إنها الجنة

منذ 2014-02-26

«والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذِّكر، لصافحتْكم الملائكةُ على فُرشِكم وفي طرقِكم. ولكن، يا حنظلةُ! ساعةٌ وساعةٌ ثلاثَ مراتٍ»


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فعن حنظلة رضي الله عنه قال: لقِيني أبو بكرٍ فقال: كيف أنت يا حنظلةُ؟! قلت: نافق حنظلةُ. قال: سبحان اللهِ! ما تقول؟ قلتُ: نكون عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. يُذكِّرنا بالنار والجنةِ. حتى كأنا رأي عَينٍ. فإذا خرجنا من عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، عافَسْنا الأزواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ. فنسِينا كثيرًا. قال أبو بكرٍ: فواللهِ إنا لنلقى مثل هذا! فانطلقتُ أنا وأبو بكرٍ، حتى دخلْنا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. قلتُ: نافق حنظلةُ يا رسولَ اللهِ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وما ذاك؟» قلتُ: يا رسولَ اللهِ! نكون عندك، تُذكِّرُنا بالنارِ والجنةِ. حتى كأنا رأى عَينٍ. فإذا خرجْنا من عندِك، عافَسْنا الأزواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ. نسينا كثيرًا. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذِّكر، لصافحتْكم الملائكةُ على فُرشِكم وفي طرقِكم. ولكن، يا حنظلةُ! ساعةٌ وساعةٌ ثلاثَ مراتٍ» (رواه مسلم).

فانظر كيف أن الصحابي الجليل حنظلة رضي الله عنه يخبر أنهم حين يسمعون حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة فكأنهم يرونها، ولعل هذا ما يفسر استهانتهم بأي شيء من حطام الدنيا إذا كان الثمن الجنة. لقد استشعر الصحابة رضي الله عنهم غلو السلعة المعروضة عليهم فبذلوا في سبيلها النفوس والأموال والأوقات والراحة، وآثروا هذه الجنة على كل شيء.

ولهذا فإن من أهم أدوية القلوب وأسباب إزالة الغفلة عنها التذكير بالجنة ونعيمها، وهذا هو المسلك الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وهذا ما أخبرت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين قالت: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده".

وقد وجدنا أثر هذه التربية في حياة الصحابة رضي الله عنهم، فحين تنظر إلى ربيعة بن كعب الأسلمي وهو شاب يبلغ ثمانية عشر عاما، لا يجد ما يؤيه سوى مسجد الرسول وليس عنده من الدنيا شيء فقد كان من أهل الصُّفة وهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم: «سلني. فقال: مرافقتَكَ في الجنَّةِ، قالَ: أوَ غيرَ ذلِكَ". قال: هوَ ذاكَ، قالَ: فأعنِّي على نفسِكَ بِكثرةِ السُّجودِ» (مسلم: 489).

أتصور لو إنسانا آخر في مثل حال هذا الشاب لطلب شيئا من الدنيا كبيت أو زوجة أو وظيفة، لكنه تفكر فوجد أن الجنة لا يعدلها شيء وهي باقية لا تفنى، وهل هذا إلا نتاج تربية؟ ثم انظر إلى هذه المرأة التي كانت تصرع فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «إني أُصْرَعُ، وإني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ لي، قال: إن شِئتِ صبرتِ ولك الجنَّةُ، وإن شِئتِ دعَوتُ اللهَ أن يُعافيَكِ. فقالتْ: أصبِرُ، فقالتْ: إني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ أنْ لا أتَكَشَّفَ، فدَعا لها» (البخاري: 5652). فعند المقارنة بين الجنة وغيرها لا يوجد مجال للتفكير ولا للمقارنة فالاختيار هو الجنة.

بل انظر إلى أصحاب بيعة العقبة الثانية حين اشترط عليهم النبي صلى الله عليه وسلم شروطا شديدة حيث قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «تبايعُوني على السَّمعِ والطاعةِ في النَّشاطِ والكسلِ والنفقةِ في العُسرِ واليُسرِ، وعلى الأمرِ بالمعروف والنهي عنِ المنكرِ، وأن تقولوا في اللهِ لا تخافون في اللهِ لومةَ لائمٍ، وعلى أن تنصُروني فتمنعُوني إذا قدمتُ عليكم مما تمنعون منه أنفسَكم وأزواجَكم وأبناءَكم ولكم الجنَّةُ»، فقاموا إليه فبايعوه وأخذ بيده أسعدُ بنُ زُرارةَ وهو من أصغرِهم فقال: رُويدًا يا أهلَ يثربَ فإنا لم نضربْ أكبادَ الإبلِ إلا ونحن نعلمُ أنه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأنَّ إخراجَه اليومَ مفارقةُ العربِ كافَّةً، وقتلُ خيارِكم، وأنْ تعضَّكم السُّيوفُ، فإما أنتم قومٌ تصبرون على ذلك وأجرُكم على اللهِ، وإما أنتم قومٌ تخافون من أنفسِكم جبينةً فبيِّنوا ذلك فهو عذرٌ لكم عند اللهِ، قالوا: أمِطْ عنا يا أسعدُ ؛ فواللهِ لا ندعُ هذه البيعةَ أبدًا ولا نُسلبَها أبدًا، فقاموا إليه فبايعوه فأخذ عليهم وشرطَ ويُعطيهم على ذلك الجنةَ (السلسلة الصحيحة: 1/133).

