، طالما مرادها للعبادة ليس إلا لتشعر بالرضا تجاه نفسها -وما أمرّها من حقيقة، وما أصعبه من اعتراف!- لا لترضي ربها، ما أغباها!
ها أنا ذا قد كشفت الحقيقة، السبب لم يُنسى، الهدف لم يتبخر، ولكن كل شيء تبدل، تبدل إلى ما لا يستطيع عقل أن ينكره أو يتجاهله، هي تسعى لكل ما تسعى إليه، وتجبرني على الكفاح لا لله ولكن لها، لا أجد تفسيرًا لتصرفاتها هذه إلا هذا... يا الله تب عليها، يا الله تب عليها، يا ربي لقد استزلها الشيطان فاغفر لها، اغفر لها... سامحها يا الله، سامحها يا رحمن، سامحها يا غفور يا ودود.
الحمد لله الذي أنعم عليّ بنعمة البصر، وإن كان ضعيفًا، وإن كنتُ بلا نظارة، ولكني لا زلت أرى، الرؤية غير واضحة ولكني أعي ما أرى، أشعر بما أرى، الحمد لله الذي أبقى فيّ شرشاً ينبض، الحمد لله الذي لم يُمتني رغم كل ما اقترفت يداها، الحمد لله الذي منّ عليّ بشفاء جزئيّ بعد الغيبوبة التي كنت فيها، الحمد لله الذي رزقني الإحساس بالمرارة، الحمد لله الذي لم يقطع آخر خيط بيني وبينه، الحمد لله الذي لا زال يريني الطريق، الحمد لله الذي لم يكلني لها كل الوكل، وإلا فقد كانت لتقتلني وتقطعني أشلاء، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله حمدًا يليق بوجهه وجلالته وعظيم سلطانه الحمد لله.
والآن، أخاطبكِ، لن أتكلم عنكِ بعد الآن، سأتكلم معكِ وستسمعين، ستسمعين وتصغين، أتذكرين في الصغر ماذا كان حلمنا؟ أتذكرين حين كنتِ تخففين حملي بكلمات بنكهة المستقبل؟ أتذكرين تذكيرك لي بما ينتظر؟ أتذكرين ماذا كنا نريد، أتذكرين؟ كيف تقولين نعم والبادي منكِ يقول: "لا"، يصرخ ب"لا"، يُصّر على الـ(لا).
في صغرنا يا نفس، كنا نطمح لأن ننفض عن أنفسنا غبار الماضي وقد بدأنا فعلاً، وقد نهضنا ومشينا بفضل الله، كانت أسمى أمانيكِ هي أن تري الله، كم كنتِ تشوّقيني لهذه اللحظة! كم كانت دافعًا لك في الصغر! كنتِ توّجهيني إلى القبلة وتُصرّي على أن أسمع ما تخاطبين به رب العالمين، وكنت أسمع، كنت أسمع واللذة تغمرني، والطمأنينة تعمرني، والحب واللهفة يزدادان فيّ، كنتِ تغسلينني كل ليلة بدمع عينيكِ الطاهر، كنتِ على صلة معه، كنتِ تحبينه، وقد أحببته، أحببته جدًا.
لم أشعر بأنسٍ يومًا إلا بقربه، فلماذا الجفاء؟ لماذا البعد؟ إلى أين أنتِ ذاهبة الآن؟ أما تدرين أن كل خطو نحو غير الآخرة زائل؟ أما تدرين أن كل وجهة مرامة سوى الجنة، باطلة؟! بلى تدرين، كيف لا تدرين وقد كنتِ كل يوم تزودينني بهذا الكلام، كنتِ كل يومٍ تزيدين حملي وتضاعفينه، كنتِ كل يوم تضعي على ظهري المزيد من الزاد، أرغمتني على تنظيف الأشلاء المتحطمة الباقية إثر رحيل الآخرين، أجبرتني على تبييض البقع القذرة، أجبرتي على حمل آياتٍ عزيزة من كتاب الله،
أجبرتني على الانصياع لله عند الوقوف بين يديه، أجبرتني رغم كل ضعفي ووهني، كيف لا وكل ما حملتُ كان بمثابة دواء لي، أتجرعه كلما أذنتِ أنت!
ولكنكِ لا تحبين المرارة، لا تحبين المضض، فأحملتني ما أحملتني، وظل على ظهري، وازداد مرضي، ولم ينفعني! لم ينفعني أي شيء حشوتهِ في داخلي، لم ينفعني بل ازداد مرضي وازداد سعالي، وازداد الجفاف والجوع في أرجائي، وهاجرت الطيور عن أوطاني، فالقحط قد حلّ قبل الربيع، وتُراني اليوم أنا الذي أحاول جبركِ على تجرع الدواء، خذيه أنتِ واشربيه، خذيه عن ظهري ولكن اشربيه! تجرعيه! أنا بخير أصلاً! أنتِ التي تظنين بأني شرير، رغم أن الشر لا يسكن أحدا إلاك، لولا الحياة التي لا تزال تُبثّ في داخلي برحمة من الله لما كنتِ تسمعينني الآن، فما بالك اليوم؟ وإلى أين أنتِ ذاهبة؟!