وانظر إلى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وهو ذاهب للقتال في سبيل الله تعالى، ماذا يريد؟ وبماذا يرد على الناس حين قالوا له ولمن معه من الجيش‏:‏ صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين؟ فقال عبدالله بن رواحة ‏:‏

لكنني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة *** بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي *** أرشده الله من غاز وقد رشدا

ولما تولى إمرة الجيش عقر ناقته وقاتل حتى قتل وكان يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة وبارد شرابها


وانظر إلى عمير بن الحمام رضي الله عنه حين كان في الصف يوم بدر والنبي صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على القتال ويقول: «قوموا إلى جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ. فيقول عُمَيرُ بنُ الحمامِ الأنصاريُّ: يا رسولَ اللهِ! جنةٌ عرضُها السماواتُ والأرضُ؟ قال: نعم. قال: بخٍ بخٍ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما يحملك على قولِك بخٍ بخٍ؟ قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ إلاَّ رجاءةَ أن أكون من أهلِها. قال: فإنك من أهلِها. فأخرج تمراتٍ من قرنِه (أي جيبه). فجعل يأكل منهنَّ. ثم قال: لئن أنا حَييتُ حتى آكلَ تمراتي هذه، إنها لحياةٌ طويلةٌ. فرمى بما كان معه من التمرِ. ثم قاتل حتى قُتِلِ» (مسلم: 1901). فحين يسمعون عن الجنة لا يصبرون بل يبذلون كل ما يستطيعون للفوز بها.

وعجيب أمر أبي الدحداح رضي الله عنه وأمر زوجته فقد تعلقوا بالجنة تعلقا عجيبا يدل عليه ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه حين قال: «إنَّ رجلًا قال يا رسولَ اللهِ إنَّ لفلانٍ نخلةً وأنا أُقيمُ نخلي بها فمُرْه أن يعطيَني إياها حتى أُقيم حائطي بها، فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أَعْطِها إياه بنخلةٍ في الجنةِ. فأبى، وأتاه أبو الدَّحداحِ فقال: بِعْني نخلَك بحائطي (أي بستانه) قال: ففعل، قال: فأتى النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ إني قد ابتعتُ النخلةَ بحائطي فاجعلْها له فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: كم من عَذقٍ دوَّاحٍ لأبي الدَّحداحِ في الجنةِ، مِرارًا، فأتى امرأتَه فقال: يا أمَّ الدَّحداحِ اخرُجي من الحائطِ فإني بعتُه بنخلةٍ في الجنةِ فقالت: قد ربحتِ البيعُ أو كلمةً نحوها» (السلسلة الصحيحة: 6/1131).
وبستان أبي الدحداح كان به ستمائة نخلة بذلها كلها في مقابل نخلة في الجنة، ورضيت بذلك امرأته واعتبرته بيعا رابحا وهو كذلك.

إنهم حين يجدون طريقا موصلا إلى الجنة التي تعلقت بها قلوبهم فإنهم يتسابقون ولا يتأخرون. انظر لما ندب رسول الله المسلمين إلى الخروج إلى عير قريش فأسرعوا، قال خيثمة بن الحارث لابنه سعد: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فآثرني بالخروج وأقم مع نسائك، فأبى سعد وقال: لو كان غير الجنة آثرتك به؛ إني أرجو الشهادة في وجهي هذا، فاستهما فخرج سهم سعد فخرج مع رسول الله إلى غزوة بدر فاستشهد يومئذ.

أيها الحبيب إن الأمثلة كثيرة جدا وإنما أردنا فقط الإشارة إلى شدة تعلهم بالجنة وبذلهم في سبيل الفوز بها النفس والولد والمال. فهل يشتاق قلبك إلى الجنة؟ وهل يحن إليها؟ وهل تؤثر أمر الله على هوى نفسك طلبا للجنة؟ وهل تقيم الفرائض وتجنب النواهي والمحرمات طمعا في الجنة؟ أخي كيف تعلقك بالجنة وماذا تعلم عن نعيمها؟

نسأل الله الكريم أن يرزقنا الجنة بغير سابقة حساب ولا عذاب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.