إن كنتِ تسعين لإرضائي؛ فقد ضللتِ الطريق، فما أنت بمرضية إياي ولا مرضية رب العالمين، وإن كنت حقًا تسعين لهذا كما تزعمين، فأين أنتِ عني أصلا! أنتِ تركتيني منذ فترة طويلة وأهملتِ الاعتناء بي، وفي ذات الوقت تسعين للحصول على رضاي؟ يا للتناقض، يا للغباء، يا للحماقة!
أرأيتِ يا نفس؟ أرأيت، من يسعى نحو رضا غير رضا الله لا بد أن يضل، لا بد أن يضيع، لا بد أن تختلط الأمور عليه، لا بد أن يمرض، لا بد أن يصاب بالشلل! وها أنا ذا أنظر إليكِ الآن، نظرة شفقة على ما وضعتِ فيه نفسك، نظرة شفقة لما فرطّتِ في جنب الله، نظرة احتقار لما حرمتيني من الأنس والخشوع والحياة، نظرة كرهٍ لأني معكِ هاهنا، مريضٌ أيضا، وقد أموت قبلك وأنتِ تعيشين، ولكن لا بأس، لا أريد للكُره أن يتأصل فيّ أكثر مما هو متأصل، فالكره الذي فيّ يكفيني بل ويقتلني، والنور الذي سُلبت حلّ مكانه ظلامٌ مدلهم وسواد حالك، والله المستعان.
لا أخفي عليك أني مرتاح قليلاً، فأعراض المرض أخف من السنة الماضية وأسأل الله أن تختفي هذه الأعراض مع مرور هذه السنة، فقومي أرجوكِ قومي، قومي قبل أن أموت، قبل أن تنفذ البطارية تمام النفاذ، وقبل أن ينتهي مخزون إيماني، دعيني يا نفسي الطاغية، أوّضح لك بعضا مما تناسيتِ حضرتك:
· نحن في هذه الدنيا نعيش لنعبد الله، لنتقرب منه، لنسعى لرضاه، لنسعى لكسب أكبر قدر من الحسنات، علَّ الميزان يرجح على كفة الحسنات ويغلب كفة السيئات.
· نحن في كل صباح نستيقظ لنقابل الله ونقف بين يديه ونتضرع إليه، ونسأله الهداية والرضا والغفران، ويستمر اليوم؛ خمس وقفاتٍ في اليوم، أحسنيهم أحسن الله إليكِ أحسنيهم! خمس وقفات باليوم، اجعلي لهم أثرًا في داخلي!، مرري ما تقولين عليّ، أسمعيني! أزيلي هذا الحجاب عني، أزيلي هذا الغشاء وانزعيه! أسمعيني كما كنتِ قبلُ تسمعيني.
· نحن نحفظ كلام الله، لأن اختبارًا ينتظرك، لا ليس الاختبار القطري، إنما اختبار اقرأ وارتق، فإما تنجحين، وتدرسين جيدًا، وإما الثبور والويل والسعير.
· نحن نذهب إلى المدرسة لنتعلم العلم الذي يعين على نصر الأمة، والأمة منتصرة بك وبدونك ولكنك أنتِ المحتاجة للعمل لها، وإلا ندمتِ يوم لا ينفع الندم!
· كتاب الله هو الحبل الذي يصلك به، وبه تأنسين بالله وبتلاوته أطمئن، كتاب الله هو صديقك في قبرك، ففي كل لقاء معه في الدنيا يزداد الاحتمال بأن يزورك في قبرك! كتاب الله هو من سيدافع عنك يوم تشهد عليك أعضاؤك، هو من سيطلب من الله أن يسامحك، هو من سيتجرأ، أما أنتِ فتسقفين بلا حيلة، بلا كلمة بلا عذر بلا حجة بلا وسيلة، وستعضين الأنامل على كل ثانية ذهبت من عمرك سُدى، ستندمين!
· لا مراد لنا في هذه الدنيا إلا السعي نحو الله والسير على الطريق المؤدي إلا رضاه، علّه يتغمدنا برحمته يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
· لا نريد من الناس سوى دعوتهم إلى الله، عسى الله أن يهدي بك أحدًا، فيكون لك نصيب من حسن صنيعه.
· لا أريد منك المرض والفتور والضعف والموت! أنتِ حيّة! وُلدتِ مسلمةً فعيشي كواحدة! ولا تكوني كاللواتي نسين الله فأنساهن أنفسهن، أولئك هن الخاسرات.
· انطلقي، إلى الجنة انطلقي، على طريق الله هرولي، عسى الله أن يهديكِ، ويرحمكِ ويغفر لكِ إسرافكِ في أمركِ، انطلقي...
آية سليم
كاتبة إسلامية
- التصنيف: